دور مؤسّسات المجتمع المحلّيّ في دعم التعليم أثناء الحرب: تجربة جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ في غزّة
دور مؤسّسات المجتمع المحلّيّ في دعم التعليم أثناء الحرب: تجربة جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ في غزّة
2024/12/30
منار الزريعي | معلّمة لغة إنجليزيّة- فلسطين

مع استمرار الحرب على قطاع غزّة، ما زالت المؤسّسات التعليميّة في قلب الأزمة الإنسانيّة، حيثُ تحوّلت المدارس إلى مراكز إيواء طارئة، وتغيّرت أدوار المعلّمين والهيئات التربويّة بشكل جذريّ. وجد المعلّمون أنفسهم ينتقلون من أدوارهم التقليديّة في التدريس إلى مهامّ طارئة تتنوّع بين توزيع الموادّ الإغاثيّة، وإدارة مراكز الإيواء، والقيام بمهامّ إداريّة تلبّي احتياجات الوضع الراهن.

وفي ظلّ هذا الواقع، برزت تحدّيات ضخمة في تقديم الخدمات التعليميّة، حيث تعرّضت البنية التعليم التحتيّة إلى دمار واسع النطاق، وتفاقمت المعاناة بسبب انقطاع الكهرباء، وصعوبة الوصول إلى شبكة الإنترنت. أضف إلى ذلك، الانعكاسات الكارثيّة للحرب على الحالة النفسيّة والمعيشيّة للمعلّمين والطلّاب، والذين استشهدَ منهم المئات، وأصيب الآلاف، بينما اضطرّ آخرون إلى العيش في ظروف قاسية، بما في ذلك الإقامة في خيام بدلًا من منازلهم.

هذه التحوّلات المفاجئة ألقت بظلالها على العمليّة التعليميّة، وحوّلت المدارس من فضاءات للتعلّم إلى ساحات للنضال من أجل البقاء، ما عكس الأثر العميق للحرب في المجتمع التعليميّ بأسره.

 

مبادرات لسدّ الفجوة التعليميّة

على الرغم من هذه الأوضاع الكارثيّة، ظهرت العديد من المبادرات التعليميّة الفرديّة والجماعيّة، سواء المستقلّة، أو تلك التي تقودها مؤسّسات المجتمع المدنيّ، داخل مراكز الإيواء أو خارجها، ضيّقة وواسعة النطاق، الوجاهيّة والإلكترونيّة، بهدف إنقاذ جيل كامل من الأطفال المتأثّرين بواقع الحرب. دفع الخوف، من فقدان هذا الجيل، العديد من المهتمّين إلى إطلاق مبادرات تلبّي احتياجات الأطفال، في ظلّ التحوّل المستمرّ للحرب إلى واقع جديد طويل الأمد.

أدّت هذه المبادرات دورًا محوريًّا في سدّ الفجوة التعليميّة، بتوفير فرص تعليميّة بديلة. ومن النماذج البارزة جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ، إذ استجابت للاحتياجات التعليميّة الطارئة، مُعتمدة على نهجها في إدارة الأزمات وهيكليّتها التنظيميّة، والتي تغطّي مناطق عدّة في قطاع غزّة، مستفيدة من تاريخها الطويل في بناء شراكات مع المؤسّسات الدوليّة والمحلّيّة.

 

جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ: جهود متميّزة لدعم التعليم

وفقًا لأمال إبراهيم خضير، مديرة برامج الطفولة والتعليم في جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ، والتي تأسّست خلال الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، كانت أنشطة الجمعيّة التعليميّة قبل الحرب تتركّز على مشروع "أطفالنا مستقبلنا". استهدف المشروع دعم الطلبة ذوي التحصيل المتدنّي بالتعلّم النشط، مع تأهيل المعلّمين وتعزيز البيئة التعليميّة الداعمة للأطفال.

ومع اندلاع الحرب، تغيّر تركيز الجمعيّة نحو تحسين الوضع النفسيّ والتعليميّ، للأطفال الذين تعرّضوا إلى صدمة الحرب والانقطاع عن التعليم. شملت الأنشطة الجديدة برامج ترفيهيّة، وصحّيّة، وإغاثيّة، وغذائيّة، وتوعويّة، بالإضافة إلى الدعم النفسيّ وإدارة الحالة، خصوصًا للأطفال الأيتام والمنفصلين عن ذويهم بسبب النزوح. كما توسّعت الأنشطة التعليميّة لتشمل جميع المستويات الدراسيّة ضمن ما يُعرف بـ"المساحات التعليميّة".

