نحن في زمنٍ يتآكل فيه التّعلّم ويمرّ العمر قبل قطف ثماره في مجتمعاتنا.
العالم يتطوّر بوتيرة سريعة ويتسابق مع الزّمن ملتفًّا على مختلف مكوّنات الحياة. والعلم مكوّن أساس من مكوّنات استمراريّة الحياة الطبيعيّة وتقدّمها، وما زال اليوم في محيطنا يسير ببطء نظرًا للرّقمنة الّتي نعيشها ونواكبها، فما السّبيل نحو التّأقلم سوى الانفتاح والتّعاون الثّقافيّ المجتمعيّ عبر وسيلة اليوم "الرّقمنة"؟
نعم، كشفت لنا الكشّافة "كورونا" نقاط قوّتنا من حبّ الاستمرار والمثابرة، نحو استكمال درب التّعلّم واستنفاد ما عندنا لتعزيزه. ولكن، في المقابل تكشّفت أمامنا نقاط الضّعف المتراكمة عبر سنوات من التّعليم، نقاطٌ أنفقنا عليها أخلاقنا ومالنا للتّعتيم عليها لأسباب وأسباب لا تُعَدّ ولا تُحصى. لكنّ السّؤال القاتل هو: ما ذنب جيل أمس وجيل اليوم وجيل الغد؟ ما ذنبهم في تحمّل كلّ هذه الأعباء؟ ومن هم هؤلاء الّذين يستمرّون وما يزالون في خطف منابع العطاء وكنوز الثّقافة والفكر الّتي مهما سَعوا لدحضها ستبقى فوق رؤوسهم مكلّلة بالحبّ والإصرار.
نقطة ضعفنا الأساس أنّنا لا نتجرّأ ولا نقدر على الخروج من صندوقنا، التّعلّم لا يعني المدرسة فقط ولا يرتبط بها بشكلٍ أزليّ، إنّما هو معرفة مكتسبة بالفطرة أم بالتّمرّس تُنقَل بأنواعها كافّة إلى الأعمار كافّة. والاقتصار على مدرسة اليوم لاكتساب التّعلّم جزء من فشل المنظومة التّعليميّة، لماذا؟ لأنّ المدرسة في مجتمعاتنا غير مؤهّلة بمعظمها لاحتواء حاجيّات التّعلّم بمفهومه العميق. فمثلًا البيولوجيا تحتاج متنزّهات وأماكن طبيعيّة شاسعة لتطوير اكتسابها، فالطّبيعة جزء من الإنسان وحافز أساس لتطوير فكره وإخراج إبداعاته منذ الطّفولة وحتّى الكهولة. نحن نحتاج إلى طبيعة فيها أجزاء مختلفة من حياتنا تضمّ العالم ولكن مصغّرًا. اللّغة العربيّة تحتاج إلى حواس لفهمها، وحثّ المتعلّم من خلال اتّصالها وحواسّه بالطّبيعة إلى الإبداع. فالصّور تحتاج إلى سلام، وهدوء، وهواء نقيّ، وخروج من أبنية مقفلة تحتاج إلى مناظر مختلفة طبيعيّة كما خلقها الله لنا. وهذا ينطبق على كلّ اللّغات وعلى كلّ العلوم بجوانبها كافّة. فالجغرافيا مثلًا تحتاج إلى مكان حقيقيّ لتحديد المواقع وللتّعرّف على طبيعة الأرض، والتّاريخ يحتاج إلى سكينة وصدق المكان والزّمان لاكتسابه.
الخروج من الصّندوق يمكن أن يُحقّق خارج المدرسة إذا لم تتوافر احتياجاتنا "الخياليّة". يمكن أن نعرض على مجتمعاتنا وإداراتنا الثّقافيّة الاجتماعيّة النّفسيّة العلميّة أن تُدخِل منهجًا حديثًا إلى المناهج التّعليميّة يعتمد على المعرفة خارج نطاق الكتاب المدرسيّ ويتعدّاه ليكون في منزل كلّ طفل، في مكتبات مجّانيّة في كلّ حيّ، في كلّ أنشطة المدرسة الخارجيّة التي تنظّمها المؤسّسات المعنيّة بكلّ علمٍ، وتأخذ على عاتقها تثقيف الأجيال عبر أنشطتهم وكتبهم والتّفاعل بينهم وبين تلامذة اليوم والأمس والغد.
من المهمّ جدًّا على المؤسّسات الثّقافيّة الّتي تنسّق مع المدارس وغيرها من المؤسّسات الّتي تُعنى بالتّطوّر الفكريّ، أن تُوسّع شبكات الاتّصال والتّواصل بشتّى أشكاله وتعمل على طرح مخطّطها وآليّة تنفيذه المُحكمة، مع دراسة كلّ التّقنيّات المتوفّرة، والّتي يمكن ابتكارها أو إدخالها إلى عوالم كلّ الفئات المعنيّة بهذا التقدّم. كما ندعو إلى توسيع الشّبكة إلى حدّ "عولمة الثّقافة" في المجالات الأكاديميّة والثقافيّة والاجتماعيّة بمختلف مستوياتها وموادها ومنشوراتها كافّة.
