إعزاز التلميذ لا إذلاله: من فلسفة السكاكيني إلى فاشه... فإلينا
إعزاز التلميذ لا إذلاله: من فلسفة السكاكيني إلى فاشه... فإلينا
بدر عثمان | مدير تحرير منهجيّات - فلسطين/ قطر

انتشرَ مفهوم التعلّم التحرّريّ في الجنوب العالميّ ردّة فِعلٍ على ما تضمّنَه استعمار الرجل الأبيض من هيمنة اجتماعيّة - ثقافيّة على المُجتمعات المُستعمَرة. وفي حين خضَعت مُجتمعات الجنوب إلى الاستعمار، ومساحات التبعيّة، أطّرَ المركز الأوروبيّ الغالب في مرحلة هيمنتهِ، استدامةَ استعمارهِ باستعمار ذاتيّ يُمارِسهُ الجنوبيّون على أنفسهم، باعتبارهم، كما يدّعي المسؤول الأوّل عن الوضع الذي هُم فيهِ.

يُقارب إدوارد سعيد في كِتابهِ الأثير "الثقافة والإمبرياليّة" هذا المنطق الاستعماريّ والاستشراقيّ، مُوظِّفًا رواية البولنديّ جوزيف كونراد "قلب الظلام" (Heart of Darkness) في فهم ديناميّات الاستعمار العميق بالثقافة؛ إذ صَمّم الاستعمار ظهور البرجوازيّات القوميّة، والتي استمرّت بحكمِ البلاد على نمط يتمحور حول السيّد الأبيض (سعيد، 2014). ويذكر سعيد (2014) في أحد انتقاداته للبرجوازيّات الجديدة، أنّها تُلقِّن إجلال الأُمّة والإعجاب بالتراث، في الوقت الذي تتشابك فيهِ مع بعضها بعلاقات اجتماعيّة - اقتصاديّة، للحِفاظ على مصالحها بصلابةٍ واضحة.

وفي نظرةٍ إلى المدرسة، كونها نِتاجًا شكلانيًّا للمركز الأوروبيّ الغالب، ورّثهُ للهامش العالميّ المغلوب، يُمكنُ توجيه النقد بحدّة ووضوح كونها أداة صنعتها الدولة، ضمن سياق طويل من عنفها الرمزيّ، لمُمارسة خفيّة للحِفاظ على إعادة إنتاج طبقة معيّنة، وحفظ طبقة اجتماعيّة أُخرى في موضع القوّة (فوكو وتشومسكي، 1971).

وفي سبيل ذلك، تقدّم هذه المقالة نقدًا للمدرسة بشكلها الحديث أساسًا، لفهم عمليّة التحرّر. وتعرضُ تجربة المدرسة الدستوريّة في القدس، والتي أسّسها التربويّ الفلسطينيّ خليل السكاكيني، نموذجًا لمعنى التحرّر الأصيل المُرتبط بالسياق المحيط بهِ ارتباطًا طبيعيًّا. وتعرض جزئيًّا، المجاورةَ ممارسةً تربويّةً طوّرها منير فاشه نموذجًا تعلّميًّا تحرّريًّا.

 

في مفهمة المدرسة

يصحّ النظر إلى المدرسة في هذا السياق على أنّها مصنع ثقافيّ للطبقة الوسطى، أو شكل يذوّب الفرد في إطار سُلطة المعلّم، ضمن منطوقٍ يُسهم في تعزيز سيطرتها المُستمدّة من نماذج صنعتها، وملّكتها أدوات القوّة، وفي خلق فهم لهذه الأدوات على أنّها السبيل الوحيد للوصول إلى المعرفة أو العلم. ومن المؤكّد أنّ سطوة شكل المدرسة الحديث، وفرضهِ على العالم شكلًا أوحدَ للحصول على المعارف، أسهم إسهامًا راديكاليًّا في القضاء، إلى درجة كبيرة نسبيًّا، على الأشكال المحلّيّة، والتجارب الشخصيّة لعمليّة التعلُّم. وفي هذا حصر، ليسَ للمدرسة بشكلها الحديث، أي مكان المعرفة الأوحد من ناحية المضمون، بل كذلك، من ناحية الشكل والأسلوب.

