في وقت تتقطّع فيه أنفاسنا أمام المشاهد المروّعة للإبادة الجماعيّة على شاشة التلفاز والأجهزة الخلويّة، يصبح مجرّد التفكير بتعليم تحرّريّ أشبه بنكتة لا تُضحِك أبدًا، ولا سيّما حين يقترن التعليم بالمنهاج، أو عندما يُسَيّر المنهاجُ التعليمَ. فالفكرة المحوريّة التي يتمركز حولها مفهوم المنهاج هي التخطيط للتعليم لتحقيق معرفة محدّدة، قرّرها المخطّطون مسبقًا ضمن سياق زمانيّ ومكانيّ محدّد. فبمجرّد وجود خطّة مفصّلة ومحدّدة لتحقيق نتاجات تعلّم مقصودة، يكاد ينعدم وجود تعليم هدفه التحرّر؛ إذ تتّبع الخطّة مبدأ المقاس الواحد للجميع بغض النظر عن السياق الواقعيّ، لأنّ هدف المنهاج هو العلامة التي يراها الطلبة وذووهم بـغِمامات النظام التعليميّ التي تعمل، بقصد أو غير قصد، على محدوديّة الرؤية في المجتمع العربيّ والغربيّ والعالميّ على حدٍّ سواء؛ فالغِمامة، هي ما يُغطّى به عين الخيل حتّى لا يرى غير ما أمامه.
لذا، ربّما كان الفكاك من أسر الغِمامات هو العمل على تغيير هذا النموذج السائد، أو ما يسمّى بالـparadigm shift، بممارسات تعليميّة سهلة - ممتنعة.
توفير مساحات حقيقيّة للتجريب والتأمّل والمشاركة وإعادة التجريب
من التحرّر أن تحكمنا حاجاتنا الأصيلة أو رغباتنا الشغوفة للتعلّم. واكتشاف ذلك لا يظهر بالضرورة بمنهاج مكتوب بإحكام، ولا بتعليم لا يحيد عن صراط المنهاج، بل عندما نشعر أنّ في مساحات التعلّم متّسعًا للتجريب والتأمّل والمشاركة وإعادة التجريب، لتحقيق تعلّم ذي معنى ومفيد في حياتنا. من الأمثلة التي تحضرني الآن، تنفيذنا منهاج نظريّة المعرفة بما تمليه علينا سياقاتنا الحياتيّة؛ فنحن لا نعتمد كتابًا مرجعيًّا للمساق، بل نعتمد مصادر المعرفة السابقة والحاليّة المتاحة لنا في حياتنا اليوميّة، وأهمّها عقولنا وحواسنا. كما أنّ معلّمي الدائرة يتّفقون على الهيكل الأساسيّ الذي ينظِّم تدريسهم، ويتمايزون في كيفيّة مشاركته وطلبتهم، كونهم أفرادًا فريدين.
تفتح هذه المساحة مساحات أخرى للتأمّل في أساليبنا، بالتشارك في تجاربنا ومحاولة تحسينها. والأهمّ أنّنا نعلن أنّ هدف تعليمنا طلبتنا هو أن يتفكّروا في القرارات التي تمسُّ حياتهم، وليس الحصول على العلامة. ولا تقتصر هذه الفسح على مساق نظريّة المعرفة، بل هي ثقافة جمعيّة في مجتمع المدرسة تؤمن بتمكين المعلّمين والطلبة، بإعطائهم المساحات والموارد لاتّخاذ قرارات تحقّق رسالة المدرسة تحقيقًا متناغمًا وفاعلًا.
الارتجال الحكيم
الارتجال الحكيم يعني التحرّر من النصّ عند الحاجة، ومواكبة متطلّبات المتعلّمين ضمن نطاق يخدم الغرض منه، وحدوثه يكون وليد اللحظة. والارتجال الحكيم مفهوم غائب عن أغلب موضوعات التطوير المهنيّ، على رغم أنّه موضوع مهمّ وحقيقيّ. وقد يعود السبب إلى أنّ الارتجال نقيض التخطيط محكم الصراط والنتيجة. وهو مهارة قابلة للتعلّم بالخبرة والمشاهدة الصادقة التي تهدف إلى فهم المتعلّمين باعتبارهم أفرادًا ومجموعات، بغية مخاطبة اهتماماتهم وطرائق تعلّمهم، والتفكّر في ممارساتنا نحن، المعلّمين، والتعلّم من هذا التفاعل. ففهم الطلبة وشخصيّتهم الجمعيّة التي تخلق مناخًا صفّيًّا مُتَفَرّدًا يتميّز عن غيره، أمر آخر يغيب عن ورش التطوير المهنيّ.
