بحلول جائحة كورونا (Covid-19) على العالم مع أواخر العام 2019، فُرضت قوانين حياتيّة غير طبيعيّة على الإنسانيّة جمعاء في المجتمعات الدّوليّة كافّة. فأجبرت الأفراد على التّباعد الجسديّ والاجتماعيّ، وحجبت طلّاب المدارس والجامعات عن مقاعدهم الدّراسية، فتركت عبئًا ثقيلًا على القطاع التّربوي، إذ بات مُطالَبًا بتأمين بيئة تعليميّة مناسبة لهذه الظّروف المستجدّة.
وإزاء هذا الوضع الّذي داهم السّاحة التّعليميّة في لبنان مع منتصف العام 2020، كان لا بدّ من التّقبّل الواقع الجديد، أوّلًا، ثمّ العمل على التّأقلم معه، ثمّ النّهوض معه وبه. وما ذلك إلّا ضربًا من ضروب التّحديث والمواكبة، فالاختراعات تحتاج من يواكبها فكرًا وروحًا، والأزمات مع حاجتها لمن يواكبها فكرًا وروحًا، تحتاج من يحسن تقبّلها والتّأقلم معها، ومن ثمّ تأتي المواكبة.
بهذا الفكر أقدمت على التّعلّم عن بعد، وبروح توّاقة نحو اختراق الشّاشات وأنسنةِ الأدوات سعيت، فكانت منصّة السّفير هي المنبر. فكما كان يؤمّن لنا الصّفّ بأدواته وطلّابه المسجّلين ورقيًّا، تأمّن لنا الصّفّ عبر المنصّة، وتأمّن الطّلّاب الّذين تسجّلوا إلكترونيًّا مع التّسجيل الورقيّ. وبقي لي، أنا معلّمة اللّغة العربيّة، أن أبتكر طرائق تناسب، وأن أستخدم وسائل بعضها متاح عبر المنصّة، وبعضها الآخر يتمّ انتقاؤه ليلائم الدّروس.
من هنا بدأت رحلة التّعلم عن بعد؛ الآمنة، المخطّط لها، المرعيّة المراقبة. فكان لا بدّ من استغلال كلّ ما كنّا نرغب به، وكان قبل مُقيّدًا، النّصوص المسجّلة باللّغة العربيّة، لها قدرة غير عاديّة على أدمغة أولادنا ومهاراتهم. وكثرة الاستماع إليها لبّ الإفادة منها، وهذا ما كان غير متوافرٍ. حيث أنَّ الوقت الّذي تحتاجه النصوص للاستماع إليها، أصبح متاحًا أكثر، والاستفادة منها بات أفضل مما كان عليه حضوريًّا. ما مكّننا من استثمارها بشكل أفضل عن بُعد.
فالآن وعبر المنصّة بات بإمكاننا تزويد الطّلّاب بأكبر عدد من النّصوص للاستماع إليها، فإمكانيّة الاستماع كانت قبل متعثّرة في البيوت، إذ أنّ الأجهزة لم تكن مهيّأة لتستوعب مادة تعلميّة بل كانت للتّسلية، أو لعمل الأهل، الآن خصّصت للتّعلّم؛ فمع كلّ طالب جهازه الخاصّ يسمع نصّه قدر ما يشاء، ولم نقف عند حدود السّمع، بل إنّنا باشرنا بتسجيل النّصوص من قبل الطّلّاب، وهذا أمر طوّر اكتسابهم للمادّة بشكل سريع جدًّا، وجعلهم يكسرون حاجز الخوف والخجل والقلق، فباتوا يسجّلون نصوصهم الّتي كانوا يخشون قراءتها في الصّفّ في بيوتهم ويستمعون إلى تسجيلاتهم أكثر من مرّة ثمّ يعيدون وينقّحون ويغيّرون ليأتي المنتج ممتازًا.
إنّ تعلّم اللّغات يحتاج إلى مهارات التّواصل الأربع: الإصغاء، التّكلّم، القراءة، والكتابة. فمن خلال النّصوص المسجّلة، جعلناهم يصغون، ويتكلّمون، ثمّ انطلقنا إلى اختيار نصوص مسجّلة مكتوبة، فقرأناها، ورحنا نحلّل ونؤلّف، ومن خلال الإصغاء والتّكلّم وهما المهارتان الأساسيّتان استطعنا أن نوجد الألفة بين طلّابنا واللّغة، فقرأوا وكتبوا.
والحقيقة إنّ الأداة بحدّ ذاتها لا قيمة سلبيّة أو إيجابيّة لها، بل إنّ قيمتها تأتي مع حسن أو سوء استثمارها، وهذا ما فعلناه مع المنصّة فقد أحسنّا استثمارها ورفعنا من إنتاجيّة طلّابنا في اللّغة، فأتت المنصّة لترفع من قدرات ومهارات طلّابنا.
كيف كان تجاوب الطّلّاب مع حصص اللّغة العربيّة؟
لقد أبدى الطّلّاب تجاوبًا رائعًا مع حصص اللّغة العربيّة، وما ذلك إلّا لأنّهم بدأوا ينتجون في اللّغة تكلّمًا وكتابةً بعدما قرأوا وأصغوا.
فهم يحضرون الحصص بلا انقطاع، ويشاركون بفاعليّة في كلّ اللّقاءات، ويرسلون تدريباتهم في الوقت المحدد، وتسجيلاتهم للنّصوص بدأت مقبولة، ووصلت إلى حدّ الإتقان بعد متابعتها وإرسال التّغذية الرّاجعة البنّاءة عليها.
لقد تبيّن أنّ التّعلّم عبر المنصّة يخدم اللّغة، فقد تآلف الطّلّاب مع اللّغة، وباتوا يبدعون بإنتاج نصّوص خاصّة، يطلبون تصويبها قبل تأديتها تمثيلًا وقراءةً، وإلقاءً.
وحقيقةً إنّ العودة التّعلّم الحضوريّ يحتاج منّا إلى تحضير وتخطيط بقدر ما احتاج التّعلّم عن بعد، ذلك أنّنا أهّلنا أنفسنا، وأهّلنا أولادنا، وأهّلنا الأهل؛ لتحمّل المسؤوليّة واستثمار ما كنّا نراه للتّسليّة ومضيعة الوقت لنتجاوز محنة فإذا بنا تخطّينا وبجدارة جعلتنا نسأل أنفسنا؛ كيف سنعلّم حضوريًّا بعد العودة؟ وهل سنلجأ للتّعلّم عن بُعْدٍ حتّى بَعْدَ انحسار "كورونا"؟