غالبًا ما تلتفّ مهنة المعلّم حول دائرة إيصال المعلومات بشكل فعّال. فيقتصر دور المعلّم على نقل المعرفة وتبسيطها، والبحث عن الاستراتيجيّات المتوفّرة ليساعد طلّابه على الفهم والاستيعاب. ليعدّ بذلك معلّمًا ناجحًا إلى حدِّ ما، وخصوصًا إن أتقن الأسلوب والمرونة في الشرح ومهارات الاتّصال القويّة.
أودّ التحدّث في هذه التدوينة عن الجانب التربويّ عند المعلّم، والذي يختلف بين شخصيّة وأخرى، وعن العلاقة بين المعلّم والطالب، وتأثيرها في الطرفين. مرورًا بالحديث عن إيجابيّات العلاقة التي تتبع الأساليب الحديثة، واختلافها عن الأساليب التقليديّة.
أتذكّر عندما كنّا تلاميذ، كنّا نفكّر مليًّا قبل رفع اليدّ للمشاركة، أو للاستشارة، أو حتّى طلب إعادة فكرة ما. لم يكن ذلك بسبب ضعف الشخصيّة، بل نتيجة مهابة المعلّم وخوف منه، وخوف من الجبل الجليديّ القائم بيننا بسبب برودة العلاقة. ومن هناك، لاحظت وجود خيطٍ رفيعٍ بين الاحترام والخوف، وبين الإهانة والمحبّة.
جلّ المعلّمين يعتقدون أنّ مجرّد محادثة طالب في وقت الاستراحة هدم لمثاليّة المعلّم، أو بالأحرى إحباط صورته الأشبه بالتمثال أمامهم. وتتمثّل هذه الصورة بالمعلّم الصارم، العابس، المنتظم، الرقيب، المهيب، وغير ذلك الكثير من المفردات التي تصبُّ في وصف الشخصيّة نفسها. لا أنكر أنّه على المعلّم التمتّع بصفات معيّنة تزرع في ذهن الطالب صورة عظيمة عنه، لكن تبقى هذه الصورة مشروخة إن لم يتمتّع بجانب تربويّ يمكّنه من إدارة فصله ببراعة.
علاقة المعلّم بطلّابه
من مفاتيح المعلّم البارع أن يتمكّن من فكفكة الألغاز الموجودة عند طلّابه في الفصل، وأن يتوقّف عند أدنى تفصيل. يمكنني تخيّل الطالب مجموعةً من قطع أحجية عليه تركيبها، كلّما فهم مكنونتها، اتّضحت له الأحجية وأبدى فهمًا عميقًا لها، ما يؤدّي إلى بناء علاقة وثيقة معه.
كيف يتمّ ذلك؟ من خلال الاعتماد على مهاراته الاجتماعيّة والعاطفيّة، وعبر مساعدته الطالب على التعبير عن مشاعره، والصعوبات العاطفيّة التي يواجهها.
على المعلّم أن يكسب احترام الطلّاب بالدرجة الأولى، وأن يراعي خلفيّاتهم الاجتماعيّة، ويزيد من ثقتهم بأنفسهم. كما عليه استشعار وجودهم من خلال بناء قرارات مشتركة، وأن يعزّز التفاعل الاجتماعيّ بينهم، ويبني مصداقيّة معهم.
أذكر مرّة، حين دخلت إلى أوّل حصّة في الصفّ التاسع، وقف جميع الطلّاب مصفّقين بحرارة لمدّة طويلة، ليس لإظهار الاحترام فقط، بل ليعبّروا عن مشاعر المحبّة المكنونة في دواخلهم، والترحيب بيّ على طريقتهم، وعن إحساسهم بالقدرة على التعبير بطريقة تربويّة مباحة، بفضل المصداقيّة المبنيّة بيننا.
شخصيّة المعلّم: أساس العلاقات التعليميّة
تؤدّي شخصيّة المعلّم دورًا بارزًا في هذا الإطار، إذ يشكّل نموذجًا قياديًّا لطلّابه. يمتلك المعلّم القدرة على تحديد التحدّيات التي يواجهها الطلّاب، والقدرة على التعامل مع التنوّع في الصفّوفّ الدراسيّة، بما في ذلك الفروقات الثقافيّة والاجتماعيّة، لضمان شعور كلّ طالب بالقبول والدعم. فالطلّاب الذين يتلقّون الدعم والتوجيه من معلّميهم، غالبًا ما يكونون أكثر استعدادًا لمواجهة تحدّيات الحياة، سواء في التعليم العالي أو في سوق العمل. إنّهم يكتسبون مهارات حلّ المشكلات، والتفكير النقديّ، والإبداع، وهي مهارات أساسيّة للنجاح في أيّ مجال.
