قبل وقت ليس ببعيد، كان يُنظر إلى الطفل الوحيد في الأسرة، ممّن ليس لديه إخوة أو أخوات، على أنّه طفل منعزل ومدلّل يفتقر إلى الكفاءة الاجتماعيّة. بل وكان من النادر للغاية أن نجد أسرة ليس لديها سوى طفل واحد. لكن، وفي السنوات الأخيرة، بدأت هذه الظاهرة تنتشر، وازداد عدد الأطفال الوحيدين، بل وأصبحت لهم مكانتهم في المجتمع.
بحسب مركز بيو للبحوث "Pew Research Center"، ثمّة 22% من الأطفال في عصرنا الحاليّ وحيدون من دون إخوة أو أخوات، مقارنة بـ11% في سنة 1967، وما زالت النسبة في ارتفاع في ظلّ ما يشهده العالم اليوم من تغيّرات باتت تؤثّر في بنية الأسر والمجتمعات.
ما الذي يشعر به الطفل الوحيد؟
في الواقع، قد يواجه الطفل الوحيد في الأسرة عددًا من المشكلات النفسيّة والاجتماعيّة التي تتضمّن ضعف المهارات الشخصيّة، وصعوبة الاندماج مع الأصدقاء والأقران، فضلاً عن احتمال الإصابة بالاكتئاب أو القلق المزمن. وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن كيفيّة التعامل مع الطفل الوحيد بأسلوب تربويّ سليم يضمن نموّه نموًّا صحيحًا، جسديًا ونفسيًا وعاطفيًا.
أفضل طرق التعامل مع الطفل الوحيد في الأسرة
في الوقت الذي قد يكون فيه الطفل الوحيد في الأسرة أمرًا إيجابيًّا له العديد من المنافع، إلّا أنّه مرفق بتحدّيات وصعوبات من نوع خاصّ، تختلف عمّا تواجهه العائلات الكبيرة متعدّدة الأبناء من مشكلات. الأمر الذي يستدعي اتّباع استراتيجيّات تربويّة من نوع آخر، للتعامل مع الطفل الوحيد.
إليك في ما يلي بعضًا من هذه النصائح:
تعليم الطفل المهارات الاجتماعيّة
قد يحتاج طفلك الوحيد إلى فرص أكثر للتمرّن على المهارات الاجتماعيّة، مقارنة بطفل آخر تربّى وسط عائلة كبيرة تضمّ العديد من الإخوة. وحتّى تتمكّنّ من تعزيز مهارات طفلك الاجتماعيّة، يمكنك الاستعانة بأيّ من الطرق الآتية:
شجّع طفلك على التفاعل مع الآخرين
يلجأ الطفل الوحيد في الأسرة أحيانًا إلى اختراع أصدقاء خياليّين له، أو قد تلاحظ أنّه طوّر علاقة وطيدة مع ألعابه مثلاً. تلك هي طريقته للتعامل مع شعوره بالوحدة. ومهما منحته من وقتٍ واهتمام، يبقى بحاجة إلى شخص في مثل عمره، يمكنه أن يتواصل معه، ويشاركه مشاعره.
هذا الأمر ليس سلبيًّا بحدّ ذاته، ومن الطبيعيّ أن يكون للطفل أصدقاء وهميّون يعيش معهم مغامراته الخاصّة في عالم الخيال الخاصّ به. ولكن، يبقى من الضروريّ تعزيز علاقاته الاجتماعيّة الواقعيّة والحقيقيّة. لذلك، لا بدّ من تنظيم نشاطات اجتماعيّة أكثر مع طفلك الوحيد، ومنذ عمر السنة والنصف، بحسب الدكتور ج. لين تانر، الأستاذ المساعد في طبّ الأطفال في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو.
يمكنك ترتيب مواعيد اللعب مع الأقران في منزلك، حيث يتعلّم طفلك مهارات المشاركة والانتباه من البالغين، أو في منازل الأطفال الآخرين، حيث يتعلّم اتّباع ارشادات الأقران والإنصات إليهم.
