كلّ فرد يولد ولديه الحقّ في التعليم. وللتعليم أشكال تنوّعت منذ القدم، كان أغلبها، خصوصًا في المرحلة الابتدائيّة، يعتمد على أن يصبّ العلم صبًّا بطريقة متناثرة في عقل الطالب، في اعتقاد سائد أن عقل الطالب، في المرحلة الأساسيّة على الأقلّ، يمثّل وعاءً فارغًا تُفرَّغ فيه المعلومات، مع إهمال أنّ هذا الوعاء إذا ما امتلأ فاض وانسكب، فتهدر بذلك المعرفة.
قد تكون تلك الطرق في وقتها ناجحة. أمّا في عصرنا الحاليّ، عصر تزايد المعلومات، فكان لزامًا على علماء التربية إيجاد طرقٍ أحدث لتطوير قدرات العقل على استقبال طوفان المعلومات وفهمه، والذي يتدفّق عليه يوميًّا، وللتخلّص من عيوب التعليم القائم على تجزئة المعرفة واهتمامها بالكمّ قبل الكيف. وقد ظهر ما يعرف بالتعليم التكامليّ، أو التعليم بالربط، وهو إقامة علاقات عامّة بين مادّتين، أو أكثر، في وقت تظلّ فيه التقسيمات بين الموادّ قائمة. ثمّ جاء بعده ما عرف بالتعليم بالاندماج؛ ويقصد به إزالة الحواجز بين الموادّ الدراسيّة كلّيًّا، وذلك بتجميع الموادّ الدراسيّة في مجموعات أساسها الدمج بين أفكار، أو موضوعات، أو وحدات المبحث الواحد، أو في المقرّرات المختلفة، دمجًا كاملًا يزيل الفواصل والحدود بين الموادّ الدراسيّة لتصبح مادّة واحدة مدمجة يُدرّسها معلّم واحد.
وحديثًا، بدأ تركيز علماء التربية على التعليم التكامليّ، وهو فكرة وسط بين التعليم بأسلوب الموادّ المنفصلة، وبين أسلوب الإدماج التامّ. ويمتاز بأنّه تنظيم منهجيّ يتبنّى تنظيم المحتوى الدراسيّ، بما يبرز وحدة المعرفة في مجالاتها المختلفة، مثل اللغة والعلوم والرياضيّات والفنّ وغيره من ناحية، ودورها في حياة المتعلّمين الشخصيّة والمجتمعيّة من ناحية أخرى، بحيث يُعلَّم المحتوى بشكل إيجابيّ نشط؛ فقد بني التعليم التكامليّ على تكامل الأهداف والأنشطة والتقييمات، وغيرها من العناصر، والتي تتآلف من أجل إنتاج مخرج تعليميّ ذي جودة عالية.
ومن وجهة نظري كمعلّمة لمادّة الرياضيّات، أرى أنّه لتحسين نوعيّة التعليم، من الضروريّ فهم الدور الحقيقيّ للمعلّم، واعتبار مهنة التعليم مزيجًا من الإحساس والتذوّق الفنّيّ والممارسات المبنيّة على أسس ومرتكزات علميّة. ولا ننسى في ذلك إعطاء المعلّم الحرّيّة والاستقلاليّة التي تمكّنه من تصميم البيئات التعليميّة، والتي تناسب الاحتياجات الخاصّة المتنوّعة للمتعلّمين، وخصوصًا المرحلة الأساسيّة الدنيا. أتبنّى فلسفة التعليم المرتكز على التعليم التكامليّ، إذ أقوم بربط المباحث أفقيًّا من خلال تصميم أنشطة تعليميّة تكامليّة تربط مبحثين أو أكثر أفقيًّا.
وفي حين يرى البعض أنّ الفنّ والرياضيّات عالمان قد يبدوان منفصلين تمامًا، أرى أنّ ما يجمع بين هذين العالمين أكبر ممّا يعتقد البعض، وخصوصًا عند طلبة المرحلة الأساسيّة؛ فدمج الفنّون في مناهج الرياضيّات زيادة لتحفيز الطلبة، لأنه لا يكتفي بزيادة الفضول، بل يساعد أيضًا على تعميق فهم المفاهيم الرياضيّة، ويساعد الطلبة على تطوير مهارات حلّ المشكلات الإبداعيّة.
ولطالما دعت المعايير العالميّة في مجال تعليم الرياضيّات إلى ضرورة إيجاد ترابطات للرياضيّات مع مجالات أخرى خارج الرياضيّات، وفي مقدّمتها المنظّمة القوميّة لمعلّمي الرياضيّات ضمن وثيقتها لمبادئ ومعايير الرياضيّات (2000 ,NCTM).
