العدد الثامن العشر من منهجيّات هو خريفنا الرابع، الذي بدأت به دورة وجود مجلّة تربويّة عربيّة، حدّدت منذ البداية أفقها: نحو تعليم عربيّ معاصر.
أربع سنوات، ثمانية عشر عددًا وملفًّا ومحاورة، مئات المقالات، ومئات الكتّاب/ الشركاء الذين يؤنسون المسير في غبش العشيّة، عشرات الندوات، ومئات التدوينات والدردشات... الكثير الكثير ممّا يمكن أن نحتفل به، لولا الظروف التي لا تترك في القلب إلّا الغصّة لفقد آلاف الأطفال الطلّاب، ومئات المعلّمين في القطاع الصغير العملاق، والذي لا يني يعلّمنا كيف تكون إرادة الحياة.
في ظروف أخرى كنّا لنحتفي بالسنوات الأربع لانطلاق مقامرتنا الشرعيّة على صوت المعلّمين والتربويّين العرب، حيث أثبتت هذه المقامرة أنّ للمتعلّمين صوتًا قويًّا، وأنّهم بحاجة إلى منبر يرفع صوتهم المترنّم حينًا، وعقيرتهم حينًا آخر. ويجمعهم في مساحة تلاق وحوار، وأسئلة تولّد أسئلة تزيّت محور حركة التربية والتعليم التي يشوبها الكثير.
وليس أدلّ على حاجة التربويّين العرب إلى نفضة في هذا المجال، من ملفّ عددنا الحالي، "التعليم التحرّري: بدائل واستراتيجيّات"، والذي كنّا متخوّفين منه ومن طابعه "النظريّ"، ليتّضح لنا أنّ الملفّ بات من أكبر الملفّات في منهجيّات: عشر مقالات متنوّعة، شاركت فيها تربويّات وتربويّون مهجوسون بتطوير التعليم العربيّ وتحريره: أحمد عاشور؛ د. خالدة قطّاش؛ بدر عثمان؛ سهير ابن سالم؛ عالية نسيبة؛ د. مروان حسن؛ د. سائدة عفونة؛ إيناس زهران؛ نسيم قبها؛ علي عزّ الدين. مع افتتاحيّة جامعة من المحرّرتين الزائرتين عضوتَي الهيئة الاستشاريّة لمنهجيّات، د. جمانة الوائلي ود. نضال الحاج سليمان.
عن التعليم التحرّريّ: لماذا نعلّم أطفالنا؟
في حين ننشغل بأحسن الطرق لشرح كذا، وأهمّ الاستراتيجيّات لضمان فهم المتعلّمين هذه المعادلة، يغيب عن بالنا سؤال الغاية، خصوصًا أنّ إتقان الموادّ الدراسيّة والمعادلات المعقّدة ليس بالضرورة أمرًا لطيفًا، فمن بنى أسلحة الدمار الشامل كانوا من العباقرة! من هنا، ينطلق التعليم التحرّريّ من الربط بين الإنسان وظروفه، وقدرته على فهم المحيط، وتدريبه على إيجاد الإجابات والحلول بناء على ما هو موجود. إنّه ربط عمليّة التعليم بالغاية من جعل الإنسان متعلّمًا، أي عارفًا بعلمه، وعارفًا أنّ المعرفة أداة تغيير تطال المجتمع. وبغير ذلك يصير التعليم وسيلة تُشيّئ الروح الجميلة الحرّة الكامنة في صدور الصغار، ليكبروا غير مهتمّين إلّا بخلاصهم الذاتيّ، ولا تعنيهم إلّا المنافسة لوصول الـ"أنا" بغير احتساب الكلفة على المحيط الذي حضنها.
هل نعلّم أطفالنا ليصيروا براغي في أنظمة لم ينشئوها؟ أو لنعدّهم للتصدير بحيث نُحرم ممّا عندهم من طاقات وقدرات فاعلة؟ هذه الأسئلة يجب أن تكون هاجس القيّمين على العمليّة التعليميّة، من واضعي السياسات إلى رؤساء المؤسّسات، وصولًا إلى المعلّمة اللطيفة التي تستقبل الطفل الخائف في يومه المدرسيّ الأوّل في حياته.
وبالعودة إلى عددنا الحاليّ، فسنترك تفاصيل مقالات الملفّ لافتتاحيّته، لنشير إلى مجموعة المقالات العامّة المميّزة كالعادة، فنقرأ للدكتور حبيب البدويّ "النهضة التعليميّة اليابانيّة الجديدة: تحوّل نموذجيّ في تعليم العلوم الإنسانيّة"؛ و"أثر التنمّر في البيئة الدامجة: كيف نحمي طلّابنا؟"، للدكتورة جالا رزق؛ و"آليّات استخدام الذكاء الاصطناعيّ في العمليّة التعليميّة ومشكلاتها"، لنور كرزون؛ و"يوميّات معلّم"، لنهيل عبد القوي شديد؛ و"لا تجعل صمته يحبطك: أَعِنه في اكتشاف قدراته الكامنة"، لنسرين كزبور. من غير أن ننسى المحاورة الممتازة مع التربويّ الفلسطينيّ عبد السلام خدّاش، وأبواب المجلّة التي صبّ معظمها في خدمة مفهوم التعليم التحرّري تعريفًا واقتباسًا.
خريف منهجيّات الرابع، يجعل عودنا أكثر شبابًا، وتصميمنا أكبر على الخوض في مشكلات التربية والتعليم، المرتبطة بكلّ الظروف القاهرة. لا بأس، نتّكِل عليكم، شركاءنا التربويّين في المسير والمصير، ونصيح مع درويش صيحة الحياة والإرادة:
"قُل مع القائل: لم أسألك عبئًا هيّنًا... يا إلهي،
أعطني ظَهرًا قويًّا...".