عزّز انتصار بريطانيا في الحرب العالميّة الأولى تأسيسها مؤسّسات تعليميّة تُحيط بها هالات هائلة، وخرافات كُبرى، مُتعلّقة بحصرها كأنّها مؤسّسة التعليم الوحيدة، أو أنّ التعليم، مفهومًا، عليه أن يستمدّ شكله ومضامينه ومعناه منها. وعُزّزت هذه الرؤية الاستشراقيّة بسطوة هائلة للمُستعمر المُنتصر الذي ما انفكّ يُمرّر سطوته في المجال التربويّ، بمؤسّسة لا تختلف كثيرًا في طريقة إدارتها عن طريقة إدارتهِ للعالم؛ تصنيف الناس تمهيدًا للحُكم عليهم وتهميشهم. وبهذا الشكل الحديث للمدرسة، بات دورها، حسب بيير بورديو، مُنحصرًا ضمن نقاط، منها: مُمارسة العنف الرمزيّ، وتعميق التفاوتات الاجتماعيّة، وتكريس التراتبيّة الطبقيّة، وإعادة الإنتاج الاجتماعيّ (بورديو وباسرون، 2007).

نفترض في هذا النصّ عدم إمكانيّة التعامل مع المدرسة مفهومًا لا تاريخيًّا (ahistorical)؛ أي قراءتها بمعزل عن السياقات النظريّة والسياسيّة، وبطبيعة الحال، عدم فصل المفهوم عن سياقه الاجتماعيّ - التاريخيّ، لئلّا تبدو المدرسة، خارجة عن سياق المجتمع الواقعيّ اليوميّ.

غاية الحديث عن شكل المؤسّسة عدم تزامنه مع نوع تعليم بنكيّ من حيث المضمون، وقمعيّ من حيث الشكل، إنّما مع مناهج تؤسّس لمصادرة التاريخ واحتقار الذات والنظر إلى الغرب مساحةً مثاليّةً، للسعي إليه والتشبّه به وبقيمه، مع حذف المحلَلة (جعل المحلّيّ سياقًا أو مادّة) والمحلّيّة والتجارب السابقة، والبناء عليها. وهُنا، ووفقَ ميشيل فوكو (1971)، تؤدّي هيمنة المفهوم دورًا شبكيًّا في قمع مفاهيم أُخرى سابقة، تمحور هذه المفاهيم الجديدة المعنى حولها، وتمنطق التفكير حصرًا بها.

 

المدرسة الدستوريّة في القدس: في معنى التعلّم؛ في معنى التحرّر

في مقالتهِ "حول رؤية السكاكيني في التعليم وتأسيسه المدرسة الدستوريّة"، يُمفهم منير فاشه (2018) نقطةً جوهريّةً في رؤية التربويّ الفلسطينيّ خليل السكاكيني، هي نقده الراديكاليّ للتقييم الأُفقيّ - الرأسيّ في المدرسة بشكلها الحديث. ويؤطّر فاشه نقد السكاكيني مُستهلًّا اقتباسًا من جلال الدين الروميّ: "ربّما تبحث بين الأغصان عمّا يظهر فقط في الجذور"، بصفتهِ، أيّ التقييم المذكور، يُلغي بالضرورة التمايز والتفرّد عند كلّ طالب، وهو ما رآه السكاكيني منطقًا يتعارض وكرامة الإنسان التي ترتبط باحترام التنوّع في الحياة أوّلًا، ومن الإطار الذي توسّعنا بطرحهِ في بداية المقالة ثانيًا، والذي عبّر عنه السّكاكيني بجُملة، باتت لاحقًا عنوانًا أثيرًا لأحد كُتبهِ: "الاحتذاء بحذاء الغير".

