عاد ملايين الطلبة في العديد من بلدان العالم إلى مدارسهم في ظلّ مشاعر مختلطة بين الحماس والسعادة من جهة، والخوف من جهة أخرى. الطلبة تاقوا للقاء زميلاتهم وزملائهم ومعلّميهم بعد انقطاع طويل، والمعلّمون تشوّقوا للعودة إلى الغرف الصفيّة، والتفاعل المباشر مع الطلبة. من الناحية الأخرى فإنّ الجميع يعلم أن وباء كورونا لم يختفِ وما زال خطره كامنًا، وقد يعود للانتشار في أيّة لحظة، ولا شكّ أنّ العودة إلى المدارس تزيد من احتمال تفشّي الوباء، حتى مع الالتزام بالإجراءات الوقائيّة بالكامل.
في إطار الاستعداد للعودة للمدارس، وُضعت الخطط المفصّلة، التي تتناول محورين أساسيّين: الأوّل هو الإجراءات الوقائيّة الواجب اتّخاذها والالتزام بها لتخفيض احتمال انتشار العدوى، والثاني هو كيفيّة تنظيم عمليّة التعليم استنادًا إلى ظروف كلّ بلد وكلّ مدرسة. تأتي هذه المقالة لتناقش آثار هذه الخطط على العمليّة برمّتها.
الإجراءات الوقائيّة
المحور الأوّل من خطط العودة إلى الدراسة يشمل تدابير احترازيّةً تتعلّق بجوانب الحياة المدرسيّة جميعها، وتبدو هذه التدابير متشابهة في معظم البلدان. تبدأ بقياس درجة حرارة الطلبة والموظّفين عند دخولهم المبنى المدرسيّ، كما تشمل إجراءات التباعد الجسديّ في المرافق والأوقات جميعها، ابتداءً من الدخول إلى المدرسة وانتهاءً بمغادرتها. كما تشدّد التدابير على أهميّة استخدام أدوات الوقاية الشخصيّة من كِمامات ومعقّمات، إضافةً إلى الالتزام بالنظافة الشخصيّة، والاستمرار بغسل اليدين وتعقيمهما، وبكيفية العطس والسعال. وتحدّد أيضًا أوقات تنظيف المرافق المدرسيّة وتعقيمها، والموادّ الواجب استخدامها في عملية التعقيم.
تمتدّ قائمة التدابير الاحترازيّة لتشمل بروتوكولات لسيناريوهات مختلفة، مثل سيناريو ظهور الأعراض على أحد الطلبة أو الموظّفين أثناء تواجده في المدرسة، أو أثناء تواجده في البيت، وسيناريو إصابة فرد من افراد أسرة أحد الطلبة، أو الموظّفين... وغيرها من السيناريوهات.
تنظيم عملية التعلّم/ التعليم
المحور الثاني من هذه الخطط يخصّ طريقة إدارة العمليّة التعلّميّة/ التعليميّة، والتي تتبنى في معظم الحالات التعلّم والتعلّيم المدمجَين. إنّ الالتزام بتعليمات التباعد الجسديّ يحدّ بلا شكّ من عدد الطلبة المسموح لهم بالحضور إلى المبنى المدرسيّ في الوقت نفسه، ما يعني عدم قدرة غالبيّة المدارس على استقبال جميع طلبتها يوميًّا طيلة وقت الدوام.
لذلك، تنظّم المدرسة حضور أقسام مختلفة من الطلبة في أوقات مختلفة خلال الأسبوع، على أن يتعلّم الطلبة الذين لا يحضرون إلى المدرسة من المنزل باستخدام وسائل متنوّعة تعتمد على إمكانات البلد والمدرسة. ومنّ أهم الوسائل المستخدمة في التعلّم عن بُعد: الإنترنت، والمذياع والتلفاز، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، والملفّات الورقيّة، والهاتف.
