محاورة مع د. منيفة عسّاف
محاورة مع د. منيفة عسّاف
  • - حاصلة على درجة الدكتوراه في علوم التربية بمرتبة الشرف العالي من جامعة القديس يوسف، لبنان. 
  • - مستشارة تربويّة ومُدرِّبة تطوير مهنيّ.  

  • - باحثة في التعليم والتدريب المهنيّ والتطوير المهنيّ، ولا سيّما في المجال الأخلاقيّ والمهنيّ في مشروع التعلّم "Apprendre " في الوكالة الجامعيّة للفرنكوفونيّة (AUF): عبر مواجهة الذات كرافعة لتطوير القدرة على الفعل عند التربويّين.  

  • - مشرفة على أطروحات الدكتوراه في جامعة البلمند، لبنان.  

  • - شغلت منصب رئيس مركز موارد المركز التربويّ للبحوث والإنماء الشمالي (CRDP) 2003-2019 في لبنان.  

  • - منسّقة سابقة في مكتب اللغات في كلّيّة العلوم- طرابلس في الجامعة اللبنانيّة.  

  • - عملت معلّمة ومنسّقة للغة الفرنسيّة وآدابها منذ سنة 1981.  

  • - عضو في لجنة التوجيه الاستراتيجيّ (SOC) الملحق بكلّيّة علوم التربية في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، المعهد اللبنانيّ لإعداد المربّين.   

  • - عضو في جمعيّة Admée-Europe (فرع Admée-Lebanon)، والهيئة اللبنانيّة للعلوم التربويّة (LAES)؛ متطوّعة ومُدرّبة في إطار مبادرة خضّة بيروت؛ وعضو في اللجنة التوجيهيّة المسؤولة عن دعم المدارس الرسميّة المتضرّرة بشدّة خلال انفجار 4 آب 2020 في لبنان (SAIL-Education)؛ وعضو في فريق خطّة التعافي وكيفيّة التخفيف من الفاقد التعلّميّ في مادّة اللغة العربيّة (Learning Loss in Arabic coaching team).   

 

ما رؤية منيفة عسّاف؟ وكيف تقدّم نفسها إلى العالم العربيّ؟ 

تشكّلت رؤيتي التربويّة في إطار البحث عن ضرورة ردم الهوّة بين القول والفعل، أي البدء بالكلام عن الممارسات المهنيّة ومرحلة التنفيذ الاجرائيّ. لذلك، على التربويّ العمل الدؤوب على تقليص الهوّة المُستمرّة بينهما؛ أتت هذه الفكرة مُباشرةً من تجربتي وخبرتي ومراقبتي الوضعيّات المهنيّة في مركز التدريب، ومتابعتي لها. فتحوّلت الاستنتاجات والملاحظات إلى ما أسمّيه معرفة الخبرة التي تنبع من الأرض، وهي المعارف العمليّة التي تُختبَر إجرائيًّا وسط تجارب مُختلفة ضمن سياق طبيعيّ، لتُصقل، لاحقًا، هذه المعارف المنبثقة من التجربة الفرديّة. وبناءً على أحداث التجربة وسيرها وسيرورتها، تُعمَّم وتُجرَّب وتُكيَّف مع الوضعيّة المهنيّة. والحقيقة أنّ القلق والفضول والطموح كانت أُسس هذه الرؤية. الأمر الذي دفعني إلى البدء برحلة نيل درجة الدكتوراه وأنا في نهاية الخمسين من العمر، استمرارًا في البحث عن أجوبة أسئلة مُختلفة وتغذية فضولي العلميّ، في رحلة تكوّنت بين محاولات مستمرّة، من أجل ردم المساحات والمسافات والفروقات والفجوات بين النظريّات والتطبيق، وفهم الممارسات التربويّة ومراقبة اتّجاهات المدرِّبين ولحظ استعداداتهم للتغيير والنقد الذاتيّ، أو العكس، مقاومتهم لكلّ مراجعة وتفكّر حول الأداء. اعتمدتُ ركائز ثلاثة رافقتني في مسيرتي، وهي الفعل والتطوّر والنقد الذاتيّ، ولا سيّما النقد الذاتيّ الذي يشكِّل وفاقًا لنتائج بحثي، وأساسًا لعمليّة التطوير المهنيّ.   