انطلق السكاكيني بالمنطق الضدّ للمدرسة بصفتها موروثًا استعماريًّا، مُقدّمًا نموذجًا فريدًا في التجربة التربويّة العربيّة: المدرسة الدستوريّة في القدس 1909، والتي أسّسها تحتَ شِعارٍ "إعزاز التلميذ لا إذلاله"، وترجمهُ بـِ"لا علامات ولا جوائز ولا عقاب" (فاشه، 2018). يُقارب فاشه فلسفة السكاكيني بقولٍ هنديّ قديم "كلّ إنسان كامل بشكلٍ فريد"، ويفسّر رؤية السكاكينيّ في بناء نموذج تربويّ من أسفل؛ بمعنى نموذج يعتمدُ محلَلة (Localization) السياق الأهليّ المُحيط، ومتطلّباته، وكرامة الإنسان، فتتّحد في معنى أنّ "كلّ إنسان فريد وليسَ فردًا". ومن هُنا، كيف يُمكننا القيام بعمليّة تقييم جماعيّة، من مؤسّسة تعتمدُ نموذجًا أُفقيًّا في المعرفة والمأسسة والتقييم؟

 

خليل السكاكيني: إنسان إن شاء الله*

مهّد السكاكيني، بمثاله التطبيقيّ في المدرسة الدستوريّة في القدس، نظريّةً ومُمارسةً، لنقدٍ تفكيكيٍّ لبُنى المدرسة من الخارج والداخل. ففكره التنظيريّ الذي ركّز على الأسلوب أساسًا للمحتوى، أتاح أمام الطالب مساحات من الاستكشاف والبحث والتجريب. وبالتالي، جَعل الطالب محور عمليّة تعلّمهِ، بدور ووكالة أو فاعليّة ذاتيّة، مع تعزيز مُستمرّ من المعلّم على بثّ الدافعِ واستكشاف موازٍ للمعاني والطرائق والمفاهيم. وقد يعكس الاقتباس الآتي ذلك في تكثيف عميق من قائله السكاكيني: "نعلّم طلّابنا التاريخ لا ليعرفوا التاريخ، ولكن ليكونوا مؤرّخين، نعلّمهم الأدب لا ليعرفوا أصول الأدب، ولكن ليكونوا أدباء. نعلّمهم اللغة لا ليعرفوا اللغة، ولكن لينزلوا منها منزلة أهلها. ونعلّمهم الرياضيّات لتكون لهم أدمغة رياضيّة" (حسن، 1987). في الوقت نفسه، يُتيح هذا التعلّم المتمحور حول تجربة الطالب الشفّافة مع نفسه، استكشاف ما يُحسنه، وما تنطلق فيه موهبته. وهذا لا يتأتّى إلّا باستكشاف أمور مختلفة، فالطالب في المدرسة الدستوريّة كان طالبًا مُجرّبًا، يُجرّب المشي في الطبيعة، ويستكشف التسلّق وأنواع الأشجار والورود، ويجرّب تذوّق الشعر والآداب، ويُمارس الجمباز، بمنطقٍ يؤدّي مقصد التعليم النهائيّ وفقًا للسكاكيني، وهو "توسيع المدارك وتقوية العقل".

شَمِلَ نموذج المدرسة الدستوريّة نِظامًا قائمًا على حرّيّة الطالب ليسَ في التعلّم فحسب، وإنّما في الحضور إلى المدرسة أيضًا. فلا نُظم حضور وغياب في المدرسة الدستوريّة، من مُنطلق أنّ الاهتمام يدفع الطالب طبيعيًّا إلى الحضور. يتكامل المشروع السكاكينيّ بثلاثيّة تتنافذُ حوارًا لتعلّمٍ تحرّريّ مُشترك: الطالب قائدًا حقيقيًّا لتعلّمهِ؛ ومُجاوِرًا للمعلّم الذي يحاورهُ في تجربتهما الاستشكافيّة؛ ومُعزّزًا كرامة الطالب والمعلّم. يُكثّف في اقتباسه الشهير "وإنّي أشكر الله أنّي أوّل من نادى في هذه البلاد بتحرير التلميذ، ولم أزل منذ تولّيت عملي أنادي بتحرير التلميذ وبناء تربيته على إعزازه لا إذلاله" (حسن، 1987).

