تُعدّ التربية البيئيّة بوّابة تنمية الوعي البيئيّ للأفراد والمجتمعات، إذ يدرك الإنسان من خلالها العلاقة بينه وبين محيطه، ويدرك تفاعلات هذه العلاقة وآثارها. إلّا أنّنا بوصفنا تربويّين مهتمّين بالتربية البيئيّة نكاد نجزم أنّ هذه العلاقة بين الإنسان ومحيطه ما زالت في مستواها الإدراكيّ في مدارسنا وفي أدبيّاتنا البحثيّة، ولم ترقَ بعدُ إلى أن تكون علاقةً سلوكيّةً معرفيّةً إجرائيّةً.
المناهج التربويّة المحدَّثة لا تخلو من مفاهيم ومصطلحات تتعلّق بالبيئة والإنسان، لكنّ تلك المفاهيم والمصطلحات لا تعدو أن تكون معلومات يسترجعها الطالب لنيل العلامات. المراد الحقيقيّ من التربية البيئيّة أن تربّيَ إنسانًا يحافظ على بيئته بسلوك واعٍ.
لعلّ ضعف نجاعة برامج التربية البيئيّة في التعليم يعود إلى عدة أسباب، منها:
- عدم وجود معلّم مؤهّل معرفيًّا ووجدانيًّا لقيادة التربية البيئيّة، إذ يتطلب المحتوى معارف متشابكةً واستراتيجيّة تعليم نشط يتجاوز التلقين والمحفوظات.
- ظروف الاكتظاظ في المدارس، وعدم وجود فرصة لنقل المعارف النظريّة إلى حيّز الفعل.
- غياب موازنة حقيقيّة لجعل التربية البيئيّة أمرًا إجرائيًّا في المدرسة، على الأقل توفير الوسائل العلميّة الضروريّة لتقريب المفاهيم.
- غياب سياسة واضحة تشجّع المدارس الخضراء.
- غياب نماذج ناجحة استثمرت في التربية البيئيّة، وأنتجت مشاريع خضراء، في مجال العلوم أو ريادة الأعمال.
أمام هذه الأسباب وغيرها، يجد التربويّ المتحمّس لواقع أفضل نفسَه ملزمًا أن يتجاوز مرحلة الانتقاد إلى المبادرة. لذا، وجب تفعيل ما نملك من زاد معرفيّ لخلق فرصة للتكيّف والتقدّم لتقديم بدائل تستغلّ ما هو متاح توصّلا إلى ما هو مطلوب.
المناهج التربويّة المحدَّثة لا تخلو من مفاهيم ومصطلحات تتعلّق بالبيئة والإنسان، لكنّ تلك المفاهيم والمصطلحات لا تعدو أن تكون معلومات يسترجعها الطالب لنيل العلامات
سياق التجربة
بدأت "النوادي الخضر" تشيع في مدارسنا، وقد كنتُ جزءًا من تجربتين مع المنتدى العربي للبيئة والتنمية؛ أولاهما في 2010، وكانت حول تفعيل التربية البيئيّة عبر الأنشطة في مسابقة لترشيد استهلاك المياه في المدارس، والأخرى في 2013، وكانت مسابقة لإنشاء صفحة في "فيسبوك" على منوال دليل التربية البيئيّة.
أفضت التجربة الثانية إلى إصدار دليل بعنوان "كيف تؤسّس مشروعا بيئيًّا مدرسيًّا؟"، وإلى تدريب أكثر من 20 مدرسة عبر الوطن العربيّ في دورات مختلفة. وقد أضاف إلى حماسنا أنّنا حزنا مركز الصدارة في المرّتين. وبعد ذلك، تبيّن لي أنّه يجب علينا توسيع دائرة التربية البيئيّة في سبيل استدامة الأثر، ما يحدوني اليوم إلى عرض فكرة الحديقة البيداغوجيّة، وهي مشروع أقدّمه من رحم التجربة الميدانيّة، مع أنّه في بدايته، ليكون وسيلة لتفعيل التربية البيئيّة واستدامة ممارساتها، ونقلها من النظريّة إلى الإجراء.
في هذا التصوّر كفايات مستهدفة مبنيّة على معارف وأبحاث، وهي تتمتّع بقابليّة التحيين والتطوير، غير أنّني تجاوزتُ الأبحاث النظريّة حولها، وركّزت على التدخّل الإجرائيّ الذي يجيب عن سؤالين: ماذا؟ ولماذا؟
الحديقة البيداغوجيّة
من نحن؟
الحديقة البيداغوجيّة هي فضاء طبيعيّ مفتوح للتعلّم والتثقيف يعتمد الملاحظة والمشاهدة والممارسة وعيش التجربة الشخصيّة في التّماسّ مع الطبيعة، ويهدف إلى تنمية مهارات حبّ الاطّلاع والاستكشاف والتفكير الاستراتيجيّ الساعي إلى التنمية المستديمة عبر التفكير في الطبيعة وربطها بالحياة المعاصرة. وذلك، من خلال ورشات تكوين وتدريب ومرافقة موجّهة لشرائح عمريّة مختلفة (الأطفال وطلّاب المدارس وطلّاب التكوين المهنيّ/ الجمعيّات/الفرق التربويّة...).
