أدخلُ إلى الفصل، فأجد التلاميذ يعملون بصمت، يحلّون التمارين في كتاب التطبيقات، المُعلّم يجلس خلف مكتبهِ. ومع دخولي إلى الفصل، يبدأ المُعلّم بالتجوّل بين التلاميذ ويلقي نظرة على أعمالهم. الصّفّ بارد بعض الشيء، الجداريّات فارغة، علامات الملل تظهر على وجوه التلاميذ، وحين أسأل بعضهم ماذا تفعلون؟ يُجيبون طلب منا المُعلّم أنّ نحلّ التمرين لدينا امتحان غدًا.
أدخل إلى الفصل المجاور، حركة وضجيج فعّال، عمل مجموعات، أبحث عن المعلم فلا أجده، فهو منهمك مع بعض التلاميذ الذين يقدّمون عرضًا ما في زاوية الصف، شبكات تقييم ذاتيّ تتوفّر بين أيدي التلاميذ، أعمالهم تزيِّن الجدران، وحين أسأل البعض ماذا تفعلون؟ فتأتي الإجابة نُحضّر عرضًا عن أهمّيّة الحفاظ على البيئة، سنقدّمه لأولياء الأمور الأسبوع القادم، وكل مجموعة ستقدّم عرضًا مختلفًا: أغنية، مسرحيّة قصيرة، عرض مرئيّ، منشور، وتتوفّر في الفصل وسائل التكنولوجيا ومصادر مختلفة يستخدمها التلاميذ للتحضير للعروض كالموسوعات والكتب العلميّة وغيرها.
الصّفّ الأوّل ما زال موجودًا إلى يومنا هذا، وأسال نفسي كيف نستطيع الانتقال من النموذج الأوّل إلى النموذج الثاني في مدارسنا العربيّة. ما من وصفةٍ سحريّة، ولكن العمليّة تبدأ مع فريق القيادة المدرسيّة، فما زلت، إلى الآن، أجلسُ في اجتماعات تطول وتطول إذ المدير هو المتكلّم الوحيد وعلى الجميع الإنصات له. حين تصبح قيادة المدرسة قيادة تشاركيّة وتتحوّل الاجتماعات المطوّلة إلى ورش قصيرة يشترك فيها الجميع ويعبّرون عن المواضيع المطروحة، نشجّع، عبر ذلك، المُعلّم على تطبيق النموذج نفسه مع التلاميذ داخل الفصل، فيصبح التلميذ شريكًا في عمليّة التعلّم ومسؤولًا أيضًا.
هذا التغيير سيخلق ثقافة مدرسيّة تعتمد على العمل التعاونيّ والبحث والقراءة والمشاركة والزيارات الصفّيّة من قبل الأقران لمشاركة الخبرات؛ فنادي الكتاب، مثلًا، مُمكن أن يكون انطلاقةً لتحويل المدرسة من مكانٍ لتلقّي المعلومة إلى مكانٍ للتأمل والبحث عن المعلومة وتطويرها ونقدها، فتُصبح المدرسة مكانًا لنتعلّم كيف نتعلّم، تُصبح ملتقى للعلماء والمفكّرين، تُصبح مكانًا للابتكار والتأليف.
زيارتي للصّفّ الثاني بالتأكيد سبقتها اجتماعات وورش لإعادة النظر في مهنة المُعلّم وتعريفها، فالمُعلّم الذي يعرف كل شيء وهو محور الصّفّ والعالم لم يعد له وجود في يومنا هذا، شبكة الإنترنت حلّت محلّهُ. مُعلّم اليوم هو ميسرٌ يساعد التلاميذ للوصول عبر استخدامهِ مفاتيح عدّة وطرقًا مختلفة.
في الصّفّ الثاني اكتشفت أنّ المدرسة أعدّت ورشًا مُختلفة للأهل وبنت ثقة متبادلة، فجيل الأمس لا يشبه جيل اليوم وجيل اليوم لا يشبه جيل الغد، فالعقليّة السائدة بين الأهل المُتمثّلة بسؤال: "هل ابني الأوّل في الفصل؟"، عليها أن تتغيّر إلى: "هل ابني يتعاون مع الآخرين، يبتكر، مُنظّم، يُطوّر تفكيره الإبداعيّ؟"، وهذا النوع من التغيير لا يحصل إلّا في بيئة تُشبه بيئة الصّفّ الثاني.
لقد حان الوقت، خاصّة مع أزمة كورونا، أن نُعيد التفكير بطريقة تدريسنا، وبمحتوى الحصص الذي نقدّمه للتلاميذ؛ هل نُعدِّهم للحياة أمْ للامتحان؟