لقد كانت الأشهر القليلة الماضية تجربةً مفيدةً للتعلّم والتعليم عن بُعد، إذ أغلقت العديد من البلدان المدارس، وواصلت العمليّة التعليميّة باستخدام الوسائل المختلفة للتعلّم والتعليم عن بعد، واستطاعت أن تراكم تجربةً لا بأس بها لتطوير الأداء في هذا المجال، ما قد يؤدّي إلى تطبيق التعلّم والتعليم عن بعد بصورة أكثر فاعليّةً وإفادةً للطلبة في المرحلة الحاليّة.
أهميّة التعليم الحضوريّ محلّ اتّفاق كبير، وإنّ له بعض الميزات التي لا تتحقّق في التعليم عن بُعد، ولو استخدمت أكثر الوسائل والأدوات تطوّرًا. لذلك، سعت الأنظمة التعليميّة في البلدان جميعها إلى العودة، قدر الإمكان، إلى التعليم وجهًا لوجه.
ثمّة سببان هامّان آخران للسعي إلى عودة هذا الشكل من التعلّم والتعليم: الأوّل هو عدم نجاح التعليم عن بُعد في العديد من البلدان نتيجةَ ضعف الإمكانات والبنية التحتيّة اللازمة، والثاني هو حاجة أولياء الأمور للعودة إلى أماكن عملهم، ونتيجةً لذلك صعوبة بقاء الأطفال في المنزل وحدهم.
ميزات ممتنعة
لعلّ من أهمّ ميزات التعلّم/ التعلّيم الحضوريّ توفيرَ بيئة ملائمة، يستطيع الطلبة والمعلّمون التفاعل فيها عن قُرب، ما يُعزّز عمليّة التعلّم، ويتيح المجال لاستخدام أساليب واستراتيجيات تفاعلية تساهم في تطوير المهارات الاجتماعيّة لدى الطالب، وتنمية شخصيّته، وتعزيز مفهوم أنسنة التعليم.
عند العودة إلى المدارس، تبيّن أنّ الاستفادة من هذه الميزات تكاد تكون شبه مستحيلة في ظلّ الإجراءات الوقائيّة المشدّدة التي تُلزم الجميع ارتداء الكمامات، وعدم الاقتراب من الآخرين، والبقاء قدر الإمكان في مجموعات صغيرة (فقاعات) في المكان نفسه طيلة اليوم المدرسيّ. ومن أبرز الأمثلة على هذه الصعوبات:
- عدم تمكّن الطلبة من العمل في مجموعات صغيرة بصورة فعليّة، إذ يُحظر عليهم الاقتراب من بعضهم، ما يحدّ من التعلّم التعاونيّ.
- تقليص استخدام الأدوات التعليميّة، وهي التي تساعد الطلبة كثيرًا في التعلّم باستخدام الحواسّ المختلفة. وسبب هذا التقليص هو محاولة الحدّ من تشارك الأدوات المستخدمة بين الطلبة، إذ يتطلّب ذلك تعقيمها بعد كلّ استخدام، وهو ما يتعذّر واقعيًّا. وبذلك يتأثّر استخدام أسلوب التعلّم من خلال المشاريع كثيرًا.
- صعوبة النقاش في الصفّ والاستماع للطلبة والمعلّم نتيجة ارتداء الكِمامة التي تحدّ من وضوح الصوت وقوّته، كما تمنع ظهور انفعالات الوجه وتعبيراته، بالإضافة إلى التباعد الذي يدفع المتحدّث لرفع صوته كي يسمعه الآخرون ما يشكّل عبئًا على الجميع، وذلك يحدّ من أسلوب التعلّم القائم على البحث والتساؤل.
- صعوبة استخدام مرافق مختلفة للتعلّم في المدرسة بسبب الالتزام بعزل المجموعات عن بعضها للتقليل من الاختلاط.
- صعوبة إعطاء المعلم مهمّات للطلبة للعمل عليها فرديًّا، وصعوبة التنقّل بينهم لتقديم المساعدة لهم بصورة فرديّة. وذلك للمحافظة على التباعد. فإذا أراد المعلّم نقاش أحد الطلبة سيستمع جميع طلبة الصفّ للنقاش. وهذا يحدّ من قدرة المعلم على استخدام التمايز في التعليم ومراعاة الفروق الفرديّة.
