مقدّمة
هل يستطيع طفلك تنظيم حاجات التسوّق الإلكترونيّ في جدول بيانيّ؟ هل بإمكانه استثمار موجودات غرفته لغايات التعلّم عن بعد؟ أعني أمورًا مثل ترتيب قرطاسيّته حسب الحجم، أو صنع مجسّم هندسيّ من ألعابه لإتمام مهمّة، أو واجب في مادّة الرياضيّات. هل يحّل مشكلات حياتيّةً عبر توظيف العمليّات الحسابيّة الرئيسة الأربع؟ هل يساعد طفلك والدته في تقدير كميّاتِ وصفات الأطعمة؟ هل يستطيع إذا جاع، أن يحضّر وجبةً خفيفةً متكاملةً، مثل التي يقرأ عنها في دروس العلوم؟ هل يستطيع توضيب قائمة طعام مكتوبة بإملاء دقيق؟ فلنجعل التعليم الآن فرصةً ليتعلّم الطفل مهارات الحياة التي تصقل شخصيّته.
يحاول هذا المقال تسليط الضوء على كيفيّة إكساب الطالب مهارات الحياة الضروريّة من المنزل بالتزامن مع التعليم الإلكترونيّ، وتعليم الأمّهات استخدام محسوسات وموجودات منزليّةً للمساعدة في تعليم أطفالهنّ بصورة تفاعليّة.
في غزّة، التحق نحو 292,325 طالبًا وطالبةً من المراحل كافّة بمدارسهم، وبلغ عدد الطلبة الجدد الداخلين إلى الصفّ الأوّل الابتدائيّ 20,681. هذه الأعداد جعلتني أقف عند نوعيّة التعليم المقدّم لهؤلاء الطلبة خلال الجائحة: ما شكل هذا التعليم؟ هل سيكون مثل العام المنصرم منصّةً يسجّل الأهالي عليها عدد بطاقات التعلّم الإلكترونيّ التي حلّها الطالب، أو حلّها له أحد أفراد أسرته؟
عن "إنترنت الأشياء"
إنترنت الأشياء IoT مبحث علميّ قد يسهّل التعليم فعلًا، بينما التعلّم بوساطة "الإنترنت والأشياء" فهو نهج يقرّب كلّ ما يحتاجه المعلّم من الطلّاب، ويسمح للأطفال أن يكونوا شركاء المعلّم في تعلّم مهاريّ. وعلينا، نحن المعلّمين، أن نقدّم استراتيجيّات نوعيّةً، وبدائل ترتكز على تعلّم الأطفال داخل منازلهم وفق المنحنى التكامليّ، مع التركيز على الجوانب النمائيّة للطفل، وحالته النفسيّة.
في موازاة ذلك، علينا أن نستثمر تقنيًات مثل "إنترنت الأشياء" وغيرها، لتشغيل حواسّ الطفل، واستعمال يديه وعقله، وعلينا ترك ما لهثت خلفه جهات التعليم سابقًا، من إحصاءات نجاح، وأرقام كبيرة تُعزى إليها "نجاحات" المديريّات، والمنصّات وتفاعل الأهل معها، فهذا ليس بديلًا نستكشف به الجوانب الملهمة المهمّة عند للأطفال. وللوصول إلى مرحلة استغلال التقنيات الحديثة، علينا أن نبدأ من التعليم التفاعليّ المهاريّ المتّصل بالحياة الذي يكون الطفل محوره. هذا ما أقترحه هنا بتجربتي في التعليم بوساطة "الإنترنت والأشياء" التي استلهمتها من مصطلح "إنترنت الأشياء"، رغم اختلافها عنه.
التعلّم بالإنترنت والأشياء
مع انطلاق عمليّة "التعلّم عن بعد"، كما سُمّيت، وجدت نفسي أمام أسئلة كثيرة، منها: ماذا أفعل لأجعل التعلّم قريبًا من طلبة الصفّ الثالث داخل منازلهم، مع مدّة تركيزهم التي لا تتجاوز 5 دقائق؟ ما هو شكل التعلّم الذي سيدور بيني وبين الطلبة؟ ما الذي سيساعدني لأخطو نحو التعلّم الذي أطمح إليه؟
اتّجهت نحو تعلّم يركّز على حاجات كلّ طفل بصورة منفصلة، وهو تعلّم منزليّ بوساطة عناصر محسوسة من غرف الطلبة، ومن حدائقهم، ومن مطابخهم، تعلّم يكون الطالب جزءًا منه، ويعلّمه أيضًا المهارات التي كان يفترض أن يتعلّمها في المدرسة، مع مراعاة الجانب العاطفيّ للطلبة في جوّ من عدم اليقين اجتاح العالم إلى جانب الوباء، لا سيّما في مرحلتهم النمائيّة الحسّاسة.