تقع الحديقة المثال لهذا التصوّر في مدينة مسعد بالجزائر، على مساحة صغيرة تبلغ قرابة 1000م ² مصمّمة لاستيعاب أفكار كثيرة. الحديقة في بدايتها، وقد تجاوزت مرحلة شراء العقار وتسويره وتصميم شكله، وهي في مرحلة التشجير، حيث تجمع بين أشجار مثمرة وحرجيّة، وتحتها نباتات طبيّة وعطريّة ونباتات للزينة. تستوعب في الزيارة الواحدة فوجًا من 10 إلى 13 طالبا، ويكون ذلك بموعد مسبق مع إدارة الحديقة لتحديد أهداف الزيارة ليتمّ تحضير المقاربات المناسبة لها.
أدير الحديقة بنفسي، وهي نتاج خبرة ميدانيّة في التربية والتعليم، وتمثّل مبادرة شخصيّة لوضع اليد على ما لم تستطع المدرسة الوصول إليه، ولو بإمكانات بسيطة، فبدل أن نلعن الظلام نبادر بإيقاد شمعة. ونأمل أن نشارككم قريبا نشاطاتها البيداغوجيّة بالصور والفيديو تحت ظل أشجارها وبين أوراق نباتاتها وفي أحضان مرافقها مع جيل المستقبل.
الرؤية
حديقة بيئيّة نموذجيّة تحقّق مبدأ التنمية المستديمة، وتقدّم مرجعًا علميًّا تثقيفيًّا في المدينة. تنشر مقاربة جديدة في التعليم الجيّد، وتساهم في صياغة إجرائيّة لمعارف مدرسيّة: التربية البيئيّة، والعلوم الطبيعيّة، والمهارات الحياتيّة.
المنطلقات
- نؤمن أنّ المدرسة وحدها لا تكفي لتكون مصدرّا وحيدّا للتعلّم.
- نؤمن أنّ التعليم الجيّد يقرن النظريّ بالتطبيقيّ، ويوسّع موارد التعلّم الصفّيّ واللّاصفّيّ.
- نؤمن أنّ مواطن القرن الحادي والعشرين بحاجة إلى مهارات حياتيّة أساسيّة لا يمكن تلقينها نظريًّا.
- نؤمن أنّ العودة إلى الطبيعة بأسلوب علميّ ضرورة حتميّة.
- نؤمن أنّ الطبيعة مورد ثرّ للتعلّم بالكفايات العَرَضيّة.
- نؤمن أنّ الطبيعة فضاء للتعلّم المفعم بالحيويّة والنشاط.
- نؤمن أنّ الأفكار الكبيرة تبدأ في مساحات صغيرة وبإمكانات بسيطة أحيانًا.
الوسائل
- ورشات تكوين وتدريب:
- دورات تكوينيّة لطلّاب المدارس (فلّاح المستقبل/ بستانيّ المستقبل)
- دورات تكوينيّة للطواقم المدرسيّة (أساتذة ومشرفين)
- فنّ تزيين المنازل والمساحات بالنباتات
- تطعيم النباتات والأشجار
- صناعة السماد الطبيعيّ
- صناعة هرمون التجذير الطبيعيّ
- تكثير النباتات بأنواعها
- الزراعة المنزليّة
- الزراعة المائيّة
- تربية النحل
- صناعة الغذاء الطبيعيّ والبدائل الغذائيّة الطبيعيّة
- استضافات: تستضيف الحديقة دوريًّا شركاء جددًا من أصحاب الابتكارات الخضراء لتقديم عروض وورش ومرافقة. لدينا شبكة من العلاقات مع محترفين في مجال الزراعة والبيئة يمكن الاستعانة بخبراتهم في مواعيد مبرمجة.
- زيارات ميدانية: تستقبل الحديقة كلّ من يرغب في التعلّم والتثقيف في مجال الطبيعة والحياة كالرحلات الميدانيّة لطلّاب المدارس.
- نمذجة: تقديم نموذج في التكامل الوظيفيّ والتنمية المستديمة تتكامل كلّ عناصرها وظيفيًّا. وتقديم نموذج واقعيّ في الاعتماد على الطاقة الشمسيّة، وترشيد استهلاك المياه، وفنّ إدارة الفراغ والمكان.
- مختبرات: توفير مختبرات صغيرة مجاهر ومكبّرات تعليميّة، والتوجّه نحو المختبرات البديلة. وتوفير محطّات قياس سرعة الرياح واتّجاهها، وقياس الضغط والحرارة، ونسبة الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون، وحموضة الأرض (PH). وتعليم استخدام البوصلة.
- مكتبة: توفير مكتبة خضراء تشمل مصادر ورقيّةً ومرئيّةً ووسائل تعليميّةً حول مستجدّات الاقتصاد الأخضر والتنمية المستديمة.