التعليم التكامليّ بين الفنّ والرياضيّات
هناك العديد من الفعاليّات والأنشطة العمليّة التي تدمج بين مادّتي الرياضيّات والفنّ، بما يجعل من الغرفة الصفّيّة مكانًا لاستلهام الأفكار وإثارة التفكير الإبداعيّ، وفيها من المتعة والتحفيز والدافعيّة ما يرغّب الطلبة بالبقاء فيها لفترات طويلة من دون ملل، لجعل التعلّم أكثر متعة. من هذه الأنشطة:
1. شمسنا المضيئة (مضاعفات العدد): يتمّ استخدام الفرجار في رسم الدائرة، ومن ثمّ استخدام ألوان "الجواش" في التلوين وتطبيع الأيدي حول الدائرة، كأشعة خاصّة بالشمس، ومن ثم تكليف الطلبة بوضع عدد محدّد في منتصف الشمس وإيجاد مضاعفات مختلفة له، ووضعها في الكفوف المرسومة.
2. طلاء الأظافر (قابليّة القسمة على 2، 3، 6، 5):
رسم كلّ طالب لكفّ اليدّ، ومن ثم تلوين الأظافر بلون يختاره، ومن ثمّ الكتابة في راحة اليد (عدد يقبل القسمة على 2، 3، 6، 5)، ومن ثمّ كتابة عدد على كلّ إصبع يقبل القسمة على العدد المكتوب في راحة اليدّ.
3. ليفة الجلي الاسفنجيّة (خواص متوازي المستطيلات):
يحضر كلّ طالب ليفة الجلي الإسفنجيّة على شكل متوازي مستطيلات، ثم يقوم الطلبة بتنفيذ المهمّة المطلوبة في استخدام ألوان "الجواش" في تحديد رؤوس متوازي المستطيلات بلون محدّد، وكذلك الحواف بلون آخر، ومن ثمّ تلوين الأوجه. بهذه الطريقة يتمّ استنتاج خواص متوازي المستطيلات.
4. القارب الملون (مفهوم الضرب والقسمة):
يُعطى كلّ طالب عددًا محدّدًا من المصّاصات الملوّنة، أو العيدان الخشبيّة الملوّنة لصنع قاربه المميّز، بعد ذلك تُوظّف هذه الفعاليّة في مفهوم الضرب والقسمة.
5. الفراشة الملوّنة (عناصر عمليّة القسمة):
إنشاء جسم الفراشة بالرسم والتطبيع، ثمّ تطبيع جناح كلّ فراشة بألوان "الجواش" ليصير مكوّنًا من كفّ اليدّ مطبوعًا مرّتين، ثمّ كتابة جملة للقسمة داخل جسم الفراشة وتحديد عناصر القسمة على أجنحتها داخل الكفوف الأربعة.
6. شبكة المربّعات الملوّنة (محيط شكل هندسيّ ومساحته):
تُستخدم شبكة المربّعات، ويُكلّف الطلبة بتلوين عدد من المربّعات ضمن شكل فنّيّ هندسيّ محدّد، ثمّ يوجدون مساحة الشكل أو محيطه.
7. الورق الملوّن والمجسّمات الهندسيّة: يُستخدم الورق الملوّن في تشكيل مجسّمات هندسيّة، ثمّ تُطوى حوافها ويتوصّل المتعلّمون لخواصها.
8. التعلّم بالمشروع:
يُكلّف الطلبة بمشروع صغير باستخدام الرسم والتلوين، يربطون من خلاله بين مبحثَين أو أكثر. ومن الأمثلة على هذه المشاريع الصغيرة:
- - تصميم ميداليّة لعلم فلسطين (حقائق الضرب):
- يرسم الطالب علم فلسطين ويلوّنه ويقصّه. بعد ذلك يكتب حقائق الضرب على الأعلام التي رسمها ولوّنها.
- - تصميم ميداليّة مفتاح العودة (عناصر عمليّة الطرح):
- يرسم الطالب مفتاح العودة ويلوّنه ويقصّه، ويكتب على كلّ مفتاح عناصر عمليّة الطرح.
- - تصميم ألبوم تراثيّ هويّتي (توظيف عمليتَي الضرب والقسمة في سياقات حياتيّة)
- يجمع الطالب صورًا توثّق تنوّع التراث الفلسطينيّ، في الملبس والأدوات والأكلات الشعبيّة والأعراس والأمثال الشعبيّة، ثم يوظّف عمليتَي القسمة والضرب في تكوين مسائل كلاميّة تدعم التراث الفلسطينيّ.
الرياضيّات والفنّ يشكّلان فريقًا رائعًا له سحر مميّز، وخصوصًا عندما يُدمجان بطريقة تكامليّة. فالطلبة جميعهم قدراتهم تبنى، وينتظرون منّا كمعلّمين، إعطائهم الفرصة المناسبة للتألّق في جعلهم فنّانين وعلماء للرياضيّات معًا. لنمنحهم تلك الفرصة، ولنكن عونًا لهم في ذلك عبر استخدام استراتيجيّات التدريس الحديثة التي تلبّي احتياجاتهم وميولهم.