أعلّم طلبتي من الصفّ الثالث الموادّ جميعها عدا اللغة الإنجليزيّة. لذلك، كنت أفكّر في طريقة تجعل تعلمهم وفق المنحنى التكامليّ عبر الموادّ. اجتمعت مع الطلّاب وأولياء أمورهم افتراضيًّا عبر تطبيق "زوم"، واتّجهت معهم نحو تطبيق تعلّم يناسب الظروف، وعملت على حثّهم للتعلّم من أقرانهم وبيئتهم، ومن تطبيقات حديثة كثيرة، توسّمت فيها إيصال التعلّم بأقلّ وقت وجهد ممكن. كنت قلقةً جدًّا من عدم معرفتي الكافية للطلّاب، ولمستوياتهم، وللفروق الفرديّة بينهم، ولذكاءاتهم المتنوّعة، ولم أكن أعرف أنّ بعضهم يعرف الكثير على المستوى التقنيّ، ويستخدم التقنيّة بمستوى متقدّم.
أمثلة واقعيّة
قدّمت تعليمًا مبسّطًا تضمّن التركيز على المفهوم، وربط التعلّم الجديد بتعلّم آخر قريب. مثلًا: في مادّة الرياضيّات ضمن مفهومي (الأشكال الهندسيّة، والكسور)، طلبت من الطلّاب جلب موادّ وأشكال (أشياء) من غرفهم تمثّل الدائرة، والمثلّث، والنصف، والربع. وكذلك في درس القسمة، طلبت توزيع الملاعق على الدمى.
في مادّة العلوم أيضًا، قدّمت درس مراحل نمو النباتات بطلبي إليهم زراعة بذور، وتتبع مراحل نموّها، وتسجيل ملاحظاتهم إمّا مصوّرةً أو مكتوبةً. لقد وصلني من الطلبة أشياء لم أكن طلبتها، مثل: رسومات، ومعلومات محاذية للرسم، ووصف تعدّى مرحلة الإنبات، كأسباب موت بعض النباتات، أو أسباب موت البذور، أو عدم نموّها. في إحدى المرات وصلني شريط فيديو مصمم بوساطة برنامج حاسوب لنبتة رسمها طالب، وكتب حولها معلومات، وهو قد استخدم الحاسوب دون أن أطلب ذلك. ناقشت معه قدرته على استخدام الحاسوب، فاكتشفت موهبةً، أظنّني لم أكن لأكتشفها داخل الصفّ.
من الحذر إلى التبصّر
بسبب مخاوف انتابتني حول عدم وصول المفهوم، والفروق الفرديّة الكبيرة بين الطلبة، كنت أعطيهم مهمّات قَبْليّةً تدور حول مفهوم الدرس، لأفحص المعنى الموجود لديهم حوله. مثلًا: في درس تقريب الأعداد، سألت الطلّاب عن معنى التقريب، فدارت أجوبة معظمهم حول طريقة شرح مدرسيّة سابقة، ولم يصلوا إلى معنى التقريب بوصفه مفهومًا مستخدمًا في حياتهم، كتقريب الأرقام داخل محلّ البقالة، أو بوصفه مهارةً متعلّقةً بالعمليّات الحسابيّة الأساسيّة. هكذا كنت أقدّم لهم مفاهيم الرياضيّات عبر مشكلات حياتيّة فعليّة، لتكون الرياضيّات مهارةً يوميّةً، لا بطاقة تعلّم إلكترونيّةً مجرّدةً.
من أسباب دهشتي خلال هذه المدّة، طريقة الطلّاب في أداء المهمّات والواجبات المعطاة لهم، وتقديمهم حلولًا إبداعيّةً فيها، واستخدامهم أساليب ممتعةً خلال ذلك، بدءًا من استخدام الصلصال الملوّن في تشكيل الأرقام، وليس انتهاءً بتصميم ألعاب إلكترونيّة مذهلة، وقد صمّم طالب كبسولة زمن أيضًا بمساعدة والدته المهتمّة بالحاسوب.
أرسل لي والد أحد الطلبة ملحوظةً عقب تقديم المهمّة، قائلًا: "أمضى ابني ثلاث ساعات في صنع المِعداد، وتصوير الفيديو، وتحريره، وإرساله بالتنسيق الصحيح، وقد تشارك في صنعه مع إخوته وجدّتهم." ثمّ عقّب على كلامه: "أتمنّى عودتهم إلى المدرسة، فلو كانوا معك هناك، لشرحتِ لهم المفهوم في ثلاث دقائق!". صدمت لدى سماع ذلك؛ هل كنتُ ألقّن المعلومات للطلبة؟ وهل إرسال واجب إلكترونيّ يحلّه الطالب في دقيقتين وجه آخر للتلقين؟ كلّما تلقّيت مهمّة منفذّة بطريقة إبداعيّة، ورأيت التنوّع لدى الطلبة في إنجاز المهمّات الموكلة إليهم، ذهبت أفكّر: كم مرّة كنّا بوصفنا معلّمين أدواتِ قتل لإبداع طلبتنا داخل المدارس!
