قُبلة واحدة تأثيرها كالسّحر
ما إن دلفت رجلي إلى ساحة المدرسة وعيناي ترمقان طالبًا في الصفّ الأوّل الابتدائيّ، كان قد تطوع لقراءة فاتحة الكتاب؛ وهي فعاليّة أساسيّة من فعاليّات الطابور الصباحيّ في مدارسنا، بدا الطالب مرتبكًا، وعلى ما أظنّ أنّها كانت التجربة الأولى لمشاركته على الإذاعة الصباحيّة. تقدّمت من فوري إلى ذلك الطفل وقبّلته من رأسه. صمتت الضحكات والسخريات فجأة. قلتُ له: "أعِد يا بطل، أنا متأكّد أنّك تحفظ الفاتحة عن ظهر قلب وسور أخرى غيرها". والتفتُّ إلى جموع الطلبة، وقلت لهم: "لنقرأ معه بعد كلّ آية". أنهى الطالب قراءة السورة بالكامل وصفّقَ له الجميع.
انتقلنا بعدها إلى غرفة الإدارة فنظر مدير المدرسة إليّ نظرة احترام، وقال: "تركت فينا اليوم أثرًا كبيرًا، لقد بعثت للجميع رسائل عميقة، للطلبة كي يكفّوا عن التنمر؛ لأن موقف الإلقاء على الإذاعة المدرسيّة لا يستهان به ويحتاج للتدريب والمران، وخصوصًا عند الأطفال. لقد وجَّهت رسالة للمعلّمين أن يكونوا قرب طلابهم المشاركين في فعاليّات الإذاعة الصباحيّة، يدعمونهم، ويشدّون من أزرهم، بعد التدريب المسبق على الكلمات والفعاليّات الأخرى. أرسلت لي رسالة عميقة كمدير للمدرسة لأكون سريع البديهة في مثل هذه المواقف، فأحسن التصرّف، وأوجّه الفعل السلبيّ إلى جهود وممارسات إيجابيّة. فأنا شاكر لك من الأعماق". أما أنا فشردت في تفكيري قليلًا وخاطبت نفسي قائلًا: "أيعقل أن يكون لقُبلة واحدة كل هذا المفعول من السحر؟"
طالبة الصفّ الثامن التي قابلتها لوظيفة معلّم جديد
ما إن عرضت موقفها التربويّ أمام لجنة المقابلات لوظيفة معلّمة للغة العربيّة، وكنت حينها، رئيسًا للّجنة حتى بادرتني بالقول: "أستاذ قبل أن تطرح أسئلتك أنا أعرفك وأكنّ لك كلّ احترام". قلت لها تشرّفنا، لكن من أين تعرفينني، وما سرّ الاحترام؟ فقالت: "كنت في الصفّ الثامن الأساسيّ عندما زرتنا في المدرسة، وقتها طلبت كرّاسات التعبير لمتابعتها، وحين قرأت موضوعاتي أصررت على لقائي والتعرّف عليّ، وحين تقابلنا قلت لي: "أنتِ مشروع كاتبة"، من يومها ازداد حُبّي للغة، وتعلّقي بالكتابة، وشغفي أصبح يزداد يومًا بعد يوم، فدرست اللغة التي أحببت، وها أنت تقابلني اليوم لوظيفة معلّمة. أنا طالبة الصفّ الثامن تلك". قلت لها تذكّرتك أنتِ من مدرسة الإسراء. وما زلت أذكر ذاك الشتاء العاصف، حين فاجأتني بكتابتها الجميلة. ها هي تخرج من المقابلة بكبرياء، تمنّينا لها التوفيق، وكلّنا أمل أن تكون معلّمة مبدعة ككتاباتها المُميّزة.
الطالب حسن يعلّمنا درسًا في الإيثار
اخترتُ قصّة غسّان كنفاني "القنديل الصغير" لدرس في النصوص، إذ طلبت مني إحدى المعلّمات القديرات أن أطبّق أمامها حصّة غير تقليديّة، تجتمع فيها الأساليب التربويّة الحديثة لتلتقط منها إشارة البدء. كان تحدّيًا كبيرًا، فماذا ستضيف لمعلّمة مضى عليها في الخدمة يقارب ربع قرن من الزمان، وعدد الطلاب بلغ أربعين طالبًا. أخرجت الطلاب لساحة المدرسة ووزّعت عليهم النصّ مُجزّءًا إلى أجزاء غير مترابطة. وطلبت من كل مجموعة أن تشكّل قطعة من النصّ. وبعدها أقرأتهم النصّ على مدرّجات ملعب كرة السلّة، تحت مظلّة كبيرة. وتأكّدت أن الجميع أدرك الحبكة في القصّة، وإذ كان الزمان والمكان متخيّلين فلا مانع من عمل دراميّ يقوم به الطلاب. فمرّة يدخلون في أدوار متخيّلة، ومرّة في أدوار واقعيّة، استمرّ الفعل الدراميّ ساعة متكاملة، إذا خرجنا من رتابة الحصّة المغلقة إلى فضاء التعلّم الواسع. غنّى الطلاب أغنيّة جميلة ألّفناها في الساحة. عدنا إلى مقاعد الغرفة الصفّيّة، لكن لا بدّ من عمل إضافيّ يجعل من فهم المقروء مجالًا يعبّر فيه كل شخص عن رغبته في اقتحام القصّة كما يشاء. رسم أحدهم بوّابة القصر قبل هدمها، وآخر رسم القنديل، وثالث رسم شيخًا على عكّاز، ابتعد معظمهم عن رسم الجنود والملك، رسم بعضهم الطفلة التي تحاول إدخال الشمس للقصر.
