من أين نبتت الفكرة؟
بجانب عملي الأكاديميّ، وضعتني أمومتي لطفلين أمام تحدٍّ كبير جعلني أبحث عن بدائل غير عنيفة لتربية الأبناء. أثناء تصفّحي لموقع "فيسبوك"، تعثرتُ بصفحة د. أحمد ضبيع التي يقدّم من خلالها مشروعه لنشر ثقافة التواصل اللّاعنفيّ – التراحم. استوقفني المصطلح Nonviolent communication. من هنا بدأت الرحلة. حضرت ورشًا عديدة مع الدكتور ضبيع سواءً في القاهرة أو المنصورة أو عبر صفحته. تعلّمت عن واضع المصطلح مارشال روزنبرج Marshall Rosenberg، وهو الذي سكّه ضمن نظريّة نُسبت إليه. كان "روزنبرج" متخصّصًا نفسيًّا درس بصورة مباشرة مع العالِم "كارل روجرز" Carl Rogers، وله عدّة كتب أشهرها "التواصل اللّاعنفيّ- لغة حياة". حمل روزنبرج على عاتقه نشر ثقافة اللّاعنف في أنحاء العالم، وله مساهمات عدّة لحلّ الصراعات سواءً بين الأفراد أو بين القبائل أو الجماعات. كان كلّ هذا العلم يتدفّق أمامي باللّغة الإنجليزيّة. أحضر ورشةً تلو الأخرى، تارةً في مجال أولياء الأمور والمعلّمين، وتارةُ في مجال العاملين في المجال النفسيّ والعلاقات بين الأزواج، وتتجذّر الفكرة في داخلي أكثر فأكثر. هدفت جلّ الورشات والتدريبات إلى ترسيخ مهارات التواصل اللّاعنفيّ سواءً من خلال قدرة الفرد على التعبير عن نفسه وما يريده من الآخرين بطريقة غير عنيفة، أو من خلال تعلّم مهارات التعاطف التي تساعد على الاستقبال غير العنيف لرغبات وسلوكيّات الآخرين.
التواصل اللّاعنفيّ: رحلة بحثيّة بين العلم بالإنجليزيّة وتقريبه للواقع
بعد أن أصبح المفهوم جزءًا من وعيي المعرفيّ والوجدانيّ، بدأت بالتفكير فى كيفيّة إدراج هذا المفهوم فى التربية والتعليم، وما إمكانيّة تطبيق تدريب التواصل اللّاعنفيّ بطريقة ميدانيّة تخضع لمعايير البحث العلميّ في إحدى المدارس في مصر، ليصبح "التواصل اللّاعنفيّ" موضوع رسالة الماجستير الخاصّة بي.
بدأت، بإشراف من د. ضبيع، تصميم البرنامج التدريبيّ الموجّه للأطفال، اعتمدنا تبسيط المصطلح والمفاهيم والأفكار المرتبطة بالتواصل اللّاعنفيّ. قمت إلى جانب ذلك على ترجمة وتلخيص العديد من المصادر عن التواصل اللّاعنفيّ وذلك لندرة المصادر العربيّة حوله، وكذلك عرضت نظريّة مارشال روزبنرج في التواصل اللّاعنفيّ. وحدّدت السنّ الذي أرغب في تدريبه على مفهوم التواصل اللّاعنفيّ بين الأطفال، وهو (٩-١٢) عامًا، وذلك لأنّني وجدت أن الأطفال في تلك المرحلة يطوّرون مهاراتهم الاجتماعيّة بصورة كبيرة، ويحتاجون إلى تعلّم طرق صحيّة سليمة نفسيًّا لحلّ الصراعات، وللتعبير عن أنفسهم والتواصل مع الآخرين بتراحم.
من أجل استيفاء شروط البحث العلميّ خاصّة في المنهج التجريبيّ المختار، كان عليّ إعداد مقياس للتواصل اللّاعنفيّ يكون موجّهًا للأطفال، ونفّذت الخطوات اللازمة لتقنين المقياس ليكون جاهزًا للاستخدام مع أطفال العيّنة قبل تطبيق التدريب، وتكوّن المقياس من عشرين عبارةً يجيب عنها الأطفال من بواحد من ثلاثة بدائل: (دائمًا، أحيانًا، أبدًا)، وتمّت صياغة عبارات المقياس بالعاميّة المصريّة تيسيرًا على الأطفال، ومن أمثلة تلك العبارات:
"لما بطلب حاجة من صاحبي، بكون مستعد يقول لي: لأ".
في تلك العبارة على سبيل المثال يمكن معرفة مدى قدرة الطفل على استخدام مهارات التواصل غير العنيف فى التعبير عن النفس بطرق لا تسبّب إيذاء الآخرين، أو السيطرة والتسلّط عليهم.