 

ومع الوقت، أحيل تطوّر أو تبلور هذه الرؤية إلى عنصرين كانا أساسًا في تجربتي: الأوّل عملي لسنوات طويلة معلّمةً، وهي تجربة صقلت فهمي أنّ النظريّة إن لم تُطبّق في سياق الصفوف لإفادة التجربة التعليميّة وتغذية عناصرها، وهذه مُشكلة بحاجة إلى حلّ. والثاني تجربتي في العمل في مشروع عائليّ، إذ فهمت بهذه التجربة أهمّيّة التواصل مهارةً رئيسة للحوار والتعامل والفهم والتفاعل مع الآخر. هذان العنصران قادا، من حيث البدء، إلى أساس العمل الذي سعيتُ فيهِ بالتجربة، بما فيها التدريب، إلى تقريب الفهم الأكاديميّ التربويّ من التجربة المهنيّة التربويّة. بالإضافة إلى سعي مُستمرّ، رافقني على امتداد تجربتي، إلى دعم المعلّمات في مختلف المراحل، وتدريبهنّ ودعمهنّ من أجل تمكينهنّ في مسيرتهنّ التربويّة.   

 

انطلاقًا من تجربتك الطويلة في العمل بين الثانويّات والجامعات، هل هُناك رابط بين المدارس والجامعات؟   

باعتقادي ومن تجربتي، ليسَ هناك رابط بين المدرسة الثانويّة والجامعة يحضِّر للانتقال السلس والمدروس من مرحلة الى أخرى. سأتحدّث عن الأمر من منحى الطلبة وسير التعلّم، إذ لاحظتُ من المدرسة إلى الجامعة، غياب ثقافة المتعلّم الذاتيّ والمتفكِّر، والاكتفاء بالحصّة أو المحاضرة ونقل المعرفة، وهذا يسبّب اغترابًا عند الطلبة، والذين لا تتحوّل المعارف المُكتسَبة لديهم في المدرسة إلى قدرات يُمكنهم توظيفها أو استعمالها في الجامعة، والأمر ينطبق على مرحلة ما بعد الجامعة كذلك.   

 

وبرأيي، من أهمّ الحلول، في ظلّ هذه الإشكاليّات الكبيرة المُحيطة بعناصر العمليّة التربويّة، توظيف استراتيجيّات تعلّم حديثة، والاعتماد على مفهوم وكالة المتعلّم أيضًا. هذه الأساليب والاستراتيجيّات تُشجّع على التعلّم التبادليّ بين الطلبة، في سياقات رسميّة وغير رسميّة كذلك. وهُنا، أؤكّد أنّ التعليم والتعلّم يحدثان كذلك خارج جدران المؤسّسات التربويّة، ويتعزّزان في سياقات غير رسميّة، تعبِّر عن تجارب، قد تكون في معظمها أغنى وأصدق وآصل من التعليم في وضعيّات مهنيّة رسميّة داخل المؤسّسات التربويّة.   

 

ومن المهمّ في هذا السياق، تبنّي مهارة التأمّل الذاتيّ، أو كما أسمّيها التفكّر الذاتيّ المبنيّ على نقد ممارساتنا المهنيّة اليوميّة، وعلى مراجعة الأداء والمواقف في السياق. يؤدّي هذا التفكّر الذاتيّ اليوميّ دورًا مهمًّا في مراجعة سيرورة التعليم. ومن هنا، تبرز ضرورة التركيز على الطلبة، وتحفيزهم من أجل تعزيز مهاراتهم، ودفعهم إلى أن ليكونوا متعلّمين مدى الحياة.   

