توازن حياة الطلبة في العصر الرقميّ
توازن حياة الطلبة في العصر الرقميّ
2023/02/12
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

يسود الانقسام بين الأهالي في ما يتعلّق باستخدام أطفالهم للأجهزة الذكيّة، ومواقع الألعاب الإلكترونيّة أو منصّات التواصل الاجتماعيّ، ما بين مؤيّد لهذا الاستخدام وله مبرّراته وأدلّته، ومعارض ولديه حججه كذلك.

يحتّم علينا المشهد الواقعيّ لحياة أطفالنا مع الوسائل التكنولوجيّة، أن نعترف بأنّنا لم نعد مصدر التربية الوحيد في حياتهم، وأنّ أطفالنا، رغمًا عنّا، يكتسبون قيمًا واتّجاهات فكريّة من تلك الأجهزة والمنصّات، إضافة إلى مصادر كثيرة متعدّدة، مثل الأقران الذين يعقدون معهم حوارات عبر تلك المنصّات، أو فرق الألعاب الإلكترونيّة العابرة للفضاء. وعلينا أيضًا أن نعترف بأنّ هذه المصادر باتت تؤثّر بشكل عميق في تنشئتهم، وتحدّد الأفكار التي يعتنقونها، والاتّجاهات الفكريّة التي يميلون إليها، بل وصل الأمر إلى أن يجاهروا بها ويدافعوا عنها، ويخوضوا نقاشات حولها.

ثمّة حاجة إلى إصلاح خطير وشامل، وفي وقت سريع.

 

الحياة في مجتمعات منقسمة وتعاني استقطابات وتقاطعات، توفّر مناخًا ملائمًا للكراهيّة وعدم تقبّل الآخر، وضعف الحوار وقلّة التواصل، وسلوكات أخرى كثيرة غير مرغوبة. وهذا الأمر يُفقد المجتمع توازنه، ويقلّل من قدرته على احتواء الاختلافات ومعالجتها في إطار منطقيّ عقلانيّ. تحصين المجتمع ضدّ هذه السلوكات، وحمايته من أخطارها، مسؤوليّة أفراده كلّهم، مهما تباينت أدوارهم واختلفت مواقعهم؛ فلكلّ واحد منهم دوره في المنظومة المجتمعيّة.

ستكون البداية أكثر منطقيّة عندما يأخذ النظام التعليميّ على عاتقه توفيرَ منهاج يعزّز القيم الإنسانيّة النبيلة القائمة على التواصل مع الآخر، وتوفير المضمون العميق الذي يخاطب حاجة الإنسان العقليّة بالدرجة الأولى؛ فتحترم المناهج عقله، وتواكب أنماط الحياة الحديثة، وتعرّض الطالب على نصوص مرتبطة بواقعه، وتخلّصه من الفجوة الآخذة بالاتّساع بين ما يدرسه في الغرفة الصفّيّة وما تحتاج إليه الحياة حوله. منهاج ترافقه أنشطة جدّيّة ترسخ القيم الإنسانيّة السامية في المساواة والاحترام والتسامح.

التعامل اليوميّ بين المعلّم والطالب يجب أن يؤدّي، في النهاية، إلى إيجاد بيئة رحيمة راشدة.

 

النظام التعليميّ الذي نبتغيه يجب أن يعمل على إعداده خبراء يعرفون جيّدًا ما يتعرّض إليه أطفالنا في مواقع التواصل الاجتماعيّ والألعاب الإلكترونيّة الجماعيّة، من خطابات وفيديوهات تقودهم إلى التعصّب الفكريّ، والجمود في الحوار، ودفعهم إلى المخاطرة غير محسوبة العواقب، والتي تتضمّن تحدّيًا لمسلّمات حياتيّة توردهم المهالك؛ مثل تحديات التعامل مع الماء والنار. هذا الأمر يفرض بالضرورة تأهيل الكوادر التدريسيّة، وتزويدها بالمهارات اللازمة التي تجعل الطالب أصيلًا في التعاطي مع ما يُبثّ عبر تلك الوسائل، متزنًا في نقاشها، مفكّرًا قبل الإقدام على تجربتها أو اعتناقها.

