يعدّ التعليم من أهمّ الأولويّات للمجتمع، لا سيّما في حالات الطوارئ وتداعياتها. مع فقدان المجتمعات الكثير من أعمالها ومصالحها في تلك الأوضاع، تسعى المؤسّسات التربويّة إلى تعزيز النظم التعليميّة من أجل ضمان إيصال رسائل للأطفال وأسرهم تفيد بضرورة مساهمتهم في حماية المجتمعات من الكوارث والنزاعات، وتوفير الأمن الجسديّ والنفسيّ، واستثمار التعليم في تلك الظروف في تقوية تماسك المجتمعات وصمودها. هكذا نزعت المجتمعات إلى توظيف إمكانات التعليم الإلكترونيّ خلال الجائحة.
كما في معظم دول العالم، فالنظام التربويّ الرسميّ في فلسطين، لا يدعم التعليم الإلكترونيّ بالصورة المطلوبة، أو على الأقلّ يمكن القول: إنّ النظام التعليميّ والتربويّ في فلسطين غير جاهز لاستخدام هذا النوع من التعليم في الوقت الراهن، وإن استثنينا بعض الجامعات الفلسطينية التي لها تجربة في ذلك، يبقى معظم نظامنا التربويّ هشًّا تجاه التعليم الإلكترونيّ.
مع الجائحة بات مفهوم التعليم الإلكترونيّ من المفاهيم الأكثر تداولًا في المجتمع، هذه الحالة خلقت وضعًا من عدم الارتياح والضياع من قبل المعلّمين والطلبة وأولياء الأمور، خاصّةً أنّنا غير جاهزين بشريًّا أو ماديًّا لاستخدام التعليم الإلكترونيّ.
أعرض هنا نموذجًا لتدريب المعلّمين باستخدام تقنيّة الصفّ الافتراضيّ المقلوب (Virtual Flipped Classroom) مستوحى من Abdulla & Ismail، وهي تقنيّة تعليم إلكترونيّ تجمع بين استراتيجيّة الصفّ المقلوب والصفوف الافتراضيّة وقد استخدمت ضمن النموذج المنصّات الإلكترونيّة المتزامنة وغير المتزامنة معًا في طرح المهمات التعليميّة التعلّميّة وتنفيذها وتقويمها. ومن ميزات هذا النموذج أنّه يعمل على تنمية مهارات التعلّم والبحث الذاتيّ وتوظيف التكنولوجيا في عمليتَيْ التعليم والتعلّم، ويعزّز اتّجاهات المتدرّبين والمتعلّميّن نحو التعليم الإلكترونيّ.
دوافع التجديد
إنّ التعليم الإلكترونيّ ثورة قامت إثر ثورة التكنولوجيا، فهو من الطرق التي تساعد المتعلّم على التفاعل المستمرّ، من خلال المصادر التعليميّة المفتوحة، واستخدام الأدوات التي تساعده على القيام بمهمّات وأنشطة مختلفة، وبذلك فإنّ التعليم الإلكترونيّ أصبح يعدّ بيئةً غنيّةً متعدّدة المصادر؛ تشجّع التواصل بين أركان العمليّة التعليميّة التعلّميّة، بالإضافة إلى ما توفّره من تقديم تسهيلات لنمذجة التعليم، علاوةً على المساهمة في إعداد جيل قادر على التعامل مع التقنيّة من جهة، ومتسلّح بمهارات عصريّة حديثة من جهة أخرى (الخفاف، 2018).
وعن التعليم الإلكترونيّ في عصر الثورة المعلوماتيًة، تضيف الخفاف (2018) أنّ توظيف التكنولوجيا في العمليّة التعليميّة التعلّميّة أصبح ضرورةً ملحّةً، وهي تعدّ زيادة تفاعل المتعلّمين وقدرتهم على التواصل معًا رغم المسافات بينهم من أكبر نقاط قوّة التعليم الإلكترونيّ، وقد وصل مع مرور الوقت وتطوّر التقنيّة إلى كونه ضرورةً، فإنْ لم يقم المعلّمون بتطوير قدراتهم ومهاراتهم لاستخدام الطرق التدريسّية التي تتوافق والتقنيّات الحديثة فإنهم يعرّضون مجتمعاتهم للخطر.