 

انطلاقًا من خلفيّة تعليمك الفرنسيّة، تتحدّث الإحصاءات عن تراجع تعلّم الفرنسيّة في العالم، فما أسباب ذلك برأيك؟ وما نتائج هيمنة لغة واحدة في العالم؟  

أشارت مُعظم الأدبيّات إلى عوامل مختلفة أدّت إلى تراجع الفرنسيّة وتقدّم الإنكليزيّة، منها عوامل سياسيّة وحضاريّة تبيّنت في أواخر القرن الماضي، على غرار انهيار الاتّحاد السوفيتيّ، وموجة المدّ والجزر الليبراليّة الجديدة، والتطوّر التكنولوجيّ الهائل؛ أي الحداثة في إطارها العامّ (جان ماري كلينكنبرج، 2019) وفي الوقت نفسه، لا أعتقد أنّ اللغة الفرنسيّة في وضع سيّئ للغاية، ذلك أنّها ليست أبعد من الإنكليزيّة، وهي على سبيل المثال خامس لغات العالم انتشارًا، واللغة الرسميّة لـ 32 دولة غالبيّتها أعضاء في المنظّمة الدوليّة للفرنكوفونية.   

 

باعتقادي، من أهمّ أسباب تراجع تعلّم الفرنسيّةانتشار الإنكليزيّة أكثر، والرغبة في تعلّمها. ويعودُ ذلك، حسب الأدبيّات والدراسات، إلى الدور الاستعماريّ التوسّعيّ للمملكة المتّحدة، سببًا أساسًا وراء انتصار اللغة الإنكليزيّة وانتشارها، إذ وضعت الحلقة الاستعماريّة أسس العالم الناطق باللغة الإنكليزيّة، بنشرها واستخدامها في المُستعمَرة الجديدة آنذاك؛ أمريكا الشماليّة، بالإضافة إلى الهند وأستراليا ونيوزيلاندا والعديد من الدول. وبالتالي، ومع الانتشار المُستمرّ، أصبحت الإنكليزيّة لغة مُهمّة للبقاء على اتّصال مع العالم.   

 

وهنا، أودّ الإشارة إلى ما أؤمن بأنّه يجب أن يكون واضحًا للجميع، وهو أنّ اللّغة ليست مُجرّدة، بمعنى أنّها أداة نقل لحمولة ثقافيّة، تنتشر بِفعل هيمنة المُستعمِر على لُغة المُستعمَر، وتؤثِّر في بنى تسبّب تغييرات راديكاليّة في مُمارساته الأصليّة، لصالح تحديثات جرت في سياقات مختلفة، تُنتِج إنسانًا مُستعمَرًا ومُغتربًا بالضرورةِ. لذلك، من الضروريّ مقاومة هذه التغييرات بتعليم اللغة الأمّ، العربيّة في سياقنا، ودفع الطلبة لفهم سياق التاريخ العربيّ والمُنجَز والحمولة الثقافيّة الغنيّة.   

 

وفي هذا السياق، أودّ أن أضيف فكرة الهدف من تعلّم لغة أجنبيّة، لإظهار الجانب الإيجابيّ من الأمر. فتعلّم لغة أجنبيّة هو بمثابة جسر إلى ثقافة أُخرى. كما يُساعد على إدراك الاختلافات الثقافيّة، والانفتاح على التنوّع الموجود في العالم في وقتنا الحاضر. والحقيقة أنّ إتقان لغة واحدة يحدّ من التفاعل مع العالم متعدّد اللغات الذي نعيش فيه، ناهيك عن أنّ اللغات تفتح أُفقًا لتكوين صداقات، وتوسيع الآفاق الثقافيّة. لكنّ هذا التعلّم يجب أن يوازى مع وعي عميق بأصالة اللغة الأمّ، وأهمّيّة إتقانها أساسًا لتعلّم اللغات الأُخرى.  