 

Photo

 

السرّ في الخلطة: بين منير فاشه وبيير بورديو

من قراءته نموذج تجربة السكاكينيّ المُلهم، وتجاربه المُمتدّة في خلق حالة تعلّميّة، طوّر المعلّم فاشه نموذجهُ في التعليم التحرّريّ، وكثّفهُ في "المجاورة" لخوض تجربة لا تنطلق من المحاورة، ولا تقتصر عليها، فهي تستقي من تجارب الحياة مصدرًا، والتشارك أسلوبًا، والتنوّع معنىً. فالمجاورة، إذًا، وسيط تعلّم وفهم لا سلطة داخليّة فيهِ، ولا سلطة خارجيّة عليهِ، يتكوّن من مريدين ومرادين. تطرحُ المجاورة نموذجًا مُتحرّرًا من سُلطة المعرفة، كونها تتكوّن بتأمّل عميق في تجارب مصادر مختلفة وتفاعلاتها. وهي طريقة أصيلة وكريمة وتحرّريّة لكلّ شخص في المجاورة، كونه "خلطة" فريدة لا تُمكن مقارنتها بأيّ شخص آخر، ويقدّم ذلك بجملتهِ "السرّ في الخلطة"...

يُمكننا مُقاربة مفهوم فاشه "خلطة" بمفهوم بورديو الـ"هابيتوس" (Habitus). فالـ"هابيتوس"، أو التطبّع والسجيّة، كما اصطُلحَ على ترجمته، مفهومٌ مُركّبٌ يوظّفهُ بورديو في سبيل التعبير عن مخطّطات اللّاوعي والإدراك المُكتسبة، والتي تركّبت بفعل السياقات الاجتماعيّة داخل الفرد، ضمن عُنصرَي الزمان والمكان. وأمّا الخلطة، فهي تعبير فاشه عن تركيب الفرد العرضيّ في خضمّ تفاعله مع الجماعة، والذي أقرؤهُ افتراضيًّا ضمن ثلاث عمليّات مُتشابكة ومرتبطة:

فرديًّا: محاولة فهم المُريد للـ"هابيتوس" الذاتيّ فيه، وأخذه بعين الاعتبار التعلُّم لإعادة فكفكة المفهومات الضمنيّة المُكتسبة، والبناء من أجل تكوين معناهُ الفريد.  

جمعيًّا: التحرّر من سياقات السلطة في عمليّة تعلّم تحرّريّة مُتحرّرة من علاقات السلطة الدائريّة، ومتحرّرة من هيمنات المعرفة المرتبطة بالدرجة.

تشاركيًّا: لطرح هذا المعنى الفريد ومشاركته ومداورته ومحاورته مع الجماعة.

فبعدَ الذاتيّة والجَمعيّة، يكون التشارُك مع الانفتاح على التجارب والمعارف المُختلفة، في تفاعلٍ عضويّ يستقي من الحياة مصدرًا وطريقةً، فلا يُفصل التعلّم عن العيش. وهو بالتالي تعلّم مُتحرّر من أدوات السلطة، ومن خرافات الهيمنة، مرتبط بالحياة، يُفيد كلّ مريدٍ بطريقةٍ فريدةٍ، تعتمدُ على الخلطة التي تحملُ سرًّا مُغايرًا ومُدهشًا في كلّ مجاورة.