وأوضحت خضير: "نسمّيها مساحات تعليميّة لأنّها تتنوّع ما بين الخيام، والعراء، وأيّ مكان نستطيع تأهيله واستخدامه. ولا يصلح أن نسمّيها مدارس أو فصولًا بسبب الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتيّة للتعليم".

تقدم الجمعية هذه الخدمات في 11 مساحة تعليميّة تخدم 6,000 طفل، بمشاركة 230 معلّمًا و30 من طاقم الجمعيّة الأساسيّ. وتركّز الأنشطة التعليميّة على الموادّ الأساسيّة: اللغة العربيّة، والرياضيّات، والعلوم، واللغة الإنجليزيّة، مع دمج مهارات حياتيّة، مثل القيادة، والحماية من الاستغلال، والتعامل مع ظروف الحرب.

تضمّ كلّ مساحة تعليميّة معلّمين متخصّصين في الموادّ الأساسيّة، بالإضافة إلى معلّم صفّ. تُقسّم الدراسة إلى أربع فترات يوميّة، لتوفير الفرصة لأكبر عدد ممكن من الأطفال، مع الحفاظ على أعداد صغيرة لا تتجاوز 20 طفلًا في كلّ صفّ، لضمان جودة التعليم.

تستهدف المساحات التعليميّة التابعة للجمعيّة الطلّاب من المرحلة الابتدائيّة (الدنيا والعليا) والمرحلة الإعداديّة. وتوجد هذه المساحات في مناطق دير البلح، والزوايدة، وخانيونس، والقرارة. أمّا في غزّة، فتقتصر جهود الجمعيّة على مساحات للدعم النفسيّ، وإدارة الحالة بسبب نقص الموارد والطواقم البشريّة.

يتضمّن عمل الجمعيّة في مجال التعليم أيضًا، أنشطة تأهيل للمعلّمين، من خلال دورات تدريبيّة حول التعلّم النشط، والتعامل مع الأطفال في أوقات الحرب، والإسعاف النفسيّ الأوّليّ، والصحّة العامّة للأطفال.

 

شغف بالتعليم وإقبال كبير على المساحات التعليميّة

تصف أ. خضير اللحظات الأولى لفتح المساحات التعليميّة، حيث اندفع الأطفال إلى التسجيل، وجلسوا على الأرض، أو على صناديق الإغاثة التي حوّلوها إلى مقاعد وطاولات. الأطفال الذين يعيشون في مراكز الإيواء، يجدون في المساحات التعليميّة متنفسًا بعيدًا عن قسوة الحياة اليوميّة، مثل الوقوف في الطوابير للحصول على الغذاء والمياه. يأتون إلى الخيام التعليميّة في أفضل هيئة، حيث يرتّبون شعرهم ويرتدون أجمل الملابس التي تمكّنوا من إنقاذها.

تصف أ. خضير لحظة مؤثّرة بكت فيها بحرقة خلال أوّل نشاط ترفيهيّ، عندما شاهدت الأطفال يقبلون على الأنشطة في "مدرسة بناة الغدّ"، إحدى مواقع الجمعيّة، إذ يحضر أكثر من 1200 طالب يوميًّا بشغف كبير، على الرغم الظروف القاسية، بروح تنبض بالأمل والحياة، مع كلّ التحديات التي تواجههم.

وعلى الرغم من العجز في الموارد، مثل نقص الأثاث والقرطاسيّة، يظهر الأطفال شغفًا استثنائيًّا بالتعليم، إلى درجة أن يتقاسم كلّ طفلين دفترًا واحدًا ليتمكّن الجميع من المشاركة. هذا الشغف بالتعليم لا يقتصر على الأطفال فقط، بل يمتدّ أيضًا إلى الطواقم التعليميّة والأهالي. يتميّز العاملون في الجمعيّة بروح العطاء وخدمة الطفل الفلسطينيّ، بينما يظهر الأهالي عزيمة وقناعة راسخة بأنّ أبناءهم يستحقّون الحياة، وأنّ تعليمهم مفتاح مستقبلهم.