كُن قدوة يُحتذى بها
لا يحظى الطفل الوحيد في الأسرة بفرصة عيش جوّ التنافس بين الأشقّاء، والذي يعدّ ذا أهمّيّة كبرى في مساعدة الأطفال على الانسجام مع أقرانهم والمجتمع. وهكذا، قد يواجه الطفل الوحيد صعوبة في فهم المعنى وراء انتظار الدور، أو خسارة لعبة، أو الانضمام إلى المجموعة. لذا، يمكن للوالدين مساعدة طفلهما الوحيد على تطوير مهاراته الاجتماعيّة من خلال:
- - أن يكونا قدوةً للطفل، ويظهرا صفات المشاركة والتضحية من أجل الآخرين والاهتمام بمشاعرهم.
- - مكافأة الطفل ومدحه عندما يُبدي اهتمامه بالآخرين، وتنبيهه عندما يظهر مشاعر الأنانيّة واللامبالاة تجاه الآخر.
- - منح الطفل فرصًا لتعلّم المهارات وعيش التجارب التي قد يتعلّمها أو يعيشها لو كان لديه إخوة، مثل تدريبه على انتظار دوره في اللعب مع بقية أطفال العائلة، أو تقبّل الخسارة في لعبة مع أبناء عمّه…
عزّز حسّ الفكاهة لدى طفلك
بحسب الدكتور كيفن ليمان، مؤلّف كتاب "The Birth Order Book: Why You Are the Way You"، غالبًا ما يكون الطفل الوحيد في الأسرة ذا تفكير منطقيّ ومنهجيّ للغاية؛ ممّا يجعله جدّيًا ويحرمه من رؤية جانب الفكاهة في العديد من الأمور من حوله. بالطبع، هذا ليس تعميمًا، وحتّى بين الأطفال الوحيدين، نجد أنّ السمات الشخصيّة تختلف بين طفل وآخر.
وفي الوقت الذي يستحيل فيه تعليم أحدٍ حسّ الفكاهة، أو كيف يكون خفيف الدمّ، يمكنك القيام ببعض الأمور التي تجعل طفلك أقلّ جدّيّة؛ كأن تكون أنت نفسك أقلّ جدّية معه في بعض المواقف التي لا تستدعي حزمًا منك. ابتسم له واضحك معه كثيرًا، وتجنّب الصرامة والجدّيّة المبالغ فيها في غير وقتها.
تعزيز الاستقلاليّة
قد تعتقد أنّ طفلك الوحيد سينمو بشكل طبيعيّ ليكون مستقلًّا بذاته، ولكن في بعض الحالات قد يحدث العكس تمامًا، نتيجة اهتمام الوالدين الزائد والمبالغ فيه. إليك بعض الاستراتيجيّات التربويّة التي تعزّز استقلاليّة طفلك الوحيد الصحّيّة:
شارك طفلك المسؤوليّة
يمكن أن تؤدّي تربية طفل وحيد في الأسرة إلى تعزيز علاقة وثيقة جدًّا بينه ووالديه، ليصبح الطفل معتمدًا كليًّا على والديه، للحصول على الدعم المعنويّ، والمساعدة في الواجبات المنزليّة والمدرسيّة، وحتّى في اللعب والترفيه. وهنا، تأتي أهمّيّة إعطاء طفلك بعض المسؤوليّات لتعزيز استقلاليّته. يمكنك مثلاً أن توكل إليه بعض المهمّات المنزليّة البسيطة، وتمنحه الوقت ليلعب ويتسلّى بمفرده من دون الحاجة إلى وجودك معه.
قاوم رغبتك في التدخّل في المواقف التي لا تحتاج إلى تدخّلك
يميل الأطفال الوحيدون إلى أن يكونوا مهووسين بالكمال، ومجدّدًا، هذا ليس تعميمًا، ولكن هذه الصفة شائعة الانتشار بين الأطفال الوحيدين. لذا، إن كنت تعيد فعل كلّ ما يفعله طفلك، كأن تعيد ترتيب سريره بعدما يرتّبه هو، أو أن تمسح الغبار مرّة أخرى بعد أن قام هو بمسحه، فعليك توّخي الحذر، لأنّك بهذه الطريقة تعزّز لديه صفات الهوس بالكمال، وجميعنا نعرف ما قد يؤدّي إليه هذا مستقبلاً، وما قد يسبّبه لطفلك من أذى عندما يكبر.