- نماذج تقنيّة: الريّ المؤتمت، والتطبيقات الإلكترونيّة الزراعيّة.
- مستنبت: نوفّر مستنبتا لنباتات الزينة والورود وغيرها من نباتات الزراعة المنزليّة.
- مساحة لعب: أنشطة مختلفة للتسلية والتخييم وأسلوب الحياة القريب من الطبيعة، وفرصة لملامسة التراب.
- متجر للوازم العناية بالنباتات.
- معرض تراثيّ دائم للأدوات التقليديّة.
- تربية حيوانات: دجاج بيّاض، سمّان، حمام، أرانب.
- منحلة صغيرة.
- مشروبات ومأكولات صحيّة للزوّار.
- عتاد فلاحيّ صغير للعب الأدوار .
مقاربات بيداغوجيّة مقترحة
- مقاربة التطبيق والعمل الميدانيّ: تعتمد هذه المقاربة على دمج بين التعليم النظريّ والتعليم التطبيقيّ، إذ يتلقّى الطلّاب معارف نظريّةً ويتوّجونها بتطبيقات عمليّة على التراب والنبات والأشجار.
- مقاربة اللعب والتسلية: التعلّم باللعب، مثلًا: لعبة تحدّي التعرّف على النباتات العطريّة بحاسّة مختلفة كل مرّة. وهي لعبة تمثّل نشاطا ممتعا حتّى في الصفّ.
- مقاربة الممارسة العلميّة: مثلًا، جلب حفنة تراب ووضعها تحت مجهر الكترونيّ يسمح برؤية كائنات حيّة لا يتخيّل الطفل وجودها. وقد جربّت هذه المقاربة، ولاقت شغفًا كبيرًا من الطلبة. أو تجربة رصد الحشرات والطيور عن طريق مراقبة سلوكها، ومحاولة فهم بعض جوانب حياتها. أو رصد النجوم. وكلّ ذلك يتمّ في بيئة توفّر اللازم من تقنيّات وبنية تحتيّة.
- مقاربة الفنّ والخيال: نعتمد على ورشات الرسم وإعادة التدوير، منطلقين من فكرة أنّ المدرسة التي لا تحرّك اليد لا تحرّك العقل.
- مقاربة تاريخيّة وجغرافيّة: جمع الموروث الشعبي لمنطقتنا حول الأرض وتوظيفه مع الطلبة، مثل: الحفاظ على البذور الأصلية، ومهارات العيش، وقيم التعلق بالأرض وإعمارها، وتاريخ الشعوب في علاقتها بأراضها، والفنون المتعلقة بذلك.
- مقاربة التعبير: إثراء معجم الطلبة باستخدام التسميات العربيّة الفصيحة لوصف مفردات الحياة الفلاحيّة والعلميّة، وربما لاحقًا نضيف اللغة الإنجليزيّة. وهذا مهمّ للتعبير الشفويّ والكتابيّ، وكتابة التأمّلات التي ترسّخ التعلّم الذي حدث في أثناء الزيارة.
سنوفّر أدلّةً مطبوعةً لهذه المقاربات وغيرها، يفيد منها غيرنا حسب اتّفاقات مع المشرفين على كلّ فوج. وهي مقاربات تساند الكثير من المحتوى التعليميّ المعمول به أصلًا في المدرسة، فتكون الحديقة مرفقًا مساندًا للعمليّة التعليميّة، سواءً في التعليم الخاصّ أو العامّ. والحديقة معدّة لتكون جاهزةً في أي وقت بناءً على طلب المشرفين أو الأهالي أو منظّمات العمل المجتمعيّ.
خاتمة
الحديقة البيداغوجيّة بقدر ماهي فضاء تعليميّ جاذب بمقاربته التفاعليّة، فهي أيضًا تفتح باب ريادة الأعمال في مجال التعليم من خلال الصناعات الإبداعيّة والابتكار، فضلًا عن تحقيقها تنمية مستديمة تتّسق وتطلّعات التعليم المستقبليّ.
إنّنا كما نرى الكائنات الحيّة في الطبيعة تتكاثر وتنتشر، نطمح أن تنتشر فكرة الحديقة البيداغوجيّة في أنحاء الوطن العربيّ. وهذا هو الدافع الأساسيّ لمشاركة هذا التصوّر الأوّليّ، وربّما تعاونت الحدائق البيداغوجيّة فيما بينها، وتشاركت المصادر، والتجارب والخبرات. وقد حاولت في هذه المقالة تقديم ركائز يمكن للمبادرين من الوطن العربيّ البناء عليها، كلٌّ حسب ظروفه وإمكاناته وحاجات المنطقة التي ينشط فيها، فالطبيعة أيضًا تعلّمنا التكيّف.
إنّ تجاوز التلقين في مجال من مجالات التعليم، سيكون حافزًا لأهل الاختصاصات التعليميّة الأخرى لابتكار أفكار ومشاريع جديدة من شأنها أن تعطي صيغة إجرائيّة للتعليم في كلّ حقل.