 

نظرة شخصيّة جدًّا إلى التعلّم التحرّريّ: صباحُ الخير أيّتُها الوردة

لا يُمكننا النظر إلى التعلّم اليوم بمعزلٍ عن السياسات والإجراءات المفروضة من أعلى؛ وفي هذا دعوة إلى فهم ديناميّات الهيمنة والقوّة من أجل الانطلاق بتجربة تعلّم تحرّريّة، تستقي الواقع والطبيعة والسياقات العفويّة مصدرًا مُلهمًا للتعلّم. مع ضرورة الانتباه إلى أهمّيّة النقد؛ النقد الموضوعيّ والواضح والمُستمرّ والمنهجيّ لعمل المدرسة، ولعلاقات الهيمنة المختلفة التي تُمارس في الأروقة، بما يؤسّس لمرحلة نضاليّة تحرّريّة. وعدا هذا النقد، ووجودهِ شرطًا أساسيًّا للتحرّر والتحرير، فإن كلّ ما نفعلهُ في السياق التربويّ هو أنّنا نُغامرُ بأن نرى إعادة إنتاج المعلّم والطالب.

يصحّ القول إنّ التعلّم التحرّريّ حاجةٌ أساسيّة للطالب والمعلّم معًا، فهما بحاجةٍ إلى حوار عميق يفهمانِ فيهِ الواقع، ويخطّطان لسيرهما المشترك في عمليّة التعلّم. إذًا، هو أداة أساس للفهم والتحليل والتفكيك وإعادة البناء. أداة مُشتركة لا يُدرِّب على توظيفها المعلّم، إنّما يوظّفها ضمن سياق طبيعيّ صادق.

هُنا أستندُ إلى حوار مع الروائيّ الأوروغوانيّ إدواردو غاليانو ألهمني كثيرًا، أستعينُ بهِ للنظر في مسألة التعليم من ثلاثة مناحٍ:

المنحى الأوّل

نحنُ بحاجةٍ إلى تأمّل الأمور العظيمة المُختبئة في التفاصيل الصغيرة، والانتباه إلى تزييف الأمور التي تبدو ضخمةً، ولا سيّما أنّنا نعيش في عالم يربط، ربطًا مَرَضيًّا ومُباشرًا، بين أهمّيّة الأمور وحجمها.

المنحى الثاني

الحاجة المُستمرّة إلى إبقاء عين على المجهر، وأُخرى على المنظار، ما يُمكّنُنا من النظر في أمور لم يُتطرَّق إليها، مع أنّها تستحقّ الاهتمام والانتباه، وتوازي تأمُّلنا في الكون. وهي مهارة النظر إلى الأمور الكبيرة بالتفاصيل.

المنحى الثالث

القدرة على استعادة الطفولة، بالمعنى المُدهش للكلمة. يذكر غاليانو مثالًا عن طفلة كانت تعيشُ في حيّهِ، وكانت تُحيّي العُشب والورود يوميًّا، "صباحُ الخير أيُّها العشب"، وهذا؛ أي إيمان الأطفال بالطبيعة، هو ما يجعلهم شعراء بالفطرةِ، وهذا ما يقوم العالم بتشذيبهِ في الإنسان، فيخفتُ وهج الطفولة.

إنّ القراءة التنافذيّة (Osmosis) بين مفهوم المدرسة إرثًا استعماريًّا، ومفهوم مدرسة السكاكينيّ، ولمحة من مجاورة فاشه، ونظرة غاليانو إلى الحياة، تدفعُ بي إلى بناء عناصر تجريبيّة لفهم التعلّم التحرّريّ. هذه ليست محاولة لتعريف المفهوم، أو ضبطه، ففي هذا حدٌّ لمنطقه واتّساعه ومساحاته، إنّما أعتبرهُ فهمًا مرحليًّا ديناميًّا للمفهوم، وفاقًا للمرحلة والتجربة. وأراهُ يتركّب في أربعة عناصر:

1. الذات: في بحثها الصادق عن المعرفة التي تثير اهتمامها. وفي المعنى المتفرّد الذي تخلقه عمليّة البحث والتجربة والاستكشاف.

2. السياق من حولنا: التأمّل في سحر السياق وتفاصيله، والانتباه إلى الدهشة.

3. التحرّر فعلًا، لا ردّ فِعل: فهم عمليّة التعلّم التحرّريّ بصفتها فِعلًا مُستمرًّا للتغيير، والتفكير، والتعديل. والتنوّع والتعدّد وفهم ذلك في سبيل متحرّر متحرّك.