ضع حدودًا واضحة
قد يشعر الأطفال الوحيدون الذين يقضون الكثير من الوقت مع البالغين أنّهم جزء من الكبار؛ ممّا يدفعهم إلى الاعتقاد بأنّ لديهم الحقّ في اتّخاذ قرارات متساوية والتمتّع بسلطة مماثلة للكبار. وفي الوقت الذي يمنح فيه العديد من الآباء طفلهم الوحيد فرصة للتعبير عن رأيه في بعض الأمور والقضايا العائليّة، يبقى هناك العديد من القرارات التي يجب أن يتّخذها الوالدان وحدهما، من دون أيّ تدخّل من الطفل، بل ويجب أن يضعا حدودًا واضحة حول هذه القضايا أيضًا.
بالإضافة إلى ذلك، يؤكّد الكثير من الباحثين على ضرورة أن يحظى البالغون بوقت خاصّ لهم من دون أطفال، حيث يؤدّي ذلك دورًا مهمًّا في تعزيز العلاقة الزوجيّة والحفاظ على استمراريّتها.
تحديد توقّعات الطفل الوحيد
تذكّر دائمًا، لا توجد طريقة صحيحة أو خطأ في تربية طفل ضمن عائلة، فما قد يكون صحيحًا ومناسبًا في عائلة ما، قد لا يناسب عائلتك. المهمّ هنا هو أن تعي كيفيّة تأثير الديناميكيّات الأسريّة المختلفة في نموّ طفلك وتطوّره، لأنّ هذا الوعي هو ما يساعد على توجيه طفلك الوحيد نحو الطريق الأفضل له مستقبلاً.
وهنا، يمكنك تحديد التوقعّات لطفلك بما يلي:
كن واقعيًّا
قد يتمتّع الطفل الوحيد في الأسرة بتفوّق لغويّ ويحقّق إنجازات عالية في سنّ مبكرة؛ ممّا يجعل من الصعب أحيانًا معرفة ما إذا كان سلوكه متناسبًا مع عمره. بل، ويجعل من الصعب عليك، أمًّا أو أبًا، أن تحدّد متى يتعيّن عليك أن تكون حازمًا مع طفلك.
ومع بلوغ طفلك الوحيد سنّ السابعة أو الثامنة، تشعر وكأنّه رجل صغير أو سيّدة صغيرة، بل إنّ طفلك نفسه يشعر بذلك أيضًا، وقد يصف أقرانه بأنّهم غير ناضجين. لكن، عليك هنا أن تكون حذرًا وواقعيًّا… في النهاية، طفلك لا يزال طفلاً، وعليك أن تعزّز هذا الشعور لديه بدلاً من موافقته في أنّ الأطفال الآخرين غير ناضجين. تذكّر أنّ أمام ابنك أو ابنتك فرصة واحدة فقط لعيش مرحلة الطفولة، فاحرص على أن تكون مرحلة مميّزة له.
لا تبحث عن الكمال في طفلك
بالنسبة إلى بعض الأطفال الوحيدين، يبدو أنّ المثالية جزء من طبيعتهم. فغالبًا ما يسعى الطفل الوحيد في الأسرة إلى إرضاء والديه، وبما أنّه يتعامل في الغالب مع البالغين، فقد يتبنّى معايير الكبار، كما يقول الدكتور كارل إي. بيكهاردت، مؤلّف كتاب "Keys to Parenting an Only Child".
قد يدفع ذلك طفلك البالغ من العمر 10 سنوات، والذي يحبّ العزف على البيانو، إلى وضع ضغط غير مبرّر على نفسه لتعلّم جميع أعمال بيتهوفن قبل موعد النوم!
ويأتي دورك هنا في أن تكون واعيًا بذلك، وأن تشرح له أنّه ليس عليه أن يكون مثاليًّا أو أفضل عازفٍ في العالم، أو الأنجح والأمهر والأكثر تفوّقًا...
لا تبحث عن الكمال في طفلك، واحذر من أن تجعله وسيلة لتحقيق أحلامك وآمالك التي لم تتمكّن من تحقيقها في طفولتك.
علّم طفلك أنّه من الرائع أن يضع أهدافًا لنفسه. لكن، أخبره أنّ الحياة لا تتمحور حول العمل والدراسة والجدّ، وأنّك لن يقلّ فخرك به إن لم يكن الأذكى والأفضل من الجميع في كلّ شيء.
تدليل الطفل الوحيد
صحيح أنّ الطفل الوحيد غالبًا ما يُنظر إليه على أنّه مدلّل جدًّا، مقارنة بالأطفال الذي يعيشون مع العديد من الأطفال. لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أن التدليل أمرٌ سيّئ!