التعامل اليوميّ بين المعلّم والطالب يجب أن يؤدّي، في النهاية، إلى إيجاد بيئة رحيمة راشدة، تحتوي الطالب وتتفهّم احتياجاته، وتسهم في تغيير جوهريّ في طريقة تعاطي الطلبة مع وسائل الاتّصال الإلكترونيّة، وألعاب الفيديو التفاعليّة. تُعزّز هذه البيئة الرحيمة عائلةٌ تقلّص المسافة بين ما يوفره المنزل وما تعلّمه المدرسة، وتحرص على أن لا يبقى التذرّع بانشغالات الأب والأمّ بمتطلبات الحياة المعيشيّة مبرّرًا لبعدنا عن أطفالنا وعوالمهم الخفّيّة مع تلك الأجهزة والمنصّات.

يساند دور النظام التعليميّ قرار عربيّ، ربما تتبنّاه مجامع اللغة العربيّة في الوطن العربيّ، بزيادة المحتوى الرقميّ العربيّ في شبكة المعلومات العالميّة، وتوجيه دعم حقيقيّ مؤثّر لصنّاع المحتوى العربيّ الذي يبثّ القيم الإنسانيّة النبيلة، ويعزّز أفكار الناشئة الإيجابيّة، ويدفعهم إلى التواصل المثمر. هذا المحتوى يجب أن يتضمّن ألعابًا لا تقوم على العنف، أو تتطلّب اجتياز مراحل قائمة على انتهاكات من أنواع متعدّدة. ويجب أن تكون هذه الألعاب قادرة على جذب الأطفال، وقادرة على الاستحواذ على اهتمامهم، وإكسابهم قيم التنافس الشريف الناعم في جوٍّ مرح ودّيّ في مقابل الألعاب العنيفة، أو التحدّيات الخطيرة التي تلحق الأذى بحياتهم وسلوكهم.

على الأهل اليوم، أن يعرفوا أنّهم مصدر من مصادر التربية المتعدّدة، وأنّ تحدّيات التربية في العصر الحاليّ مختلفة تمامًا عن الماضي الذي كنا نخشى فيه رفاق السوء فقط.

 

ما سبق لا يعني أن نسيطر على أبنائنا، ونتحكّم بهم، ونفرض عليهم قيودًا مشدّدة؛ فالحياة تتغيّر، وتعامل الأهالي مع أبنائهم متفاوت، فما يفتقده الطالب في البيت يستطيع تعويضه بسهولة من الإنترنت والأقران. ناهيك عن المخاطر التي قد تنشأ عندما يأخذ الأهل المنحى التعسفيّ في التعامل مع تقدّم الحياة وتطورها؛ فحجز حرّيّة الطفل قد يجعله معقّدًا، وغير قادر على اتخاذ قرار في المستقبل أو خوض حوار. من هنا على الأهل اليوم، أن يعرفوا أنّهم مصدر من مصادر التربية المتعدّدة، وأنّ تحدّيات التربية في العصر الحاليّ مختلفة تمامًا عن الماضي الذي كنا نخشى فيه رفاق السوء فقط، فنمنع الطفل من الخروج إلى الشارع للحدّ من تأثيرهم، أو نختار له من نريد أن يخالطهم.

اللجوء إلى تطبيقات الرقابة الأوتوماتيكيّة التي تمنع الدخول إلى التطبيقات الضارّة سيكون مفيدًا في هذا المجال، وسيكون هذا الحلّ مجديًا، خصوصًا إذا توفّر البديل المناسب للتطبيقات والمواقع الضارة. ففي زمن الجيل الخامس للثورة التكنولوجيّة، دخلت الرفقة حياة الإنسان في كلّ وقت، ما دام يحمل جهازه، ولم نعد قادرين على التحكّم بما تبثّه تلك الأجهزة.