قبل أشهر، وبسبب جائحة كورونا، اضطرّ المتعلّمون والمتعلّمات في العالم أجمع إلى التوقّف عن التعلّم الحضوريّ، واعتماد التعلّم عن بعد مرحليًّا بصورة كلّيّة. كنت أتوقّع توقّف الدراسة بوصفه تدبيرًا احترازيًّا للمحافظة على صحّة المتعلّمين والمدرّسين، لكنّ السؤال الذي كان يحيّرني هو مدّة التوقّف، لأنّ الدروس لم تُستكمل بعد، ولم تُجرَ الاختبارات جميعها. كان ثمّة بعض الغموض، لكن اتّضحت الصورة بعد ذلك.
البداية
عمليّة التعليم عن بعد بدأت في اليوم نفسه الذي توقّفت فيه الدراسة الحضوريّة، إذ أنشأتُ فصولًا افتراضيّة في العديد من مواقع التواصل الاجتماعيّ: "فيسبوك، إنستغرام، واتس آب". ثمّ على منصّة "تيمز". وكان التحدّي الأوّل، بالنسبة لي، أن تشمل هذه العمليّة كلّ المتعلّمين أو على الأقلّ جلّهم. وأظنّ أنّني نجحت في ذلك. والتحدّي الثاني كان إنتاج موارد رقميّة تتّسم بالجودة في المضمون، تُيسّر العمليّة التعلّميّة للمتعلّمين. وأظنّ أنّني نجحت في ذلك أيضًا. الشيء الوحيد الذي كان يقلقني في هذه المرحلة هو تلك النسبة من المتعلّمين التي لا تملك حواسيب، أو هواتف ذكيّةً، أو اشتراكًا في شبكة الإنترنت. هؤلاء المتعلّمون لم يتمكّنوا من الاستفادة من التعليم عن بعد.
بما أنّ جلّ المتعلّمين لديّ من الفئة العمريّة 14-18 سنة، فإنّ لديهم حسابًا في أحد مواقع التواصل الاجتماعيّ على الأقلّ. هنا، جاءت فكرة إنشاء مجموعات في هذه المواقع أطلقت عليها اسم فصول افتراضيّة (classes virtuelles)، وفي ظرف يومين فقط، بلغ عدد المنخرطين في هذه المجموعات مئتي متعلّم. كما كانت فكرة إنشاء مجموعات في مختلف مواقع التواصل الاجتماعيّ حلًّا مناسبًا للوصول إلى جُلّ المتعلّمين، لأنّ لبعضهم حساب على "فيسبوك"، وبعضهم الآخر على "واتس آب"، أو على "إنستغرام". بعد ذلك، كان من السهل إبلاغ المتعلّمين بإنشاء فصول افتراضيّة أخرى على منصّة تيمز.
جودة الموارد الرقميّة
عندما نتحدّث عن موارد رقميّة تتّسم بالجودة، فإنّ المقصود بالجودة هنا تلبيتها عددًا من المعايير تجعلها تؤدّي وظيفتها التعليميّة على أحسن وجه. فالمضمون يجب أن يكون مفهومًا، وملائمًا للمستوى الدراسيّ للمتعلّمين، وأن تُراعى فيه الفوارق في المستوى المعرفيّ للمتعلّمين، وأن تكون المضامين متنوّعةً، لكي يجد فيها كلّ متعلّم ضالّته. كما كنت أحرص على أن تكون الموارد من إنتاجي الخاصّ دون اللجوء للنقل، أو الاقتباس، أو القرصنة. تقنيًّا كانت الموارد الرقميّة ذات جودة عالية من ناحية الصوت والصورة بالنسبة للموارد السمعيّة البصريّة، ومن ناحية التصميم الجرافيكيّ بالنسبة للموارد المكتوبة.
تسهيل العمليّة التعلّميّة للمتعلّمين يأتي بطريقة تدريجيّة؛ فبالإضافة إلى تمكينهم من المضامين، كان عليهم اكتساب استراتيجيّات التعلّم حتى يكونوا مستقلّين. مثلًا: عندما نعمل على نشاط الكتابة، بدلاً من إعطاء المتعلّمين نصًّا جاهزًا كمثال، يكون أكثر فاعليّة تزويدهم بالمفاتيح لكتابة أيّ نصّ. وعندما يكتسب المتعلّم هذه الاستقلاليّة تكون العمليّة التعلميّة أسهل وأنجع.
الاستقلاليّة في التعلّم
تُعدّ استقلاليّة المتعلّم، تامّةً كانت أو جزئيّةً، من أهداف التعليم عن بعد، وهي كذلك شرط أساسيّ لنجاحه. وتتحقّق هذه الاستقلاليّة تدريجيًّا بتزويد المتعلّم باستراتيجيّات التعلّم. ويمكن أن نطلق على متعلّم وصف متعلّم مستقلّ، عندما يتعلّم كيف يتعلّم (apprendre à apprendre)، إذ يتقلّص دور المدرّس، ويكون دور التلميذ هو المهيمن. ويمكن أن نميّز بين نوعين من الاستقلاليّة: الاستقلاليّة المعرفيّة، وهي التي تهدف إليها المدرسة (إذ يكون المتعلّم قادرًا على إنجاز المهمّات الموكلة إليه دون اللجوء إلى مساعدة المدرّس)، واستقلاليّة سياسيّة أو علائقيّة إذ يكون المتعلّم قادرًا على التفاعل بصورة مناسبة مع جميع المتدخّلين في ما يمكن أن نسمّيه هيكلة علائقيّة مع زملائه في الصفّ ومدرّسيه.