إنّ استخدام التعليم الإلكترونيّ يحتاج إلى بِنًى تحتيّة مهيّأة ماديًّا وبشريًّا، ويحتاج إلى نظام تعليميّ يدعم ذلك، وهذا ما أكّدته دراسة المولى (2016) التي أجريت حول جاهزيّة كليّات التربية في السودان لاستخدام التعليم الإلكترونيّ، إذ إنّ متطلبات استخدام التعليم الإلكترونيّ بنجاح تتلخّص في توفير بنية تحتيّة متينة، وموارد خاصّة، وكوادر بشريّة مدربّة، وقَبول لاستخدام هذا النوع من التعليم. إنجاح التعليم الإلكترونيّ يبدأ من اتّخاذ قرار لاستخدامه من باب التأكّد من الجاهزيّة، ثمّ تدريب الكوادر البشريّة، وبدء التعامل معه، ليس فقط بديلًا للتعليم الصفّي في حالات الطوارئ، بل ومساعدًا أساسيًّا حتّى في الظروف الطبيعيّة. وهذا ما حاولت توفيره في نموذجي التدريبيّ.
إنّ من أهمّ الإجراءات الواجب اتّخاذها في المؤسّسات التعليميّة لنجاح التعليم الإلكترونيّ كما يقول العجرش (2018)، تأهيل المعلّمين الذين يعدّهم قادة التغيير، وتدريبهم على استخدام أدوات واستراتيجيّات تعليميّة تعلّميّة، تُوظّف فيها التقنيّة في تطوير عمليّة التعليم والتعلّم؛ لتساهم في مواكبة التسارع المعرفيّ والتحديّات، ومراعاة الفروق الفرديّة بين المتعلّمين، وحثّهم على تطوير مهارات التعلّم الذاتيّ لديهم.
لذا؛ فإن على المؤسّسة التربويّة تنمية قدرات أفرادها ومواردها لمعالجة المعرفة وتطويرها وصولًا إلى توظيفها في عملية التعليم. وثمّة عدد من متطلّبات الانتقال من التعليم التقليديّ إلى التعليم الإلكترونيّ؛ أهمّها تعديل سياسات التعليم على مستوى المدارس والجامعات، وتدريب المعلّمين والطلبة على استخدام الحاسوب والإنترنت والتطبيقات المرتبطة بهما، وتوظيفها في التعليم الإلكترونيّ (العياصرة، 2017).
النموذج التدريبيّ
يوضّح الرسم الآتي (الترجمة للكاتب) الفرق بين ثلاثة عناصر: الصفّ التقليديّ، والصفّ المقلوب، ونموذج الصفّ الافتراضيّ المقلوب كما جاء في دراسة (Ismail & Abdulla, 2018).
من أجل المساهمة في تأسيس بنية تحتيّة إلكترونيّة متينة لنظام التعليم العامّ الفلسطينيّ، استوحيت تصميمًا نظريّا من النموذج، وصمّمت مادّة تدريبيّة تتضمن المهارات الأساسيّة، والتطبيقات الضروريّة للارتقاء بمهارات المعلّمين والطواقم. وبالتعاون مع الاتّحاد العامّ للمعلّمين الفلسطينيّين أُطلقت مبادرة لتدريب المعلّمين والطواقم المساندة لهم، وتمّ تدريب أكثر من 2500 متدرب على النموذج، ومرّ النموذج في مراحل الفحص والتقييم.
يقوم نموذج الصفّ الافتراضيّ المقلوب على طرح المهمّة التعليميّة التعلّميّة من خلال المنصّة غير المتزامنة مدعّمة بفيديو تعليميّ، إذ يشاهد المتدرّب الفيديو وينفّذ المهمّة المطلوبة منه، ومن خلال التواصل غير المتزامن يتواصل مع المدرّب للإجابة عن أي سؤال، ويقدّم المدرّب التغذية الراجعة له. بعد ذلك، يُعقد لقاء متزامن لمناقشة المهمّات المنفّذة، واستعراض مهمّات المتدرّبين لتعميم الخبرة وتبادلها مع بقيّة المتدرّبين، وتقديم تمهيد عن المهمّة التالية، كما يوضّح الشكل.