يحضرني في هذا السياق ما حدث عقب السابع من أكتوبر السنة الماضية من قلق فرديّ وجماعيّ على مستوى الطلبة والمعلّمين، وكان المناخ العام، وما زال، يسوده الشعور بالقهر. فتجاهل مثل هذا المناخ، كأنّ شيئًا لم يكن، نمذجةٌ للانهزام والتخاذل والانفصال عن الواقع السياقيّ؛ بل إنّه نمذجة للتمسحة إن جاز التعبير. ومن الطبيعيّ هنا الابتكار في الارتجال بتطويع ما نعلِّم، مهما كانت المادّة التعليميّة، وذلك لخدمة بناء الوعي، وإيجاد الفرص للمشاركة البنّاءة في تقديم ما نستطيع. ولأنّ لدينا المساحة لذلك، صار الكثير من تدريسنا مُكَرّسًا للتفكير والعمل الفاعل تجاه دعم المقاومة بالمقاطعة الجادّة، ونشر الوعي، وتقديم الإسهامات، سواء بتوجيه المنهاج، أم بالأنشطة اللامنهجيّة لخدمة هذه القضيّة.
بناء العلاقات الصادقة
لعلّ أهمّ مفهوم لبناء العلاقات الصادقة يتمثّل في أنّنا جميعًا متعلّمون؛ ليس للتغنّي النظريّ بذلك، بل للاقتناع الحقيقيّ بأنّ لا أحدًا بمفرده يملك الحقيقة. ويبني العلاقات الصادقة في الأساس على التواضع المعرفيّ، لأنّ المعلّم يملك من موقعه سلطة لم يخترها، وليس بإمكانه دحضها كونه عالمًا له خبرة في تخصّصه. فمن منظور الطلبة مكانته عالية، معرفيًّا على الأقلّ. وهذه غِمامة قد تؤدّي إلى إقصاءٍ قد يَحِدّ المعلّم عن رؤيته طلبته ورؤيتهم له، على أنّهم جميعًا متعلّمون.
فبناء علاقات صادقة يبدأ بالصدق في الإفصاح عن النوايا والتوقّعات. ومثل هذه العلاقات تحرِّر تعليمنا من اقتصاره على المعرفة العلميّة المنْبَتَّة عن الواقع، والتظاهر لتحقيق المكاسب، سواء اتّخذ شكل الوِدّ النفعيّ أم العلامات. هذا الشكل من العلاقات يُرَسّخ درسًا غير مباشر عن ماهيّة العلاقات البشريّة ويُبَرِّر زيفها. ففي قلب التواضع المعرفيّ والسعي إلى التعلّم، تكمن محبّة حقيقيّة للخير والعمل الجاد الدؤوب وحبّ الآخرين والنهوض بالمجتمع. فالحبّ يحرِّر تعليمنا من كونه مجرّد حبر على ورق. ونحن نعبِّر عن ذلك في كافّة المواقع، ولعلّ أبرزها طقس الغناء الجماعيّ الذي نمارسه في بداية تجمّعنا أسبوعيًّا مع الطلبة وبالابتسامات والتحيّات المتبادلة بيننا يوميًّا، إذ تبثّ تفاؤلًا يجعلنا قادرين على الاستمرار بالأمل.
التعليم المهاراتيّ الحياتيّ المرتكز إلى الفكرة والتفكّر
عمدت النظريّات التربويّة في القرن الفائت والحاليّ على الربط بين ما هو معرفيّ وعاطفيّ ومهاراتيّ وقيميّ، وقولبة ذلك كلّه في إطار رقميّ. وقد أثّر ذلك في ملكتين مهمّتين من التعلّم، هما الذاكرة والحواس. وقد ازداد الأثر في هاتين الملكتين خلال سنوات الكورونا والتعليم الافتراضيّ الذي صاحبه. وأسمّي الذاكرة والحواس ملكتين لأنّنا نمتلكهما جزءًا أصيلًا، وليس مكتسبًا من بنيتنا الجسديّة - الإنسانيّة. ولكن، من الطبيعيّ أن تضعفا بالإهمال وتقويا بالتغذية والتروية. وضعفهما أوقعنا في أسر الغِمامات التي تحجب عنّا ارتباط العمل الحسن بالفكرة الحسنة.
لماذا نقرأ الأعمال الأدبيّة؟ لماذا نتعلّم كتابة المقالة؟ لماذا ندرس نظريّات علميّة انتهت صلاحيّتها؟ لماذا نبحث في تاريخ مضى؟ وأسئلة أخرى كثيرة أسمعها بنبرات التذمّر من طلبة يظنّون أنّ الهدف من جلوسهم في الصفّ، أو الغاية من الامتحان، مجرّد ضروب من التعذيب. وهنا تكمن فرصة ذهبيّة في مخاطبة هذه التساؤلات لتفسير التعليم النظريّ بفائدته العمليّة، والتي لا تعني شيئًا لحظة جلوس الطلبة أمام الامتحان. لذا، أشارك طلبتي معتقدي أنّ الامتحان لعبة سخيفة، فيها ممتحِن يريد أن يعرف أنّهم يعرفون وصفة المنهاج. وأذكّرهم دائمًا أنّهم عارفون فريدون، وأنّ جهدهم لبناء معرفتهم، بمعزل عن الامتحان باعتباره هدفًا، هو تعلّمهم الحقيقيّ الذي سوف يثمر علامة، كتحصيل حاصل، وليس لأنّ العلامة غاية بذاتها.