اقتربت لحظة توزيع الجوائز، كنتُ قد أحضرتها لتكريم أفضل المشاركين في الأنشطة، أردت من الطلاب أن يكونوا الحكّام في اختيار الفائزين في الأنشطة. كتبنا أسماء الأنشطة على السبّورة، ووزّعنا على الطلّاب قصاصات ورقيّة ليسمّي كل واحد اسم فارس هذا النشاط شرط أن لا يكون اسمه من ضمن الأسماء، فازَ حسن في ثلاثة أنشطة. واستحقّ ثلاث جوائز. حينها طلب الطلاب أن يكون للرسم جائزة، انتبهت حينها أن نشاط الرسم لم يكن في حسابي فقد انتهت الجوائز من السلّة وما زال طالب يستحق الجائزة. صفّق له الجميع وقلت له: "في أقرب فرصة ستكون جائزتك حاضرة ومغلّفة بالورود". عندها تدخّل حسن وقال: "لو سمحت يا أستاذ، أنا أتنازل عن جائزة من جوائزي الثلاث لزميلي". هُنا علا التصفيق في القاعة. تعلّم الطلاب أن لا حاجة لإدخال الشمس للقصر، ما دمنا نستطيع إدخال العدل إليه ورعاية شؤون الناس، بينما أنا تعلّمت من حسن قيمة الإيثار، وما أسعدني أكثر أن مدرسة قضيت فيها ساعتين أو ثلاث كشفت لي عن طاقات كبيرة وعميقة لدى الطلاب، يمكن أن نستغلّها في تعزيز انتمائهم وشغفهم للقراءة إن أبدعنا، وخرجنا عن القوالب الجاهزة، وخصوصًا إن كان ما يقرؤونه خارج عن المنهج الإلزاميّ.
الدميتان "حسنة ووسيمة" تعودان إليكم من جديد
تجربة المعلّمة المبدعة إباء العطايا في تدريسها للغة العربيّة في المرحلة المتوسّطة تستحق التوثيق بكامل تفاصيلها، من حيث الإعداد الجيّد للحصّة بوسائلها وأساليبها التدريسيّة الحديثة، إضافة لأدوات التقويم المختلفة، واستخدامها أنماطًا من التعلّم تعتمد الغناء واللّعب، وممارسة التعلّم النشط في كلّ مرّة.
تقول المعلّمة في دور دميتيها المرافقتان لها في معظم حصصها: "حلّت اليوم الإثنين الدمية حسناء ضيفةً على مدرستنا بصحبة صديقتها السيّدة زرافة، حيث خرجت حسناء من منزلها مبكّرة مرتدية مريولها وكمامتها". اندمج طلبة الصفوف الخامس والسابع (أ) والسابع (ب) جميعهم بدون استثناء في حصّة اللغة العربيّة حيث تحمل الزرافة في جعبتها مجموعة بطاقات مدوّن عليها أسئلة كثيرة يجب على الطالب أن يجيب عنها كإجراء.
تقويمي للدرس في ختام الحصّة: ما أروعكم يا طلّابنا الأبطال الأحبّة وشكرًا لمشاركتكم.
وتُضيف المعلّمة: "وها هي الضيفة الدمية وسيمة تطلّ على طلابنا في الصفّين الخامس والسادس الأحبّة من جديد في حصّة اللغة العربيّة، ولكن هذه المرّة بحلّتها الجديدة مرتدية كمامتها وكما اعتادها الطلبة سابقًا، فهي تزورهم في ختام كل درس في التقويم الختاميّ حاملة في جعبتها سلّة مليئة بالبطاقات الملوّنة المحتوية أسئلة تقويميّة للدرس".
ما قد نراه بسيطًا قد يلامس قلوب وعقول طلابنا، لكم أن تتخيّلوا كم الفرحة والتشويق في عيونهم، لكن اليوم كان لإباء العطايا دورًا مختلفًا حين قدّمت عرضًا كنموذج لحصّة في النصوص، أمام المعلّمين الجدد. وقد طبّقت استراتيجيّات متعدّدة وقيّمة، لها تأثيرها المباشر على إشراك كافّة فئات الطلبة في الأنشطة، من عصفٍ ذهنيّ، ومناقشات غنيّة، وتفعيل أدوار الطلاب في الكتابة، والتخيّل، واللعب بالكلمات، وتنوّع في أنشطة فهم المقروء. كما استغلّت وسائل متعدّدة في تحقيق الأهداف، ولم تغب هذه المرة الدمية حسنة في أنشطة التقويم، لكن حضر معها عرضًا لمقطع فيديو، ومدرّج تحقيق الأهداف، والبطاقات، واللوحات، وغيرها.
استمعت المعلّمة بكلّ هدوء لملاحظات زملائها بعد العرض، وقدّمت لهم نصائح جمّة في استخدام كرّاسات التقويم اليوميّة، وملاحظاتها المكتوبة عن آليّة تنفيذ وسير الحصّة، فلها ولمثلها تُرفع القبّعات.