كونه الطفل الوحيد في الأسرة، فهو، بلا شكّ، يستحقّ الحصول على اهتمام وعناية كبيرين، وتدليل أيضًا. لكن، احرص على اتّباع النصائح الآتية لتدلّل طفلك بطريقة صحّيّة:
لا تبالغ في الهدايا
عندما يعتاد الطفل الوحيد على تلقّي الكثير من الهدايا في جميع الأوقات، فقد تترسّخ في ذهنه فكرة: "أنا أحصل على كلّ ما أريد". وهو ما قد يؤثّر سلبًا في سلوكاته ويجعل منه طفلاً مغرورًا وأنانيًّا.
لذا، تجنّب إغراق طفلك بالهدايا في كلّ الأوقات، ولا تجعل الهدايا وسيلتك في التعبير عن حبّك طفلك. علّمه أنّ ما يهمّ حقًا هو الوقت الذي تقضيه معه، وليس الهدايا المادّيّة التي تقدّمها له. وهذا ينطبق بالطبع على كلّ أفراد العائلة الممتدّة من أجداد وأعمام وأخوال…
لا تعوّد طفلك على خدمته
عند تنشئة طفل وحيد، يصبح من السهل الانغماس في عادة تلبية احتياجاته كافّة على الفور. بعكس ما هي الحال في العائلات الكبيرة، حيث يتعلّم الأطفال انتظار دورهم لتتمّ تلبية احتياجاتهم.
لا بدّ لطفلك الوحيد من أن يتعلّم انتظار الدور، إذ هو ما يُكسبه نوعًا من التواضع والصبر، حتّى لا يكون شخصًا متكبّرًا عندما يكبر، ومؤمنًا بأنّ جميع احتياجاته يجب أن تُلبّى على الفور بمجرّد أن يعبّر عنها. ضع حدودًا وقوانين واضحة في منزلك لطفلك، وعوّده على الانتظار والصبر قبل أن يحصل على مطالبه.
لا تسعَ إلى تحقيق سعادة طفلك الدائمة
قد تبدو هذه النصيحة غريبة وغير منطقيّة، فما الذي يريده أيّ أب أو أم غير أن يكون طفلهما سعيدًا؟! لكن، جعل طفلك مسرورًا في كلّ لحظة وكلّ حين من يومه لا يجعله بالضرورة طفلاً سعيدًا!
إن سعيت إلى إرضاء طفلك دائمًا، فأنت بذلك تربّي شخصًا بالغًا يؤمن بأنّ كلّ شيء في حياته يجب أن يسير على طريقته، ولك أن تتخيّل ما قد يسبّبه له هذا التفكير من مشكلات وعقبات ومصاعب في حياته. في نهاية المطاف، لا تسير الحياة دائمًا كما نريد لها… ولا بدّ أن نتعلّم تقبّل التغييرات، والمرونة في التعامل مع أحداث الحياة المختلفة.
امنح طفلك حياة آمنة ومستقرّة، واجعله سعيدًا بحبّك ورعايتك، ولكن ليس عليك أن تضمن كونه راضيًا ومسرورًا في كلّ دقيقة من حياته.
* * *
يمكننا القول، ختامًا، إنّ الاهتمام الكامل الذي يمنحه الوالدان طفلهما الوحيد سلاح ذو حدّين، قد يكون نعمة له وسببًا في تطوّره ونجاحه، وربّما يتحوّل إلى نقمة تودي به إلى الهلاك مستقبلاً.
تبقى التربية، برغم كلّ شيء، مهمّة صعبة على الوالدين، لكنّ المهمّ منح طفلك حبًّا لا مشروطًا، والموازنة بين الحزم واللين، لضمان تنشئة طفل سويّ ومتوازن.
وفي النهاية، تبقى تربية طفل وحيد في الأسرة أمرًا مميّزًا للغاية، حيث يعتبر العديد من الوالدين أنّ علاقتهم مع طفلهم الوحيد أشبه بصداقة رائعة تدوم مدى الحياة.
المراجع
https://www.parents.com/baby/development/sibling-issues/raising-an-only-child/
https://www.healthline.com/health/parenting/raising-an-only-child
https://www.choosingtherapy.com/only-child-syndrome/