 

من خبراتك المتعدّدة، كيف تصفين السياسات التربويّة في العالم العربيّ، على مستوى السياسات العامّة، وعلى مستوى المؤسّسات؟ وما الذي يُمكننا فعله؟  

بادئ ذي بدء، الاهتمام اهتمامًا أساسيًّا بتعليم اللغة الأمّ وتعلّمها، مع الانفتاح، بطبيعة الحال، على التعدّدية اللغويّة. وعلى السياسات أن تعي عمليّة تعلّم اللغات الأُخرى وتيسّرها. بات العالم مساحة متداخلة من اللغات، ولا سيّما في ظلّ قضايا مُختلفة، مثل النزوح والهجرة، حتّى الدول الأوروبيّة نظّمت سياسات تعلّم اللغات، ضمن مراحل مختلفة تضمن إتقان الطالب اللغة، ولكن يرافق عمليّة التعلّم تعلّم الطلبة لغتهم الأمّ.   

 

على صعيد آخر، من المهمّ أن تُركِّز السياسات على تطوير المعلّمين مهنيًّا، في ظلّ ظروف سياسيّة واقتصاديّة صعبة تمرّ بها معظم الدول العربيّة. فلا بدّ من دعم هذه الفئة المُهمّة والمُلهمة على الصعيدين المعنويّ والماديّ، ولا سيّما أنّ ما يُطلَب إليهم كثير جدًّا؛ تطوير المعلّمين مهنيًّا، من أجل الانتقال بالعمليّة التعليميّة من التلقين (التذكّر والفهم)، إلى المهارات التي تجعل من المتعلّم متعلّمًا مدى الحياة (التحليل والتفكير النقديّ...). تركِّز الأدبيّات التربويّة كثيرًا على أثر المعلّم في تعلّم الطالب واستدامة مسيرته في المدرسة، فهو بذلك يشكِّل رافعة النظام التربويّ.  

 

عملتِ على تطوير مديري المدارس تطويرًا مهنيًّا. فهل تطويرهم كافٍ، برأيك، لرفع مستويات التعليم؟   

تطوير المدير على الصعيد المهنيّ أمر رئيس في مسار رفع مستويات نجاح الطلبة في المدرسة، وذلك يتبيّن بتخطيط منهج تربويّ مدروس ومبنيّ على نتائج المتعلّمين وحاجاتهم، يتمحور حول المتعلّم، ولا سيّما أنّ فكرة تطوير ممارسات المدير المهنيّة أمر غير سائد ومتبلور كمفهوم أو كمصطلح. وهو في الحقيقة يشكّل رافدًا أساسًا وداعمًا للمدير في سيره، لتحقيق أهداف المدرسة وتطويرها. وفي سياق التركيز الكبير في أيّامنا على مسؤوليّات المدير والوظائف المنوطة بهِ، لا بدّ من الانتباه إلى ضرورة إحاطة المدير بمنظومة تطوير مهنيّ تدعم كفاياته وقدرته على القيام بمهمّاته.  

 

وتجدر الإشارة إلى أنّه عند الحديث عن مسؤوليّات المدير أو مهمّاته، يُتحدَّث عنها حديثًا مُجرّدًا، لا على أنّها أمور تُنفَّذ ضمن استراتيجيّات. ولتنفيذها، هناك أدوات ومُمارسات وأساليب مُختلفة، وهذا بالضبط ما نقصده بتطوير المدير تطويرًا مهنيًّا. يُمكننا أن نُشير إلى التخطيط ككفاية مُهمّة ضمن هذا السياق، فالتخطيط من مهمّات المدير الأساسيّة، وهُناك قواعد وقرائن مُختلفة يُمكن تدريب المدير عليها من أجل تطوير عمليّة التخطيط في المدرسة. وتشير الأدبيّات في هذا المجال إلى ضرورة تطوير التواصل والتشارك بين مديري المدارس في المنطقة، والتركيز على العمل التعاونيّ بتدريب مبنيّ على تبادل الأفكار بين الأقران والمناقشة والحوار المهنيّ للتوصّل إلى توصيف الحلول والمواقف النابعة من الخبرة والتجريب في السياق المشترك للمجموعة. من المفيد الربط بين مسؤوليّات المدير المقرَّرة في النصوص المكتوبة وتحمّله مسؤوليّات ما يُقام به فعليًّا على الأرض، أي بين الموصوف والحقيقيّ.  

