قلوب جميلة
قلوب جميلة
2022/08/21
غالية منصور زين الدين | معلّمة رياضيّات- سوريا/ قطر

قلوبهم الصغيرة تتّسع للكثير، ولذلك فإنّ الحبّ والعطاء سيجعلهم أقوى وأكثر سعادة.

كلّما دخلت غرفة الصفّ في بداية العام الدراسيّ، أجدني أمام الكثير من القلوب الجميلة، والكثير من العيون البريئة التي تمنح سعادةً كلّما لمحت بريقها. هذه العيون تلمع عندما تتعلّم شيئًا جديدًا، عندما تجد جوابًا على تساؤلٍ مُحيّرٍ، تلمع عندما تفرح، وعندما تُحبّ بصدقٍ. ولذا، فإنّ واجبنا تجاه هذه العيون هو المحافظة عليها لامعةً سعيدةً، لا أن نحبطها أو نتجاهلها.

لطالما شدّني الطالب الهادئ المختبئ. يدفعني فضولي، على الدّوام، لأعرف سرّ هذا الهدوء. لا أنسى ذلك الطالب مهما مرّ الزمن؛ دخلتُ غرفة الصفّ، وكان أحمد، طوال الأسبوع الأوّل، يرفض المُشاركة في أيّ نشاط. حاولت أكثر من مرّة أن أُشركه في جوّ الحصّة، لكنّه كان يرفض. جلستُ معهُ على انفراد وحاورته، لكنّه كان خجولًا ورفض الإجابة عن أسئلتي.

 

في اليوم التالي، لعبت مع الطلبة لعبة البوح بسرٍّ للمعلّمة؛ أعطيتهم أوراقًا صغيرة، واتّفقتُ معهم أن يكتب كلّ منهم سرًّا، وتركتُ لهم حرّيّة أن يكتبوا أسماءهم. ولأنّني توقّعت أنّ أحمد لن يكتب اسمه، اضطررت إلى الغشّ، وعلّمتُ ورقته بإشارةٍ صغيرةٍ حتّى أعرفها.

قرأتُ أسرارهم، وملأت قلبي فرحًا وحبًّا. عباراتهم الصغيرة تجعلُ الكون أكبر، وما أتذكّرهُ من تلك العبارات "أحبّ حصّة الرياضيّات"، "تعجبني ساعة المعلّمة لأنّها تشبه ساعة أخي المسافر" يا لشدّة ملاحظتهم، فأنا أحبّ، فعلًا، الساعات المصمّمة للرجال، وآخر كتب "لا أحبّ المدرسة، أنا أحبّ اللعب والنوم فقط". أمّا أحمد فكتب "لا أحد يحبّني في هذه المدرسة، ولا أحد يلعب معي أو يختارني شريكًا حتّى في ألعاب حصص الرياضيّات".

 

شعرتُ بأنّ عليّ مساعدة أحمد ليتخلّص من هذه المشاعر. اتّفقت مع بعض الطلبة على أن يختاروا أحمد في الأنشطة التعليميّة، لأنّني كنت معتادةً على منح طلّابي فرصة اختيار صديقٍ في الحصّة. وفعلًا، شعرت بأنّ المشكلة التي أرّقت أحمد طويلًا وجعلتهُ خجلًا هاربًا مختبئًا باتت في طريقها إلى الحلّ.

في اليوم الأوّل الذي اختير فيه أحمد خبّأ فرحته، إذ فاجأهُ أحد الطلبة ونادى اسمه ليكون صديقه في الحصّة. وعبّر أحمد بطريقةٍ بديعةٍ عن امتنانهِ لكونهِ بات صديقًا. هُنا، بدأت نظرة جميع الطلبة نحو أحمد بالتغيّر، هم الذين كانوا يتجنّبونه بسبب رفضه المتكرّر. وتغيّرت نظرة أحمد نحو نفسه، إذ بات يؤمنُ بأنّه قادرٌ على المُشاركة.

أكمل الطلبة مهمّتهم مع أحمد، التي كنتُ شريكةً في تصميمها؛ فنادى أحدهم أحمد وقت الاستراحة ليلعب معه، ولبّى أحمد هذه الدعوة من دون تردّد. لقد تبدّل الحزن والإحباط في عيني أحمد إلى فرحٍ، أحسستُ أنّ قلبي يطير معهُ فرحًا لفرحهِ. أظهر أحمد حماسًا غير مسبوق، وشجّع باقي الطلبة كي ينضمّوا إلى فريقهِ، وباتوا يخطّطون مؤامراتهم البريئة في الألعاب.

ولتكتمل المهمّة، رشّحت أحمد ليشارك في البرنامج الإذاعيّ، إذ أوكل إليه أحد أدوار مسرحيّة أعددتها مع الطلبة لعرضها في الطابور الصباحيّ. تردّد أحمد كثيرًا، لكنّهُ حظي بتشجيعٍ كبيرٍ من أصدقائه الذين كانوا يردّدون "هيّا يا أحمد، هيّا يا أحمد".

 

وها أنا أراقب صغيري أحمد وقد تبدّلت حالهُ بقليل من التشجيع والحماسة، وبالكثير من الحبّ والصداقات. أراهُ سعيدًا، وجعلني سعيدةً، وما زلت أقول له "أنت مهمّ لنا ونحبّك كثيرًا". دعونا لا نتجاهل مشاعر الطلبة، ولا نستهزئ بقلوبهم، فهم كنزنا الذي يستحقّ أن نقدّم لهُ كونًا من الحبّ، وأكثر.