حفنة السنوات التي تمضي في الصفوف والساحات وبين الطلبة لن تذهب عبثًا، إنها تزهر في مكان آخر.
قرأتُ في هذه الزاوية ما كتبته معلّمة اللغة العربيّة في الجزائر فيروز شريف، في تدوينتها "فضفضة عابرة: ماذا لو لم يكن المعلّم على ما يُرام؟"، عن الساعات التي تذهب من أعمارنا نحن المعلّمين والمعلّمات، وإذ أجدني أتفق معها فيما قالته إلى حدٍّ بعيد فإني أودّ أن أضيف إلى فضفضتها ما يهوّن على المعلّمين تحدّيات التدريس وأوجاعه، إذ لا تخلو مهنة، مهما كان ممتهنها، من تحدّيات وعثرات تدفعه للتفكير في لحظة ما: سأتخلص من هذه المهنة إلى الأبد، حتى الذين يعملون في أعمال خاصّة بهم، ويملكون وقتهم ولا يضّطرون لإثبات وقت بداية عملهم وانتهائه، لديهم ما يعانون منه وينغص عليهم فرحتهم بأنهم غير ملتزمين بدوام محدّد، وأنهم غير مضّطرين لمجاراة مدير متسلّط.
عندما تكون معلّمًا لن تشعر أنك تكبر، وإن شعرت بأنّ أيّام العمر تمضي، فإن هذا الشعور سرعان ما يزول عندما تفكر كيف أنّ العمل مع الأصغر سنًّا يجعلك لا تشعر بالتقدّم في العمر مثلما يشعر به الآخرون، وأن تفكيرك الدائم بتبسيط المعلومات كي يفهمها الطلبة الصغار، أو وضع الأفكار في إطار يناسب فهم الطلبة في المراحل الثانويّة والإعداديّة، يبقيك أصغر من عمرك الفعليّ، والأمر لا يتوقّف على التدريس بل ينسحب أيضًا على المرح الذي تعيشه في حصص النشاط أو الرياضة أو أوقات المرح في المناسبات المدرسيّة التي يشترك فيها الطلبة والمعلّمون، وإذا شعرت بضيق أو خانتك المفردات فإن استخدامك لمفردات الطلبة المضحكة سيزيل همومك، ويجعلك أصغر سنًّا في نظر من حولك.
عندما تكون معلّمًا فإن فرحتك بتحقّق أهداف التعلّم، ورؤية أبنائك الطلبة يترجمون ما تعلّموه منك سلوكات في ممارساتهم اليوميّة، أو نتاجًا في الدفاتر ولوحات الممرّات المدرسيّة أو أوراق الامتحانات أو أنشطة الرياضة والفنّ أو حوارات في الساحات ومواقع التواصل الاجتماعيّ، فإن صراخهم وثرثراتهم وتأخرهم وأحاديثهم الجانبيّة لن تكون ذات تأثير، وسيختفي أثرها بسرعة وستسامحهم لأن أثر الإنجاز كان أكبر من أثر انشغالهم عمّا تقوله، وأن اللحظة التي كنتَ تعتقد بأنهم بعيدون عنك استذكروها فيما بعد كي لا تغضب منهم، ويؤدّون المهمّات مثلما تريدها منهم، فالمهم عندهم، قبل أي شيء، أن تكون راضيًا منهم وسعيدًا بهم وأنهم ليسوا أحد أسباب غضبك.
عندما تكون معلّمًا فإن صباحك يتجدّد كل يوم، كل يوم لديك محتوى جديد، وطريقة جديدة في عرضه، وطريقة جديدة في التعامل مع الطلبة، فالطالب الذي صرخت عليه لأنه استجاب لتعليماتك بعد التنبيه الرابع أضحكك اليوم بمزحة لطيفة اخترقت الوقت الدراسيّ الجادّ، والطالب الذي طلبت منه ترتيب لباسه المدرسيّ جاءك في حفل المدرسة بأناقة كاملة، وزميلك الذي رفض تبديل الحصص اعتذر منك اليوم وساعدك دون مقابل هذه المرّة، وعدم رضاك عن شرح درس الحال للطلبة في الصفّ العاشر دفعت لقراءة قصيدة لأيليا أبي ماضي فيها كثير من الأحوال الإيجابيّة التي ربطتها بدرس القواعد، فزال همّك لأن الطلبة عرفوا الحال ووعدوك أن يكونوا بحالٍ إيجابيّة دومًا.
عندما تكون معلّمًا فإن قرار الفرار لن يكون سهلًا، وأن مدير مدرستك ليس مرتاحًا مثلما تظن، بل لديه من محاورة الأهالي والطلبة والمسؤولين الأعلى منه رتبة ما تنوء به الأنفس، وأن الموظف الإداريّ في المؤسّسات الأخرى غارق بين أكوام الملفّات أو أصوات المراجعين أو عدم تعبئة المواطن معاملاته الإلكترونيّة بالشكل الصحيح، فتضطر للاتصال الهاتفيّ الذي يكون مرّة واحدة فقط، أو معالجة الخلل بنفسك، بينما فرار المعلّم يكون تحسينًا لأساليب تدريسه، وتغيير طرق تعامله مع الطلبة، فالمعلّم يتعلّم وهو يعلِّم طلبته، ويتغيّر مثلما يتغيّرون، وينقل التغيير إلى غرف المعلّمين، ومجموعاته في وسائل التواصل الاجتماعيّ ويتفاعل معها.
عندما تكون معلّمًا فإن التعليم والتدريس صديقك الأقرب لكنّه ليس الوحيد، وأغلب وقتك سيكون معه، ولأن حقّ الصديق يجب أن يؤدّى بأفضل الطرائق فإن التفاعل مع التدريس والتنويع فيه سيجعلك المستشار الأوّل لأصدقائك، بل وستتطوع أنت بنفسك لتقديم النصح والمشورة للأقارب والأعزّاء كيف يتعاملون مع أبنائهم، وسيكون المعلّم الإنسان الوحيد الذي إن خرج في نزهة مع العائلة والأصدقاء سيكون الأطول بالًا على شقاوات الأولاد، والأكثر تفاعلًا مع حركاتهم، والأسرع فهمًا لمفرداتهم، حتى وإن زادت عن حدّها، وقلتَ بتسرّع: "هون وبالمدرسة؟ والله مو متحمّل"، سرعان ما ستزول؛ لأنهم لم يندمجوا مع أحد مثلما اندمجوا معك، ففهمك لهم واندفاعك معهم جعلك الأقرب إليهم والمفضّل عندهم.
المعلّم على ما يرام عندما يكون همّه الأوّل أن يرى طلبته يتعلّمون ويتغيّرون ويكتسبون كلّ قيمة معرفة وخلقًا وسلوكًا. كم من نصيحة وجّهناها لصديق أو قريب عثرنا عليها بين المقاعد وحصلنا عليها من ردود الطلبة.