التعاون مع الأسرة
لا شكّ لديّ في أنّ الممارسة تقود لممارسة أفضل، مع اطمئناني إلى جدارة ممارسات التعلّم الذي يتحقّق بالخبرات المباشرة والممارسات العمليّة، كالتعلّم باللعب، لا سيّما خلال الحجر المنزليّ للأطفال مع أقرانهم. إنّه تعلّم يلبّي حاجات الطفل من مهارات حياتيّة يكتسبها بنفسه عبر التجريب، ويجعل الحجر المنزليّ ذا منفعة. حاولت فيما بعد نقل مفهوم استثمار المنزل من أجل إنتاج وسائل تعليميّة تفاعليّة تنمّى مهارات الأطفال بمساعدة الأمّهات والأسرة، فاجتمعت ببعض الأمّهات، وتساءلت عن الوسائل التعليميّة التي قد تستخدمها كلّ أمّ مع أطفالها؟ فلو كانت الموادّ الحاضرة في البيت فقيرةً، كيف أُنتج من الأشياء الموجودة تعلّمًا تفاعليًّا محسوسًا ينجذب الطفل إليه؟ بدأت بنشاط عن شيء يوجد في حقائبهنّ يستخدمنه لشرح مفهوم معيّن لأطفالهنّ في مادّة تختارها الأمّ. وإليكم بعض هذه الأشياء والتعلّمات المرتبطة بها:
- بطاقة الهُويّة الشخصيّة:
ماذا لو صمّم كلّ طفل هويّةً شخصيّةً خاصّةً به، كيف ستكون؟ ما مكوّناتها؟ ماذا عن معرفة شجرة العائلة، ومعرفة البلد التي ولد فيها؟ ألسنا ندرّس هذا في مفهوم الجنسيّة ومتعلّقاته في مادّة "التنشئة الوطنية"؟ ماذا عن حساب عمره من تأريخ ميلاده، أو تعامله مع الأرقام؟
- المحفظة والعملات النقديّة:
أليس جلد الحيوانات واختلاف كسائه في صميم مبحث العلوم؟ أنواع العملات وأجزاؤها تأتي ضمن الثقافة الماليّة والحساب. أمّا تصميم العملة من أماكن وأشخاص فهو باب لدراسة الفنون والجغرافيا والتاريخ.
- علبة المعقّم:
تأريخ الإنتاج ومدّة الصلاحيّة، ومحاذير الاستخدام، والتركيب الكيميائيّ، وحروف اللغة الإنجليزيّة الكبيرة الموجودة على العلبة، كلّ ما سبق فرصة لتعلّم شيء متصل بالمفاهيم التي نتناولها في المدرسة.
ما سعيت إليه في هذا النشاط هو أن تبتعد الأمّهات عن الطريقة التقليديّة في تدريس أطفالهنّ، وأن نربط التعلّم بالحياة اليومية من خلال استثمار الأشياء الموجودة حولنا، وأن يشغّل الطفل أكثر من حاسّة في عمليّة التعلّم بإنتاجه وسيلةً تعليميّةً. إنّ هذه الطريقة في التعليم تغذّي الإبداع، وتنمّي جوانب عمليّةً مهمّةً له في هذه المرحلة النمائيّة.
ختامًا، فلنجعل أطفالنا منتجين لتعلّمهم، فلو كان الطفل أمام حاسوبه في المنزل، أو أمام المعلّم في غرفة صفيّة، فإنّ التلقين في الحالين يصنع منه تابعًا. دورنا هو أن ننقله من طور التلقّي إلى الإبداع، والتفاعل، وتنمية المهارات. ما حدث جعلني أرى أنّ التعليم عن بعد قد يتفوّق على التعليم الحضوريّ في الغرفة الصفّيّة، ما دام يلبّي حاجةً محسوسةً عند الطلّاب، ويُقدم خبرات تعلّم ملائمةً لهم فرديًّا. إنّ الوسيط الإلكترونيّ يجب ألّا يكون أداةً لنقل التلقين من الغرف الصفيّة إلى منصّات التعلّم الإلكترونيّ. ثمّة قائمة طويلة من المهارات الإبداعيّة، والرقميّة، واليدويّة التي يمكن دمجها في مهمّات تعلّميّة، خاصّةً مع كون العالم يستثمر أكثر فأكثر في التقنيّات الحديثة.