 

هنالك تركيز في نشاطاتك على موضوع تطوير المعلّمين المهنيّ، لكنّ النماذج التطويريّة التي نعتمدها هي النماذج الغربيّة. هل يمكن استنساخ نماذج من مجتمعات مختلفة كوصفة للنجاح والتطوّر في مجتمعات أخرى؟  

الحقيقة فكرة النماذج في التدريبات لم تكن موفّقة كثيرًا، ولا سيّما في سياق يكون فيه المتدرّب مفكِّرًا وناقدًا. فيكون من الصعب هنا تحديد نموذج للمتدرّب، ذلك أنّ عمليّة النقد عمليّة مستمرّة وأصيلة عنده، فلن يقبل نموذجًا يُفرض عليه. وبالتالي، استخدمنا ضمن عملنا على المعلّمين استراتيجيّة العمل والبناء على ما هو موجود، ومراعاة خصوصيّة كلّ معلّم، بطبيعة الحال، مع إطارات عامّة تحفِّز التطوّر الذاتيّ عندهم، مثل مواجهة الذات والتفكّر في المُمارسات. أمّا في نموذج المؤسّسات المُستنسخ، فتقيَّم المُمارسات كما هو مكتوب تمامًا، ويشكِّل ذلك إشكالًا كبيرًا كونه يحدّ المعلّم، ولا يتيح أمامه مجالًا للتعامل مع سياقات مُختلفة. وذلك لا يمنع من تفضيل ملامح تربويّة توصف المعلّم بالمتفكِّر الناقد والمجدِّد والباحث الذي يختبر ويجرِّب لفهم السياق المهنيّ والمتعلّم المستقلّ. من ناحية أخرى، يُنظَر إلى التفكُّر حول العمل على أنّه وسيلة لتحفيز الشخص على التفكُّر والتامُّل في بيئات التعلُّم. هذا النوع من المساعدات التعليميّة يعزِّز تطويرَ الاستقلاليّة وصنع القرار. ومن الضروريّ تعميم وضع المتعلِّم الدائم والساعي إلى تطوير ذاته وتعليم نفسه. تعكس هذه النيّة في التعلّم الفعلَ الواعي للفاعل المؤثِّر في نفسه، ورغبته في امتلاك التّعلُّمات الجديدة. وفي نهاية المطاف، دمج عمليّة التفكُّر في الممارسات المهنيّة.  

 

أمّا عن مؤسّسات المُجتمع المحلّيّ المدعومة من الغرب، فهي تحاول محاولةً واضحة إسقاط أجندات غربيّة على المُجتمع العربيّ، وهو أمرٌ مخيف فِعلًا. ولكن من منحى آخر، علينا أن نُشجِّع طلبتنا على الابتكار من دون حدود، على أساس تعلّميّ موجود في تعبير "ولمَ لا؟" وهو ما يدعو إلى التجريب والابتكار من أجل الوصول إلى أجوبة وأسئلة أُخرى. كذلك، من المُلاحَظ أنّ احتياج المجتمعات العربيّة إلى الدعم ضمن أُطر معيّنة، منها التعليم، هو ما يفتح مجالًا أمام هذه المؤسّسات للدخول وتطبيق أجنداتها وفرض قضاياها، والتي في معظم الأحيان تكون غير مناسبة والسياق العربيّ الموجودة فيه، أو لِنقُل تكون غير طارئة، أو ليست هي ما يشغل النقاش في الوقت الحاليّ.   