في تلك الأثناء قام د. أحمد ضبيع بتأليف مجموعة قصصية اسمها: "حكايات جيكو وزوزو"- في طريقها للنشر- موجهة للأطفال، وقد ألّفها خصوصًا لاستخدامها في التطبيق العمليّ لرسالة الماجستير، وكانت شخصيّات تلك القصص من الحيوانات التي تمرّ بمواقف شبيهة لمواقف يمرّ بها الأطفال المستهدفون بالتدريب سواءً في المنزل أو المدرسة، بحيث يستطيع هؤلاء الأطفال بسهولة إسقاط مواقف تلك الشخصيّات على حياتهم، واستخلاص مفاهيم التواصل اللّاعنفيّ من حياتهم. وقد حُوّلت تلك القصص إلى أفلام كرتون، استخدمتها جميعًا في تصميم برنامجي التطبيقيّ.
تطبيق التجربة "التراحميّة" ميدانيًّا
وجدتُ ترحيبًا من إدارة إحدى المدارس في جمهوريّة مصر العربيّة، بل ورحّب المعلّمون أيضًا. وقد أعربوا عن حاجتهم لتدريب الأطفال على تلك المهارات لما يقابلون من عنف لفظيّ وجسديّ بين الأطفال، ما أوضح لي أنّ ثمّة فراغًا واحتياجًا عميقًا إلى تعليم الأطفال المهارات الاجتماعيّة خصوصًا التواصل والتراحم.
قدّمت التجربة في عشرين حصّةً. استلهمتُ عناوين الحصص من عناوين الحكايات المذكورة آنفًا، فأصبحت الحصص بمثابة كتاب "حواديت" كبير أدلف إليه أنا وعشرون طفلًا وطفلةً من الصفّ الرابع والخامس الابتدائيّ، ونتحاور ونتواصل ونستكشف من خلال لعب الأدوار، محاورة الحيوانات وشخصيّات القصص، وتمثّل المعاني المتضمّنة خلف كلّ قصّة ومناقشتها.
لاحظتُ انتباه الأطفال، وشغفهم بالموضوع وبأفلام الكرتون وقدرتهم التي أدهشتني على النقاش والحوار في مفاهيم التواصل اللّاعنفيّ، واسترجاع العديد من الذكريات المؤلمة للعنف في حياتهم وافتقادهم لتعلّم البدائل لتلك السلوكيّات. ومنها المحادثة الآتية التي ما زالت محفورةً في رأسي:
"الباحثة: مين أخذ باله من الكلمات اللي قالوها للفيلة؟
الأطفال: مستهترة – عمياء - عجوزة - مجنونة.
الباحثة: إيه الحاجات اللي اتعلّمناها من القصّة؟
الأطفال: ما نحكمش على الناس.
الباحثة: يعني إيه نحكم؟
الأطفال: يعني ما نقولش حاجة على حدّ من غير ما نتأكد.
الأطفال: ما نظلمش حد.
الباحثة: تفتكروا هُمّا قالوا كدا ليه على الفيلة؟
الأطفال: عشان جات فجأة وبوظت التورتة.
الباحثة: هما كان نفسهم في إيه؟
الأطفال: يرقصوا- يفرحوا.
الباحثة: إيه رأيكم في الكلمات اللي قالوها دي يا ترى بتساعد الحيوانات تتواصل كويس مع الفيلة ولا لأ؟
الأطفال: لأ.
الباحثة: تفتكروا ممكن نسمّي الكلمات دي إيه؟
الأطفال: تنمّر - سخرية - الكلمة الخبيثة - الأحكام".
- حوار بين الباحثة وأطفال العيّنة - حصّة بعنوان: أوّل يوم مدرسة
مضت عشرون حصّة، انفتح عالمي وعالم الأطفال من خلال كل نشاط كنّا ننفّذه، أصبحت الشخصيّات والحيوانات والقصص ومشاهدنا التي نعيد تمثيلها المرّة تلو الأخرى جزءًا من اكتشافنا سويًّا لسؤال: كيف يمكن أن نحوّل المواقف والمشاعر والأفكار إلى بدائل أكثر رحمةً، وأن نتواصل بسلام دون عنف أو غضب؟ في كل مرّة كنت أتحاور وأعمل مع الأطفال، كانت تولد الرغبة بداخلي لتدريب المزيد من الأطفال على مهارات التواصل اللّاعنفيّ، بل وكذلك الآباء وأولياء الأمور والمعلّمون كافّةً.
انتهت الدراسة الميدانية، حين قمت بتطبيق المقياس الذي أوضح زيادة في قدرة الأطفال على ممارسة مهارات التواصل اللّاعنفيّ. مُنحت درجة الماجستير في الدراسات النفسيّة للأطفال، غير أنّ رحلتي مع التواصل اللّاعنفيّ لا أعتقد أنّها انتهت، فلا زال ثمّة المزيد.