نظرًا إلى ارتباط اللغة بشكل كبير بعوامل النجاح المهنيّ والأكاديميّ، أصبح الآباء أكثر تشديدًا على تعليم الطفل لغات متعدّدة منذ سنّ مبكّرة. ومع ذلك، تدعم العديد من الأبحاث فكرة أنّ الأطفال لا يستطيعون تعلّم أكثر من لغة فحسب، بل يجب عليهم ذلك. في الواقع، إنّ فوائد التنشئة ثنائيّة اللغة أو متعدّدة اللغات، تتجاوز مجرّد الكفاءة اللغويّة، فهي تشكّل القدرات المعرفيّة للطفل، وفهمه الثقافيّ، وفرصه المستقبليّة.
قدرة دماغ الطفل على تعلّم أكثر من لغة
لفهم سبب قدرة الأطفال على تعلّم لغات متعدّدة، من المهمّ أوّلًا تحليل آليّة عمل دماغهم. من الولادة حتّى سنّ السابعة تقريبًا، يكون دماغ الطفل في أكثر حالاته مرونة، ما يعني أنّه يتمتّع بقدرة عالية على استيعاب المعلومات الجديدة، والتكيّف معها واستخدامها. غالبًا ما يُشار إلى هذه الفترة باسم "المرحلة الحرجة" في ما يتعلّق بتعلّم اللغة، ففيها يعمل الدماغ بشكل استثنائيّ للتمييز بين الأصوات، والهياكل، وقواعد اللغات المختلفة، ويقوم بتخزينها.
يمكن تشبيه هذه القدرة الفطريّة بالإسفنجة، فهي تسمح للأطفال بتشرّب لغات متعدّدة بأقلّ جهد. على سبيل المثال، يمكن للأطفال في البداية التمييز بين الأصوات اللغويّة لجميع لغات العالم، وبحلول شهرهم العاشر، تبدأ هذه القدرة في التراجع، فتنحصر في الأصوات المحدّدة للغات التي يتعرّضون إليها بانتظام. إذا سمع الطفل أكثر من لغة، سيطوّر دماغه مسارات لكلتا اللغتَين، ما يضمن قدرته على التنقّل بين القواعد والأصوات المميّزة لكلّ لغة بسهولة.
مفاهيم خاطئة حول تعلّم لغات متعدّدة
على الرغم من الأدلّة العلميّة، لا تزال هناك خرافات تحيط بتعلّم لغات متعدّدة. من بين المفاهيم الخاطئة الشائعة، أنّ تعلّم لغات متعدّدة من شأنه أن يربك دماغ الطفل، ما يؤدّي إلى تأخّره في الكلام أو التطوّر المعرفيّ. في الواقع، على الرغم من أنّ الأطفال ثنائيّي اللغة قد يخلطون بين اللغات أحيانًا (ظاهرة تعرف بالتبديل بين اللغات)، إلّا أنّ هذا ليس علامة على تشوّش الدماغ، بل هو طريقة طبيعيّة ومتطوّرة للتعامل مع معرفتهم اللغويّة. مع مرور الوقت، يتعلّمون فصل اللغات حسب السياق والمتحدّث، ما يظهر مرونة معرفيّة عالية.
من المفاهيم الخاطئة الأخرى أنّ الأطفال يحتاجون إلى إتقان لغة واحدة قبل تعلّم لغة أخرى، لكنّ هذا الافتراض لا أساس له من الصحّة. أظهرت الدراسات أنّ الأطفال ثنائيّي اللغة يحقّقون الإنجازات ذاتها التي يحقّقها أقرانهم أحاديّو اللغة، وغالبًا بالوتيرة نفسها أيضًا. وفي بعض الحالات، يتفوّقون حتّى على أقرانهم في المهامّ التي تتطلّب حلّ المشكلات، والقيام بمهامّ متعدّدة، بسبب الفوائد المعرفيّة التي تأتي مع إدارة أنظمة لغويّة متعدّدة.
الفائدة الثقافيّة والاجتماعيّة لتعليم الطفل أكثر من لغة
إلى جانب الفوائد المعرفيّة والأكاديميّة التي سيحصل عليها الطفل، فإنّه سيرى أيضًا كيف أنّ تعلّم أكثر من لغة والتحدّث بها، سيوفّر له مزايا ثقافيّة واجتماعيّة عميقة. يعود ذلك إلى ارتباط اللغة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة، فباللغة يكتسب الطفل القدرة على الوصول إلى تقاليد وتاريخ وطرق تفكير متنوّعة، تعود إلى أصل اللغة التي يتحدّث بها. وغالبًا ما يطوّر الأطفال ثنائيّو اللغة شعورًا أكبر بالتعاطف والوعي الثقافيّ، لأنّهم يتعرّضون إلى آراء ووجهات نظر عالميّة مختلفة، ما يجعلهم أكثر تفهّمًا للاختلاف.
كما أنّ القدرة على التواصل بلغات متعدّدة توسّع الفرص الاجتماعيّة، فيمكن للطفل ثنائيّ اللغة تكوين علاقات مع مجموعة أوسع من الناس، وتعزيز العلاقات عبر المجموعات والنوادي الثقافيّة واللغويّة.