مع انتشار الموارد الرقميّة يمكن للمتعلّم المستقل التعامل بطريقة سلسة مع هذه الموارد، إذ يمكنه استغلالها بطريقة صحيحة، والاستفادة من مضامينها دون الحاجة للرجوع إلى المدرّس كلّ مرّة. ومن تجربتي المتواضعة هذه السنة مع فصولي الافتراضيّة يمكنني القول: إنّ من نتائج التعليم عن بعد اكتساب الاستقلاليّة في التعامل مع المعارف؛ ففي المراحل الأخيرة من التعليم عن بعد لاحظت أنّ المتعلّمين لم يعودوا يطرحون الكثير من الأسئلة، كما كانوا يفعلون في التعليم الحضوريّ، أو في أوّل مراحل التعليم عن بعد. فقد كانوا ينجزون الواجبات بصورة مستقلّة. أيضًا، كانت جودة إنتاجات المتعلّمين أفضل، بل وقد طوّروا نظرةً نقديّة في محتويات الموارد الرقميّة ومضامينها.
الشعور بالعزلة
الشعور بالعزلة أمر طبيعيّ عندما لا يكون المتعلّم مهيّأ نفسيًّا لعمليّة التعليم عن بعد. لهذا كنت أصرّ على حقيقة أنّ المتعلّم يجب أن يكتسب استقلاليّة في التعامل مع المعارف، والموارد الرقميّة المختلفة. وفي غياب هذه الاستقلاليّة، يجد المتعلّم نفسه وحيدًا، وغير مؤهّل لمواجهة الموارد الرقميّة، التي بدلاً من مساعدته في التغلّب على صعوباتها تخلق لديه شعورًا بالنقص، وتزعزع ثقته بنفسه. من هنا جاءت أهمّيّة مرافقة المدرّس للمتعلّم في بداية العمليّة حتى يكتسب استراتيجيّات التعلّم، على أن تنخفض وتيرة هذه المرافقة تاركةً المجال للمتعلّم ليفجّرَ قدراته، ويكتسبَ استقلاليّةً تمكّنه من التغلّب على الصعوبات، وحشد مهاراته في مواقف مختلفة.
أنا شخصياً لا أجد في عمليّة التعلّم التي تستخدم الموارد الرقميّة أيّ نوع من العنف، بل أعدّها فرصةً تتيح للمتعلّمين التعرّف على تقنيّات المعلومات والاتّصالات الجديدة. علاوةً على ذلك، فهي فرصة لبعضهم لتطبيق ما تعلّموه في دروس الكمبيوتر. كما يعدّ تحضيرًا للعام المقبل إذا ما بقي التعليم عن بعد ساري المفعول في حالة استمرار حالة الطوارئ الصحّيّة في بلدنا.
نعمة أم نقمة؟
يعدّ التعليم عن بعد شيئًا جديدًا بالنسبة لفئة كبيرة من المدرّسين، إذ إنّ تكوينهم الأساسيّ وتدريباتهم الميدانيّة تتمحور حول التعليم الحضوريّ فقط. فمن الطبيعيّ أن يُعبّروا عن عدم قدرتهم على استخدام وسائل التعليم عن بعد للتواصل مع المتعلّمين. زد على ذلك أنّ المدرّسين الذين يدرّسون في العالم القرويّ، حيث لا يملك المتعلّمون حواسيب، وهواتف ذكيّة، وتغطيةً للإنترنت، تكون عمليّة التعليم عن بعد بالنسبة لهم شبه مستحيلة. لكن ثمّة من عدّ هذا النوع من التعليم تحدّيًا، فاستطاع أن يُطوّر مهاراته في وسائل التواصل، وأن يُكوّن نفسه في تقنيّات إنتاج الموارد الرقميّة المصوّرة أو المكتوبة، من أجل تقديم منتج جيد للمتعلّمين. كما يجب ألّا ننسى أنّ كلّ شيء جديد يلقى مقاومةً في بدايته. وأنا شخصيًّا أفضّل نظام تدريس يمكن أن نسمّيه الهجين، يجمع بين فترات تعليم حضوريّ وفترات تعليم عن بعد، تُخرج المتعلّم والمدرّس من رتابة الصفّ، وتمكّن المتعلّم من أن يتعلّم كيف يتعلّم. فقد تعدّدت الوسائل والهدف واحد، وهو فائدة المتعلّمين.
كلّ الوسائل التي استعملت في هذه الفترة الاستثنائيّة ساهمت بصورة كبيرة في تتبّع المتعلّمين لدروسهم، والاستعانة بمصاحبة المدرّس عند الحاجة. ولا أظنّ أنّ المدرس مجبر على استعمال وسيلة بعينها إذا كانت الوسيلة التي يستعملها تمكّنه من بلوغ الهدف المنشود، ألا وهو استفادة أكبر عدد من المتعلّمين من تعليم جيّد عن بعد.