يمزج نموذج الصفّ الافتراضيّ المقلوب بين تقنيّات مختلفة:
المنصّات الإلكترونيّة المتزامنة: هي منصّات وتطبيقات تساعد على التواصل بين أطراف العمليّة التعليميّة التعلّميّة بصورة مباشرة، ما يجعل الجوّ التعليميّ قريبًا من واقع الحصّة وجهًا لوجه، وهي تعتمد الصفّوف الافتراضيّة، وفيها تكون كلّ أطراف العمليّة التعليميّة موجودةً معًا في الوقت ذاته لكن في أماكن مختلفة، ويحدث التفاعل والتخاطب اللحظيان فيهما كتابيًّا وصوتيًّا، وبالصوت والصورة (المؤتمرات المرئيّة)، ومنها تطبيقات مختلفة مثل: Zoom Meeting، Hangouts، ClassIn، Skype....إلخ (الحناوي، 2012).
المنصّات الإلكترونيّة غير المتزامنة: هي مواقع وتطبيقات إلكترونيّة توفّر الاتّصال بين أطراف العمليّة التعليميّة بطريقة غير مباشرة، ودون اشتراط حضورهم في الوقت ذاته، وتقدّم موادّ كالكتب الإلكترونيّة والدوريّات وقواعد البيانات، ومن هذه الوسائل: البريد الإلكترونيّ، والبريد الصوتيّ، والمجموعات الإخباريّة، والقوائم البريديّة، والمواقع التعليميّة Google Classroom، Microsoft Teams، ...إلخ، التي يستطيع المتعلّمون فيها التفاعل مع المادّة التعليميّة والتدريبيّة بصورة مستقلّة (الحناوي، 2012).
الصفّ المقلوب Flipped Classroom FC: استراتيجيّة تعليميّة تعمل على زيادة مشاركة المتعلّميّن وتفاعلهم، وتنمّي القدرة على التفكير الناقد والتعلّم الذاتيّ لديهم، وهي تعتمد على أن يزوّد المعلّم المتعلّميّن بمصادر تعليميّة مثل الفيديو، القراءات... إلخ، ليشاهدها الطالب ويدرسها في بيته، ومن ثمّ تحدث مناقشتها في الغرفة الصفّيّة بتنفيذ أنشطة تفاعليّة، ليأتي بعدها تقديم التغذية الراجعة من المعلّم. تساعد هذه الاستراتيجيّة على الاستفادة من وقت الحصّة بطرح أنشطة تفاعليّة(Kawinkoonlasate, 2019) .
مواضيع التدريب
وقع الاختيار على مجموعة من المواضيع التدريبيّة التي تعدّ أساسيّةً في تنظيم العمليّة التعليميّة الإلكترونيّة، وهي التي يتمّ من خلالها رفع دافعيّة المعلّمين والطلبة، وتعزيز ثقافة التعليم الإلكترونيّ لدى أولياء الأمور والمجتمع. وهي:
- تفعيل قناة "يوتيوب" أو "ستريم"، بوصفها مصدرًا للفيديو التعليميّ.
- إنتاج الفيديو التعليميّ ضمن مفهوم الدرس المصغّر.
- بناء الاختبار الإلكترونيّ التفاعليّ بوصفه أداةً تعليميّةً من أجل تقويم عمليّة التعليم.
- استنتاج أهميّة نموذج الصفّ الافتراضيّ المقلوب في التعليم الإلكترونيّ.
نتائج
لنموذج الصفّ الافتراضيّ المقلوب في التدريب أثر إيجابيّ دالّ إحصائيًّا على مهارات المشاركين (معلّمين، مديري مدارس، مشرفين) واتجاهاتهم، حيث كان لأسلوب التدريب المتّبع "الصفّ الافتراضيّ المقلوب" أثر إيجابيّ على مهارات المعلّمين واتّجاهاتهم نحو التعليم الإلكترونيّ، وذلك بالمقارنة بين مهاراتهم واتّجاهاتهم قبل التدريب وبعده، حيث ارتفع متوسّط الاتجاهات بأكثر من 8% بعد التدريب، وارتفع متوسّط المهارات والقدرات على استخدام الأدوات والتطبيقات المتضمّنة في التدريب إلى أكثر من 73% بعده.