- إذا واجه أحد الطلبة صعوبةً ما، لا يستطيع إبلاغ المعلّم عنها في الصفّ على انفراد للمحافظة على الخصوصيّة دون أن يستمع له بقيّة الطلبة وذلك بسبب الالتزام بالتباعد أيضًا.
- تشديد إشراف المعلّمين على الطلبة في أوقات تواجدهم في المدرسة جميعها للتأكد من الالتزام بالإجراءات الوقائيّة مما يحدّ من حريّة الطلبة في التفاعل بينهم، والشعور بخصوصيّتهم.
- إيقاف شبه كامل لكلّ الأنشطة الجماعيّة التي من شأنها تعزيز بناء المجتمع المدرسيّ، مثل الاجتماعات التي تشمل جميع الطلبة، أو الاحتفال بمناسبات معيّنة، أو المباريات الرياضيّة، أو تقديم العروض الفنيّة.
- الحدّ من المحتوى التعليميّ لبعض الموادّ مثل الفنون البصريّة، والموسيقا، والدراما، والرياضة. وذلك للمحافظة على إجراءات التباعد. في الرياضة مثلًا، تكاد تكون الألعاب الجماعيّة شبه مستحيلة كما يصعب تعلّم الغناء في مادة الموسيقا لضرورة ارتداء الكمامات.
يُضاف إلى هذه الصعوبات التي تواجه عمليّة التعلّم/ التعليم بعد العودة إلى المدارس في ظلّ الإجراءات الوقائيّة الخوف والقلق لدى الطلبة والمعلّمين والأهالي من الإصابة بالوباء، ما يشكّل عائقًا أساسيًّا لعمليّة التعلّم، فلا بدّ من توفير برامج إرشاديّة مكثّفة تعمل على السماح للطلبة والمعلّمين بالتعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم ومناقشتها، وعمل الاختصاصيين النفسيّين على تخفيف هذه المخاوف. ويتطلّب ذلك من المدرسة البقاء على تواصل مستمرّ مع الأهالي والطلبة والموظفين، وإطلاعهم على آخر مستجدات الإجراءات المتّخذة، للحفاظ على سلامة الجميع كما يتوجّب على المدرسة مراجعة الإجراءات بصورة دوريّة لتعديلها بناءً على ما يستجدّ من أحداث وتطوّرات.
خلاصة
إنّ مواجهة هذه الصعوبات ومحاولة التخفيف من وطأتها تتطلّب التفكير والعمل المشترك من قبل التربويّين بجميع فئاتهم، لإيجاد بدائل أو حلول كي لا يتحوّل التعليم الحضوريّ إلى الاعتماد على أسلوب المحاضرة فقط، ما سيعيدنا عقودًا إلى الخلف. تستطيع التكنولوجيا المساعدة في مواجهة بعض هذه الصعوبات باستخدام تطبيقات إلكترونيّة تيسّر التعلّم التعاونيّ والتفاعل بين الطلبة، ولكنّ ذلك يتطلّب توفّر بنية تحتيّة ملائمة مثل شبكة إنترنت قويّة، وأجهزة حاسوب محمول مع الطلبة، وذلك بالتأكيد ليس متاحًا للأغلبيّة. ولو افترضنا أنّ ذلك متوفّر في المدرسة، يبرز السؤال: لماذا لا يبقى الجميع في البيت، ويكون التعلّم عن بعد باستخدام التكنولوجيا طالما أنّنا سنعتمد عليها أثناء التعلّم الحضوريّ؟
إنّ العودة إلى المدارس تترافق مع العديد من التحدّيات الجديدة التي تحتاج إلى تضافر الجهود لمواجهتها سريعًا، وإيجاد الحلول لها والبدائل للمحافظة على ميزات التعلّم/ التعليم الحضوريّ، وإلّا أصبحت هذه العودة مقرونة بالعودة إلى أكثر أساليب التعليم تقليديّة، وهي التي عفا عليها الزمن. بالإضافة إلى العذاب النفسيّ الذي سيعاني منه الطلبة والمعلّمون والأهالي نتيجة الخوف والرهبة من الإصابة بالوباء.