تقول أ. خضير: "ما يجعل هذا العمل ممكنًا هو الشغف المشترك بين الأطفال، والطواقم التعليميّة، والأهالي. نحن بحاجة إلى آلاف المساحات التعليميّة لتلبية العدد الكبير من الأطفال الراغبين في التعلّم. الشغف والأمل يحفّزاننا على الاستمرار، مهما كانت الظروف".

 

الشراكة مع المؤسّسات المحلّيّة والدوليّة

بفضل تاريخها شريكًا موثوقًا لدى المؤسّسات الدوليّة والمحلّيّة، تمكّنت الجمعيّة من تنفيذ الأنشطة التعليميّة وإيصال الدعم إلى المنتفعين. كما نجحت في خلق مبادرات تعليميّة أكثر اتّساعًا وتنظيمًا واستدامة، مستهدفة عددًا أكبر من الطلّاب من خلال رؤية واضحة ومتكاملة. يشمل الدعم توفير رواتب المعلّمين والمدرّبين، والقرطاسيّة، وحقائب مدرسيّة للأطفال، بالإضافة إلى معونات غذائيّة، ومستلزمات صحّيّة.

إلى جانب مشروع المساحات التعليميّة الآمنة بدعم من اليونيسف وصندوق الأمم المتّحدة للسكّان، تنفّذ الجمعيّة عدّة مشاريع أخرى تخدم قطاع التعليم في غزّة أثناء الحرب. من بين هذه المشاريع: مشروع توفير خدمات الدعم النفسيّ والاجتماعيّ والخدمات التعليميّة غير الرسميّة بدعم من الشركة العربيّة الفلسطينيّة للاستثمار، ومشروع استعادة التعلّم والرفاه للأطفال، بالإضافة إلى مشروع تقديم الدعم النفسيّ والاجتماعيّ وتنمية المهارات للأطفال المتأثّرين بالحرب، بدعم من الحملة اليابانيّة من أجل أطفال فلسطين.

تؤكّد أ. خضير وجود تواصل دائم مع وزارة التربية والتعليم في غزّة، حيث تزور وفود إشرافيّة مناطق عمل الجمعيّة لمتابعة الأنشطة التعليميّة. تتم أيضًا المصادقة على الخطط التعليميّة التي وضعتها طواقم الجمعيّة، بما يتوافق مع رؤية الوزارة وأهدافها. قام الاختصاصيّون التربويّون العاملون لصالح الجمعيّة بتصميم خطّة تعليميّة موحّدة لكلّ المساحات التعليميّة، تعتمد على الحزم التعليميّة الطارئة التي أقرّتها الوزارة، وتُنفّذ باستخدام استراتيجيّات التعلّم النشط بدلًا من الأساليب التقليديّة.

تحصل الجمعيّة على الحزم التعليميّة إلكترونيًّا، وتقوم بتعميمها على المعلّمين والأهالي، مع توفير نسخ مطبوعة للمعلّمين وأوراق عمل للطلّاب حسب الإمكانيّات.

تقول أ. خضير: "نعمل بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم لاعتماد الدروس التي نقدّمها تعليمًا رسميًّا، ما سيتيح للطلّاب اجتياز سنة دراسيّة كاملة خلال أربعة أشهر. على سبيل المثال، يحصل الطالب على شهادة اجتياز الصفّ الخامس في كانون الأوّل/ ديسمبر، ثمّ يكمل أربعة أشهر أخرى ليجتاز الصفّ السادس في أيّار/ مايو، ما سيسهم في تعويض الفاقد التعليميّ الناتج عن الحرب المستمرّة منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023".

 

التحدّيات التي تواجهها الجمعيّة أثناء الحرب

وفقًا لأمال خضير، تواجه جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ تحدّيات كبيرة في ظلّ الحرب المستمرّة. من الناحية الأمنيّة، يواجه الفريق أخطارًا يوميّة للبقاء على قيد الحياة بسبب القصف المستمرّ، وقد فقدت الجمعيّة بعض أعضاء فريقها بين شهداء ومصابين. أحيانًا تضطرّ الجمعيّة إلى وقف الأنشطة بسبب القصف الذي يستهدف الأماكن التي تعمل فيها، أو مراكز الإيواء التي تؤوي الأطفال.