لا ننسى أيضًا التفاعل اليوميّ والمدة الزمنيّة التي يقضيها الطالب مع معلّمه، والنقاشات المستمرّة، والنبرة الصوتيّة، ولغة الجسد، والاستراتيجيّات المتّبعة، والقيم والمبادئ التي يتحلّى بها المعلّم. كلّ هذه العوامل تصبّ في شقّه التربويّ، وتعزّز من علاقته مع الطالب. وبالطبع الأمر يختلف بحسب الفئات العمريّة والصفوف الدراسيّة والبيئات الاجتماعيّة.
كيف تكسب الطالب؟
1. للحصّة الأولى المخصّصة لكسر الجليد في بداية العام الدراسيّ أهمّيّة قصوى، ولكن يتجاهلها غالبيّة المعلّمين. هذه الحصّة تنشئ رابطًا وثيقًا بين الطالب والمعلّم، وتمكّنهما من فهم شخصيّات بعضيهما. ذكرتُ في تدوينة سابقة لي ضمن منهجيّات لكلّ معلّم... الحصّة الأولى هذا الموضوع، وأكّدت أنّ هذه الحصّة تشكّل اختبارًا للعلاقة بين الطالب ومعلّمه.
2. يجب أن يتمتّع المعلّم بقدرات تواصل فعّالة، بحيث يستطيع إيصال ما يريده بأقلّ مجهود وبسلاسة.
3. اكتساب احترام الطلّاب بالدرجة الأولى، وذلك من خلال السؤال عنهم والتودّد إليهم. لا مانع من سؤال الطالب: "ما الذي أزعجك اليوم؟ لماذا لم تتابع الحصّة بشكل جيّد؟"
4. يجب أن يتمتّع المعلّم بالقدرة على تفسير تعابير وجوه الطلّاب، وهذا يأتي بعد سنوات من الخبرة. هناك طلّاب لا يستطيعون التعبير باللّغة، أو التواصل بوضوح.
5. دراسة خلفيّة الطلّاب الاجتماعيّة، وهنا يأتي دور الأهل في التواصل مع أساتذة أولادهم إذا كان هناك أيّ وضع اجتماعيّ يؤثّر في نفسيّة الطالب.
6. على المعلّم أن يوازن بين اللين والحزم، بحيث لا يفقد شخصيّته أمام طلّابه، ما قد يؤدّي إلى عدم القدرة على ضبط الصفّ.
7. إظهار الاهتمام الدائم بقضايا الطلّاب والقدرة على الاستماع والتفهّم.
8. الدعم المستمرّ للطلّاب لتطوير قدراتهم والإسهام في تقدّمهم.
أثر الرابط القويّ بين المعلّم والطالب
لهذا الرابط أثر ايجابيّ تمكن رؤية فعاليّته بشكل لحظيّ، أو على المدى الطويل، ويتلّخص بالآتي:
- - التواصل حول أداء الطالب يكشف نقاط القوّة والضعف، ويعمل على تحسينها أكاديميًّا.
- - المعلّمون الذين يبنون علاقات قويّة مع طلّابهم يكونون أكثر قدرة على توجيههم نحو السلوكيات الإيجابيّة، والتي تدعم العمليّة التعليميّة. هذه العلاقة تقلّل من السلوكيّات غير المرغوبة، إذ يكون الطلّاب أكثر استعدادًا للالتزام بالقواعد والانضباط عندما يشعرون بالاحترام والتقدير.
- - تعديل استراتيجيّات توصيل المعلومة بما يتناسب مع الصفّ وبيئته والفروقات الفرديّة.
- - تكيّف الطالب مع التحدّيات الأكاديميّة والشخصيّة.
- - التواصل الفعّال مع زملائه ومع أفراد الهيئة التعليميّة.
- - مساعدة المعلّم على أداء رسالته العلميّة والتربويّة على أكمل وجه.
- - تعزيز النضج الاجتماعيّ لدى الطرفين.
- - ترميم ما خلّفته جائحة كورونا في تقليص فرص التواصل المباشر بين الطرفين.
***
تشكّل العلاقة المبنيّة بين المعلّم والطالب حجر الزاوية في عمليّة التعليم الناجحة. فهي ليست مجرد تفاعل يوميّ عابر، بل علاقة طويلة تُبنى على الثقة والاحترام. هذه العلاقة تؤدّي دورًا محوريًّا في تحفيز الطلّاب وتعزيز رغبتهم في التعلّم، حيث يشعرون بالأمان والدعم، ما يسهم في تحسين أدائهم الأكاديميّ بشكل ملحوظ وعلى نحو مستدام.