4. ذهنٌ متّقد: متفتّح للتجربة والمعارف، وحاضر لفكفكة معرفته، في سبيل التحقّق والتغيير والتجدّد.

 

"قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنه"

لا يصحّ النظر هُنا إلى المدرسة الدستوريّة في القدس، أو المجاورة وسيطًا للتعلّم، على أنّهما تَحوّل في النموذج الفكريّ (paradigm shift) للمدرسة أو التعلّم، إنّما بوصفهما نموذجًا تحرّريًّا للتعلّم الأصيل المرتبط ارتباطًا عضويًّا بالأهل والطبيعة المُحيطة والعافية، مُقاوِمًا، بطبيعة الحال، هيمنةَ المفهوم مقاومة ضيّقة، وللاستعمار مقاومة واسعة.

أُسّس النموذجان انفكاكًا مُلهمًا عن المركزيّة الأوروبّيّة لمفهوم المدرسة، آخذين مُحيط التعلّم مادّةً، ومصطلحات الأهل والمُجتمع منهجًا، وإعزاز الطالب أساسًا؛ فهما لا يكسران هيمنة المؤسّسة بصورتها المركزيّة فقط، بل يفتحان أمام المتعلّم فعّاليّة ووكالة في نقد النموذج ذاته. كما يفتحان المجال للتغيير شكلًا ومضمونًا وفق التغيُّر الزمنيّ ومتطلّباته، ويُتيحان أمثلة مُمتازة لمعلّم اليوم، لتوظيفها مع طلّابهِ في بيئته الصفّيّة. فالمدرسة الدستوريّة تُلهم في إعادة النظر إلى الطالب إنسانًا كريمًا علينا إعزازه وتعريضه إلى تجارب مُختلفة من أجل تعزيز مهاراته، ثمّ ترك القرار له للتخصّص والاستكشاف. والمجاورة، تفتح المجال لكسر سُلطة المعلّم ومداورة هذه السلطة في الصفّ بين المتعلّمين، كلّ متعلّمٍ فريد، وهو بالتالي إضافة جوهريّة للصفّ، وعلينا استكشافه تمهيدًا لمعرفة المتعلّمين، كلٌّ على حدةٍ، وبما يُحسنونه.

 

* * *

أمّا في سياقنا اليوم، فيصحّ النظر إلى الغرفة الصفّيّة قاعدةً للتعلّم التحرّريّ، كلّ طالب هو مُريد وفريد، يسعى لتكوين معناه الخاصّ، ويسعى بذلك معلّمه برفقتهِ في رحلةٍ تعلّميّة فطريّة وعفويّة، في بيئة تعلّميّة حاضنة، بلا أوهام كبيرة، ولا مسؤوليّات هائلة على عاتق طفلة صغيرةٍ وطفلٍ صغير، يريدانِ الوصول إلى وردةٍ في الحديقة ليلقيا تحيّات الصباح عليها. وفي هذا معنىً تحرّريٌّ أعتقدُ أنّ علينا التأمّل فيهِ طويلًا.

 

المراجع

* ما كتبه خليل السكاكيني على بطاقته الشخصيّة التعريفيّة. وهي من تصوير د. سليم تماري، من مجموعة مركز خليل السكاكيني الثقافي، رام الله.

- سعيد، إدوارد. (2014). الثقافة والإمبرياليّة. دار الآداب.

- فوكو، ميشيل وتشومسكي، نعوم. (1971). مناظرة الطبيعة البشريّة: العدالة ضدّ السلطة.

- بورديو، بيير، جان- كلود، وباسرون. (2007). إعادة الإنتاج: في سبيل نظريّة عامّة لنسق التعليم. المنظّمة العربيّة للترجمة.

- حسن، نوّاف عبد. (1987). خليل السكاكيني: بين الوفاء والذكرى. الطيّبة: مركز إحياء التراث العربيّ.

- فاشه، منير. (2018). حول رؤية السكاكيني في التعليم وتأسيسه المدرسة الدستوريّة. مجلّة 28.