في تعريف الثّقافة اصطلاحًا يتبيّن أنّ الثّقافة الّتي يكوّنها أي شخص تؤثّر على سلوكه، وتدلّ الثقافة على مجموعة من السّمات لتمييز مجتمع عن غيره. ولكن في مكان ما يبقى مصطلح الثّقافة من أكثر المصطلحات إثارة للجدل. أمّا في ظلّ التطوّرات والتّفاوتات الاجتماعيّة فرديّة كانت أم مجتمعيّة، نظرنا إلى أنّه لا بدّ من "عولمة الثّقافة" أي بمعنى تبادل الثّقافات بمستويات عالميّة لا حدود لها، وهذا يتمّ طبعًا وفق معايير قيميّة تُحَدّد عالميًّا وتنسحب على المجتمعات مع التّوفيق المعتدل بين ما سنبنيه وما سنحافظ عليه لنُبقي على التّوازن المجتمعيّ محترمين خصوصيّة كلّ بيئة. وهذه العولمة لا بُدّ وأن تصير كون الرّقمنة لم تعد حاجة ملحّة فقط إنّما صارت جزءًا من حياتنا اليوميّة.
العمل الأكاديميّ والمناهج الأكاديميّة ترتبط بشكل أو بآخر ببيئة المجتمع وتأثيرات المحيط المجاور لها. وفي ظلّ التّكديس المنهجيّ والمناورات حول تعديله أو عدمه يقتصر غالبًا عمل الأستاذ على إنهاء البرامج المحدّدة له وفق وقت محدّد وصيغة محدّدة، هذا فضلًا عن توكيله مهامّ ومسؤوليّات أخرى تخرج عن رسالته الأساس.
من الجيّد أن نذكر تأثير جائحة كورونا على التّعلّم بجانبَيْه الجيّد والسّيّء، ولكن الأهمّ ذكر تأثير الحروب الدّمويّة والنّفسيّة والاقتصاديّة التي ما زالت تزور دارنا تاركةً آثار تفوق السّلبيّة على حاضر ومستقبل أجيالنا.
حاولت الكثير من المنظّمات والجمعيّات العموميّة منها والخاصّة في دولٍ متعدّدة، كالمؤسّسات الحقوقيّة والإنسانيّة والفاعلين الدّوليّين والإقليميّين العاملين في مجال حقوق الطّفل وحقوق الإنسان عامّة، الحدّ من هدر وقت التّلامذة ومحاولة إلحاقهم بما أمكن بمصيرهم الدّراسيّ ونجحت إلى حدّ كبير على الرّغم من الهجومات الّتي تعرّضت لها ومن المضايقات المعنويّة والمادّيّة الّتي أحاطت بها، كما نجحت في تأمين جزء ممّا سعت إليه. وهذا لمسناه في محيطنا وأُثبت في بعض الدّول بعد ما سمعناه في اللّقاء الحواريّ الّذي أقيم ضمن ورشة إقليميّة بعنوان "دور التّكنولوجيا ومنصّات الانترنت في تعزيز ثقافة حقوق الطّفل تجارب من الدّول العربيّة"، بدعوة من برنامج الماجستير العربي في الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في جامعة القدّيس يوسف بيروت، ونوقشت فيه آليّات وتحدّيات استثمار التّكنولوجيا وحقوق الطّفل في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأفضل التّجارب الإقليميّة في مجال استثمار التّكنولوجيا لتعليم الأطفال وحماية حقوقهم.
هذا لا يكفي. عندما نُفعّل شبكات التّواصل ونُعَولم الثّقافة، أي عندما ننفتح أكثر وأكثر على مجالات متعدّدة متنوّعة، ونتعاون ونكشف مغاليق التبارد والتّبالُد والتّقاعص وتبادل التّهم... في سبيل التّطوّر، فعندها فقط نكون قد قفزنا فوق كلّ سياج يحاول ردعنا من تطوير منهاجنا وطرق عيشنا وثقافتنا ومعرفتنا، سعيًا نحو بناء جيل متعدّد الثّقافات متنوّع القدرات قادر على خلق نقلة نوعيّة تاريخيّة بعد فترة ما.
"الصّبر مفتاح الفرج"، ومفتاح الصّبر هو السّعي بشتّى الطّرق المتوفّرة أمامنا، فما علينا سوى السّعي مع التّخطيط وصولًا إلى التّنفيذ، وهذا العمل منطلق من الهدف من عولمة الثّقافة في بيئتنا ومجتمعنا وعالمنا الأكاديميّ، وهو الانفتاح والتّعاون ولفت الانتباه نحو المعرفة المتعدّدة.
من الجيّد أن نبدأ من الصّفر، صفر أكاديميا، ويكون الانطلاق من عالم الرّقمنة نحو أكاديميا جديدة منفتحة الآفاق، بحيث تكون الرّقمنة أداة بين أيدينا لإطلاق عولمتنا الثّقافيّة، وستكون الموزّع الأساس لها والفاتح الأوسع والأشمل لشبكات الاتّصال والتّواصل لخلق وتطويع وتطوير منهجيّات معاصرة مُرقمنة حركيّة تفاعليّة منفتحة على مختلف العلوم والثّقافات في العالم. ربّما في مكان ما سنحتاج إلى علماء فضاء (ناسا للأطفال)، علماء تكنولوجيا، جيولوجيا، بيئة، إلى احترافيّي مسرح وتمثيل عالميّين، إلى حكواتيّين عالميّين، إلى طبّاخين، إلى فنّانين...
نعم، سنحتاج العلماء والمفكّرين والموهوبين والمبدعين والمبتكرين، وسيكون علينا إدخال عوالمهم في منهجيّاتنا، ويجب أن نتنبّه جيّدًا إلى أنّ المناهج والبرامج الأكاديميّة يمكن أن تتركّز أكثر وتتحوّل إلى شرائح ثابتة حتّى زمن ما، أي ستصير البرامج موحّدة إل حدٍّ ما وفي متناول الجميع، وهذا سيوفّر علينا عناء الوقت وسيسمح لنا ولوج عوالم أخرى لمواكبة ما ستأخذنا إليه الحياة. فلنُعولم الثّقافة ولنوسّع كلّ وسائل الاتّصال والتواصل انطلاقًا من الرّقمنة.