فُتِحَت الغرف الدراسيّة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتّى اللحظة للنازحين؛ الناجين من الموت؛ لمن باتوا بلا مأوى بعد تدمير بيوتهم؛ لمن فقدوا عائلاتهم ونجا بعضهم؛ لسكّان غزّة الصامدين المحاصرين.
تغيرت ملامح الغرفة الصفّيّة، أصبح كلّ جزءٍ منها يأوي عائلة بأكملها، قد يتجاوز عدد أفرادها خمسة عشر فردًا. وفي كلّ غرفة تُقيم أُسرٌ فلسطينيّة مكلومة. يبيت في كلّ غرفة، كحدٍّ أدنى، خمسون فردًا، لكلّ فردٍ منهم ألف حكاية وحكاية من الوجع والقهر والموت والدمار.
هنا في زاوية الغرفة اليمنى، كنتُ أضع وسائلي التعليميّة التي كنت أُحضِرُها لطالباتي، تحوّل المكان إلى موقد النار لطهو الطعام. هنا تتناوب العائلات، في كلّ غرفة، على موقد النار لصنع ما يكفي يومهم الطويل جدًّا، ينتظرون الفرج والنجاة.
وهنا في أقصى يسار الغرفة، تضع كلّ عائلة وعاءً بلاستيكيًّا لتنظيف ملابسهم، وأطباق الطعام البسيطة جدًّا. يرتّبونها على رفّ من رفوف الصفّ التعليميّة التي كانت تتزيّن بدفاتر الطلّاب والطالبات المتفوّقين، ليُكرّموا نتيجةَ جدّهم واجتهادهم.
وهنا على مدخل كلّ غرفة صفّيّة تضع العائلات حِبالًا على طول الغرفة، لتجفيف الملابس بعد غسلها.
وهناك سبّورتي الجميلة، التي كانت تتزيّن بالبسملة "بسم الله الرحمن الرحيم"، وتحتها (English… Unit... Lesson…) وعلى يسارها أقوم بكتابة اليوم والتاريخ، وحكمة قصيرة هادفة كنت أَرسلُ عبرها رسائلي غير المباشرة إلى طالباتي الحبيبات. وهناك كنت أُحصي عدد الطالبات الحاضرات، ونسجّل أسماء الغائبات... لا أعرف كم طالبة غابت عنّا حتّى اللحظة من كلّ صفّ، لكنّني أعلم يقينًا أنّ الكثيرات صعدت أرواحهنّ إلى الرحمن، والكثيرات مفقودات. وفي وسط الصفّ، أمام طالباتي، كنتُ أقف لأردّ عليهنّ التحيّة كلّ صباح. هنا، أصبحت المقاعد الخشبيّة رمادًا لنار الطهو.
هنا، أصبحنا نبيت، ننام، ونصحو على أمل سماع خبر مفاده وقف إطلاق النار بشكل دائم. هنا، في المدرسة، أصبحنا نطهو الطعام ونغسل الأطباق والملابس. هنا، تحوّل المكان من مدرسة سابقًا إلى مركز إيواء أو مقرّ نزوح، أو سكن للمتضرّرين من الحرب،
قل ما شئت. هنا، ما يزيد على خمسة عشر ألف نازح في مكان كان بالكاد يتّسع أقصاه لألف طالب.
ثلاثة شهور هنا في غزّة، انقطعنا فيها بشكل كامل عن التعليم بشتّى أشكاله. كيف لا، وآلة الحرب الصهيونيّة تُمزّق أطفالنا ونساءنا وشيوخنا وشبابنا إلى أشلاء؟ هنا، نجاة من موت، وحياة يملؤها الموت والقهر والوجع في كلّ لحظة.
مرفق صورة من مقرّ النزوح وسط قطاع غزّة بعدسة الصحفيّ أسامة الكحلوت، يتوسّط الصورة سبّورة الصفّ، كُتبت عليها أدعية والصلاة على النبيّ بخطّ يد إحدى النازحات.
وصورة أخرى لصفّي الجميل يوم الخميس، الخامس من أكتوبر 2023، تُزَيّنه طالباتي الجميلات، لكلّ طاولة مفرش جميل موحّد، ولكلّ مفرش مزهريّة جميلة. وتجلس عليه وردتان فلسطينيّتان من أجمل ورود العالم.
سُجّل النصّ مع بودكاست صوت خلال العدوان على غزّة، عام 2024.