 

ملفّ عددنا يدور حول مفهوم رفاه المعلّم. ما تعريفك لرفاه المعلّم؟ وكيف يمكن تحقيقه في ظروف عالمنا العربيّ المعقّدة، بين إهمال المدارس الرسميّة، والأهداف التجاريّة لكثير من المدارس الخاصّة؟  

اسمحوا لي أن أُشيد في هذا السياق بدور منهجيّات السبّاق في طرح موضوعات مهمّة في التعليم في العالم العربيّ. والحقيقة أنّ الرفاه مفهوم واسع، يصل إلى مناحٍ متعلّقة بالصحّة النفسيّة والبدنيّة، وكذلك الاهتمام بالجانب الاجتماعيّ. وعلى المعلّمين أن يكونوا محور هذا الاهتمام من بين عناصر العمليّة التعليميّة، وهو، للأسف، ما لا يحصل في العالم كلّه، وليس في العالم العربيّ فحسب. من هُنا، ولا سيّما في ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة صعبة مُحيطة بالمعلّم، علينا الاهتمام بهِ والانتباه إلى صحّته النفسيّة ورفاهه وطاقته من أجل التمتّع بها، للقيام بالأعمال الموكَلة إليه، والبدء بتعديل السياسات من أجل تعديل وضعه المادّيّ أوّلًا، وكذلك تعديل صورة المعلّم السائدة، ونشر ثقافة احترام المعلّم، كونه إنسانًا معطاءً وأساس عمليّة تنشئة الأجيال. كما على السياسات والأفراد الانتباه إلى ضمّ المعلّمين إلى اللجان الاختصاصيّة في وضع المناهج، من أجل أن يكونوا شركاء في وضعها، والمُشاركة في نقدها وتسلسلها، فهم من يتفاعلون معها يوميًّا. تُشكّل هذه المُشاركة أساسًا في تحفيز دافعيّة المعلّمين، اعترافًا بدورهم، فضلًا عن الانتباه إلى ما هو فِعلًا مهمّ، وهو رأيهم في المناهج، واحترام خبرتهم.   

 

تقود هذه النقطة إلى ضرورة التنبّه دائمًا إلى وجود المعلّم شريكًا في العمليّة التعليميّة، وفي وضع سياساتها ومناهجها. وبالتالي، الاهتمام بهِ باعتباره مسهِمًا ومثريًا السياسات والمناهج، حتّى لا نُسهِم بذلك في دفعه إلى الاغتراب عن دورهِ، وعن العمليّة التعليميّة. ونعلم جميعًا ما هي نتائج هذا الاغتراب. كما من المهمّ الإشارة إلى التكامل بين الدولة والمُجتمع والأهالي والمؤسّسات في دعم رفاه المعلّم، وتعزيز صورته الإيجابيّة النابعة من الواقع الذي يبذل فيه جهودًا كبيرة من أجل استمرار العمليّة التعليميّة.   

 

ما حلم منيفة عسّاف حول التعلّم في العالم العربيّ؟  

أن تُصبح المعرفة مرتبطةً بالحياة، في سياق تسوده العدالة والإنصاف. أعتقد أنّه من الضروريّ الانتباه إلى الشقّ الأوّل، وهو ما سيكون نِتاجًا لربط الكفايات المدرسيّة بالكفايات الحياتيّة. وبالتالي، يُصبح التعلّم مُفيدًا كممارسات حياتيّة واقعيّة يوميّة، فيَشعر الطالب أنّ المدرسة مختبر صغير للمُجتمع الأوسع، وأنّها تمنحهُ تجارب ومهارات وكفايات يُمكنه اختبارها والتعلّم منها في سياق تجربته خارج الأسوار. وأمّا عن الشقّ الثاني، ففي سياق بات التعليم فيهِ مفتوحًا، ما زلتُ أرى أنّه من الضروريّ جدًّا الانتباه إلى مستويات الطلّاب المتباينة في الصفّ الواحد، لضمان أن يحصل كلّ منهم على تعلّم منصف، يعطيه حقّهُ كاملًا، ويعزّز تجربته التي سينقلها إلى المجتمع والعالم. وأعتقد أنّ ذلك كلّه يقودُ إلى تطوير المجتمعات، فالطالب اليوم يجب أن يكون مواطنًا فعّالًا وفاعلًا، ومن دون أن يكون كذلك، سنُعيد إنتاج واقعنا مرّة تلو مرّة.