أفضل الممارسات لتربية طفل متعدّد اللغات
يتطلّب تعليم الطفل أكثر من لغة اتّساقًا وصبرًا وفهمًا لأفضل الممارسات. في الآتي بعض الاستراتيجيّات الفعّالة:
شخص واحد، لغة واحدة (OPOL)
في هذه الطريقة، يتحدّث كلّ والد لغة مختلفة مع الطفل. على سبيل المثال، قد يتحدّث أحد الوالدين الإنجليزيّة، بينما يتحدّث الآخر بالإسبانيّة. يساعد هذا النهج الطفل على ربط كلّ لغة بشخص معيّن، ما يقلّل التشوّش المحتمل.
اللغة الأمّ مقابل اللغة المتبنّاة
يجب التمييز بين اللغة الأمّ واللغة المتبنّاة، إذ يحدث خلط بين المفهومَين في الممارسة الفعليّة. فاللغة الأمّ هي اللغة التي ينشأ عليها الطفل، وتُعدّ الخيار الطبيعيّ للأسرة، باعتبارها اللغة السائدة في المجتمع، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالانتماء الدينيّ والقيميّ والثقافيّ للبلد. أمّا اللغة المتبنّاة، فهي اللغة التي يكتسبها الطفل في سياقات مختلفة، مثل استخدام الأسرة في المنزل لغة أخرى غير اللغة الأمّ، أو تعليمه في الحضانة والمدرسة بلغة أجنبيّة، أو اختلاطه بأطفال أجانب في بيئات متعدّدة، مثل الأندية والمجتمعات المختلطة.
في بعض الأسر العربيّة، قد تحلّ اللغة المتبنّاة محلّ اللغة الأمّ، خصوصًا إذا كانت الإنجليزيّة أو غيرها لغة التواصل الرئيسة في المنزل، أو في المؤسّسة التعليميّة التي يرتادها الأطفال. في هذه الحالة، لا يقتصر تأثير اللغة المتبنّاة على الجانب اللغويّ فقط، بل يمتدّ ليحمل معه هويّة ثقافيّة وقيمًا، تختلف عن تلك التي تتبنّاها مجتمعات الأطفال الأصليّة. ومن اللافت أنّ بعض الأسر العربيّة التي تعيش في دول غربيّة، تحرص على التحدّث مع أطفالها باللغة العربيّة في المنزل، على رغم أنّ لغة المجتمع مختلفة، فتتمكّن بذلك من تحقيق التوازن بين إتقان الطفل لغة المجتمع، وبين الحفاظ على ارتباطه بجذوره الثقافيّة. وفي المقابل، هناك أسر عربيّة اندمجت تمامًا في ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه، وتخلّت عن اللغة العربيّة، فأصبحت اللغة الأجنبيّة، مثل الإنجليزيّة، هي اللغة الأمّ بالنسبة إلى أطفالها.
لكلّ أسرة حريّة اختيار ما يناسب طفلها، لكن من الضروريّ إدراك أنّ الأولويّة المطلقة يجب أن تكون لتعليم الطفل لغة بلده الأمّ، باعتبارها الأساس الذي تُبنى عليه هويّته وشخصيّته وارتباطه الثقافيّ والمجتمعيّ، فهي الركيزة التي يجب أن تتمحور حولها تنشئته، سواء تعلّمها وحدها، أم إلى جانب لغات أخرى. بذلك، سيكبر الطفل وهو يمتلك قدرة على التفاعل مع البيئات متعدّدة الثقافات، وكفاءة في التواصل بمختلف اللغات المتبنّاة، لكن تحت مظلّة هويّته العربيّة وإتقانه الكامل للغته الأمّ.
الاستمراريّة
الممارسة المستمرّة للغتَين أمر ضروريّ. قد يكون طفلك خجولًا بشأن استخدام كلتا اللغتَين أو إحداهما، لذا، كلّ ما عليك فعله هو دعمه وتشجيعه، بابتكار مواقف يحتاج فيها إلى استخدام اللغتَين يوميًّا.
تنويع أساليب ممارسة اللغة
من المرجّح أن يتفاعل الأطفال مع اللغات أكثر عندما يشعرون أنّها ممتعة. لذا، يمكن أن يؤدّي غناء الأغاني، أو مشاهدة الرسوم المتحرّكة، أو ممارسة الألعاب ثنائيّة اللغة، إلى جعل تعلّم اللغة تجربة جميلة ومحبّبة.
هبة تدوم لطفلك مدى الحياة
نعلم أنّ الأمر ليس بهذه السهولة، وأنّه يتطلّب وقتًا وجهدًا لتعليم الطفل أكثر من لغة. لكن عليك أن تنظر إلى الأمر على أنّه هبة تدوم مع طفلك مدى الحياة. ثنائيّة اللغة، أو التعدّد اللغويّ يثري عقل طفلك، ويوسّع آفاقه، ويزوّده بالأدوات اللازمة للتنقّل في عالم متنوّع، بشكل أكثر مرونة وسهولة. لا تقلق، ستتفاجأ بقدرة طفلك الكبيرة على الالتزام والاستمراريّة، لا سيّما إذا تعلّق الأمر بتعلّم لغة جديدة.
ومع زيادة أهمّيّة وسائل التواصل الاجتماعيّ والمجتمع الرقميّ المتطوّر، أصبح التواصل المفتاح للمكانة الاجتماعيّة والمهنيّة. لذا، فإنّ توفير القدرة على التحدّث بأكثر من لغة للطفل، يعدّ استثمارًا في مستقبله.
المراجع
https://www.communicationcommunity.com/can-i-teach-my-child-two-languages-yes/