تعاني الجمعيّة نقصًا حادًّا في الموارد، مثل الوقود اللازم للمواصلات، ما يُصعّب التنقل بين المدن. يلجأ الفريق أحيانًا إلى التواصل عبر الإنترنت أو الهاتف مع انقطاع الكهرباء وضعف شبكات الاتّصالات. وأحيانًا يضطرّون إلى التنقّل سيرًا على الأقدام لمسافات طويلة، أو باستخدام عربات تجرّها الحيوانات. كما يواجهون تحدّيات بسبب شحّ القرطاسيّة والأدوات التعليميّة وارتفاع أسعارها.

تشير أ. خضير إلى أنّ الجمعيّة تحتاج إلى غرف صفّيّة أكثر استقرارًا وفعّاليّة من الخيام، مزوّدة بالأثاث المناسب، وكمّيّات كافية من القرطاسيّة، بالإضافة إلى ملابس وأحذية للأطفال، تحديدًا في فصل الشتاء.

تبذل الجمعيّة قصارى جهدها لتجاوز هذه العقبات. تقول أ. خضير: "ما يدفعنا إلى الاستمرار في العمل في خضمّ هذه الظروف التعجيزيّة إيمانُنا الراسخ بحقّ الطفل الفلسطينيّ في التعليم. أطفالنا في غزّة، والذين يعانون ويلات القصف والدمار، يستحقّون الحياة والتعليم تمامًا كما يستحقّه أيّ طفل في العالم، وسنظلّ نعمل لتحقيق هذا الحقّ حتّى بأبسط الإمكانيّات".

 

رؤية مستقبليّة لضمان استدامة التعليم في غزّة

وضعت الجمعية خططًا بديلة، لضمان استمراريّة العمليّة التعليميّة في حال توقّفت الحرب، وعادت العائلات إلى منازلها، وغادرت مراكز الإيواء. أعدّت طواقمها قاعدة بيانات شاملة تحتوي على أسماء الطلّاب، وأماكن نزوحهم، ومناطق سكنهم الأصليّة، وأرقام هواتفهم ووسائل التواصل مع أسرهم، ما يسهّل إعادة توزيع المساحات التعليميّة والمعلّمين. تهدف الخطّة إلى نقل المساحات التعليميّة من مواقعها الحاليّة، القريبة من مراكز الإيواء، إلى الأحياء التي يقطن فيها الطلّاب بعد عودتهم.

تقول أ. خضير: "هذه الإجراءات ضروريّة، خصوصًا وأنّ العودة إلى التعليم الرسميّ والمدارس بشكل طبيعيّ قد تستغرق وقتًا طويلًا. المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء تحتاج إلى تأهيل شامل، إضافة إلى تلك التي تعرّضت إلى أضرار جسيمة، أو دُمرت بالكامل بسبب القصف. قد تستغرق عمليّة الترميم وإعادة البناء عامًا كاملًا لتصبح المدارس جاهزة لاستقبال الطلّاب".

 

***

ختامًا، تمثّل تجربة جمعيّة الثقافة والفكر الحرّ في دعم التعليم أثناء الحرب في غزّة، نموذجًا ملهمًا للعمل المجتمعيّ والتربويّ في مواجهة الأزمات. وعلى الرغم من التحدّيات الجسيمة التي فرضتها الحرب، أظهرت الجمعية قدرة استثنائيّة على التكيّف مع الظروف الطارئة، بتقديمها مبادرات تعليميّة شاملة تلبي الاحتياجات النفسيّة والتعليميّة للأطفال، وتُسهم في تقليل الفاقد التعليميّ الناتج عن الحرب.

يعكس شغف الأطفال بالتعلّم، واندفاعهم نحو المساحات التعليميّة على الرغم من القصف والدمار، تعطّشهم للأمل والحياة. بينما تؤكّد روح العطاء لدى الطواقم التعليميّة والأهالي التزامًا جماعيًّا بضمان حقّ الأطفال في التعليم.

في ضوء استمرار الحرب والتحدّيات المستمرّة، تتجلّى أهمّيّة تعزيز الشراكات المحلّيّة والدوليّة، لتوفير الموارد اللازمة ودعم استدامة هذه المبادرات. إنّ حماية حقّ الطفل الفلسطينيّ في التعليم وسط هذه الظروف القاسية، ليست مجرّد التزام أخلاقيّ، إنّما استثمار في مستقبل أكثر إشراقًا لشعب يعيش تحت وطأة الاحتلال والعدوان.