توصيات
- تبنّي نموذج الصفّ الافتراضيّ المقلوب في برامج تدريب المعلّمين، واعتماده استراتيجيّةً تعليميّةً تعلّميّةً حديثةً لما له من ميّزات وفوائد كبيرة.
- أهميّة استحداث دائرة في وزارة التربية والتعليم تكون متخصّصة في التعليم الإلكترونيّ، تعاون في تطوير برامج التدريب التربويّ التي تنفّذها الوزارة، لتشمل برامج تدريبيّة للمعلّمين والمديرين حول توظيف التعليم الإلكترونيّ، واعتماد نسبة من التدريبات باستخدام التطبيقات المختلفة.
- ضرورة توفير منصّات تعليميّة متزامنة وغير متزامنة خاصّة بوزارة التربية والتعليم، تكون موحّدة لدى المعلّمين والطلبة كافّةً، وإشراك أركان العلميّة التربويّة كلّها في تلك المنصّات، خاصّةً أولياء الأمور.
- العمل على حصر المعوّقات والتحدّيات التي تواجه تطوير نظام التعليم الإلكترونيّ، وتحديدًا ما يخصّ ضمان وصول الإنترنت، وتوفير الأجهزة اللازمة للمعلّمين والطلبة جميعهم.
- إيجاد نظام حوافز للمعلّمين يعمل على تشجيعهم، ورفع دافعيّتهم تجاه استخدام التعليم الإلكترونيّ.
- استحداث مساقات تعليميّة في كليّات التربية متخصّصة في التعليم الإلكترونيّ، تعمل على تهيئة المعلّمين الجدد، ورفع قدراتهم ومهاراتهم واتّجاهاتهم حول التعليم الإلكترونيّ قبل التحاقهم بالخدمة.
خلاصة
تنبع أهميّة هذا النموذج من ضرورة رفع الاتجاهات الإيجابيّة نحو التعليم الإلكترونيّ، وهي تزيد من دافعيّة الطالب تجاهه، بالإضافة إلى كونها تحاول ترويج ثقافة إيجابيّة لدى المجتمع تعزّز التعليم الإلكترونيّ، إذ يعمل النموذج على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين: توظيف التكنولوجيا في التعليم، وتعزيز مهارات البحث، والتعلّم الذاتيّ، والتفكير الناقد.
المراجع:
- الحناوي، مجدي (2012). تطوير الحقائب التعليميّة التعلّميّة من التقليدية إلى الإلكترونيّة. عمادة البحث العلمي والدراسات العليا، جامعة القدس المفتوحة.
- الخفاف، إيمان (2018). التعليم الإلكترونيّ. مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع.
- العجرش، حيدر (2018). التعليم الإلكترونيّ في المؤسسات التعليميّة. دار صفاء للنشر والتوزيع.
- العياصرة، وليد (2017). تكنولوجيا التعليم والتعليم الإلكترونيّ. دار أسامة للنشر والتوزيع ونبلاء ناشرون وموزعون.
- كلّاب، سهيل (2016)، التعليم الإلكترونيّ: مستقبل التعليم غير التقليدي. دار أسامة للنشر والتوزيع ونبلاء ناشرون وموزعون.
- المولى، آمنة، والمشرف، مضوي؛ ومحمد، عز الدين (2016). واقع استخدام التعليم الإلكترونيّ في كليّات التربية بولاية الخرطوم. مجلة العلوم التربويّة، 17(1)، 163-174.
- Ismail, S. S., & Abdulla, S. A. (2019). Virtual Flipped Classroom: New Teaching Model to Grant the Learners Knowledge and Motivation. Journal of Technology and Science Education, 9(2), 168-183.
- Kawinkoonlasate, P. (2019). Integration in Flipped Classroom Technology Approach to Develop English Language Skills of Thai EFL Learners. English Language Teaching, 12(11), 23-34.