الإيمان بأنّ كلّ شيء مباح للمساءلة المنطقيّة ضمن سياق واقعيّ
من أخطر المزالق التي تحتمي بها غِمامات المنهاج، اللجوء إلى الثنائيّات التي لا خيار غيرها. أي أن يكون أمر ما صحيحًا أو خطأً؛ أبيض أو أسود؛ هذا أو ذاك بالمطلق. فالثنائيّات المطلقة ليست موجودة في الحياة الواقعيّة، بل هي وسيلة سهلة للخلاص والإلغاء والإقصاء. فأفعالنا التي تحمل معرفتنا تعمل ضمن سياق مكانيّ وزمانيّ متحرّك، والقيم التي تُسَيِّر تفاعلاتنا هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتّفق على أنّه ثابت نسبيًّا. ويتطلّب الانفتاح العقلانيّ والأخلاقيّ قدرة عالية على الاستماع بعمق. فحين يطرح طلبتنا أسئلة قاهرة بالنسبة إليهم، تكون أسئلتهم هذه مهمّة، حتّى لو بدت لنا غير ذلك.
وهنا، لا بدّ أن أطرح فكرة التمييز العمريّ. فهو تمييز لا نراه حاضرًا فينا أحيانًا، حين نقمع الأفكار من دون إدراك منّا لذلك. كوني معلّمة، يعتريني دائمًا في تعليم طلبتي هاجسان: كيف أعرف أنّهم يعرفون؟ وهل أُمَكّنُهم أم أُضْعِفُهم عند مخاطبة قضاياهم الأكاديميّة والإنسانيّة والشخصيّة وغيرها؟ ولأنّ هذين الأمرين غير مرئيّين. اكتشفت أنّه لا بدّ من تمرين بصيرتي لأرى، وقد لا أستطيع ذلك. ولكن، اعتدت في ممارستي ألّا أُفَوّت سؤالًا من دون محاكاته، سواء داخل صندوق التمدرس أم خارجه، لأنّ طلبتي يستحقّون ذلك. وأذكر موقفًا حصل في الحصّة الأولى لنظريّة المعرفة مع مجموعة جديدة من الطلبة، حيث سألني أحدهم إن كان جميع معلّمي هذا المساق ملحدين. باغتني السؤال، ولكنّي ابتسمت وأجبته أنّني لا أدري، ولكن بإمكاننا أن نرى إن كان هذا صحيحًا عندما نتعرّف إلى بعضنا خلال المساق. عندها، تحوّل الترقّب المتوتّر إلى هدوء، وبدأنا رحلتنا. وفي المرّات الكثيرة التي تطرّقنا فيها إلى موضوع الإيمان، كنت أنظر في عيني هذا الطالب لأرى أنّه فهم ما قد يفضي إليه الحكم المسبق المبنيّ على التعميم. أجبته وأجابني من دون أن نتطرّق إلى الموضوع عينه صراحة، ولكن من خلال أفكاره المكتوبة والمقرونة بالأفعال، طوال السنتين اللتين قضيناهما معًا. رأيت خلالهما كيف تحرّرت بصيرته وبصيرتي من غِمامات النعم واللا.
* * *
أعرف أنّ للتعليم التحرّري منظّرين كثيرين، أحترمهم وأؤمن بسعيهم لإزالة ما يستطيعون من غِمامات، لكنّي اخترت أن أكتب عن تجربتي الخاصّة عن الغِمامات التي أراها في الواقع، وأوّلها مفهومنا للمنهاج، متحرِّرة من أي اقتباس عن الآخرين، مع أنّ خلاصة تجربتي هي بفضل الآخرين الذين شكّلوا معرفتي، مشكورين. فالتعليم التحرّري يقوم على الثقة بأنّ للتعلّم الحقيقيّ عائدًا أعظم من مجرّد تكييش المعرفة، وأنّ نَفَسَ التحرّر يتجلّى في فكر الطلبة والمعلّمين وأفعالهم، وهم يكتشفون معنى مغايرًا للتعلّم أكثر ديمومة، إذ يمنطقونه ويشعرونه ويعيشونه بأنفسهم. مصدره الأوّلي أفكارهم، ثمّ جهودهم في تذويت معرفة الآخرين على مقاسهم، وهم يتّبعون صراطًا خطّوه لأنفسهم، حتّى لو تشابهت الطرق. فالمهمّ أن يعرفوا أنّ بمقدورهم التخلّص من الغِمامات.