لم تقتصر أضرار انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد العالميّ فقط، بل أثّرت في جميع القطاعات بدرجات متفاوتة، ومن أكثرها تأثّرًا التعليم؛ إذ أدّت المرحلة الأولى من تفشي الفيروس إلى تعطّل التعلّم، وتوقفه مدّةً من الزمن، ما ألحق ضررًا على مُختلف الأصعدة ضمن المجتمع التعليميّ، وصار من الضروري البحث عن حلول فوريّة تساعد على استمرار الدراسة بأي شكل من الأشكال، وكان الخيار المتاح هو الاستعانة بشبكة الإنترنت، وتطبيقات التواصل الاجتماعي؛ من أجل بناء نمط تعليميّ يتدارك أي فجوات قد تحصل بسبب التوقف المفاجئ عن التعلّم، فجاء التعليم عن بُعد بديلًا مؤقتًا للتعليم المدرسيّ.
عندما وصل منحنى فيروس كورونا الوبائيّ إلى مرحلة من الاستقرار، ومعدّلات شبه ثابتة، قبل بداية العام الدراسيّ 2020/2021، في بعض الدول، أصبح ضروريًّا إعداد خطّة عودة آمنة لالتحاق الطلاب بالتعليم المدرسيّ، وفي المقابل، لم يكن خيار التعلّم الوجاهيّ ممكنًا بصورةٍ كاملة، بل ظلّ من المهم الاستعانة بالتعليم عن بُعد المتزامن مع التعليم داخل الغرفة الصفّيّة. ومن هُنا بدأ تطبيق نظام التعلّم المدمج، الذي يضمن استمرار الدراسة داخل وخارج المدرسة، ولكن بطبيعة الحال ظهرت مجموعة عقبات، لعل أكثرها تأثيرًا وأهميةً؛ كانت في كيفية تعويض الطلاب ما فقدوه من مفاهيم، ومعلومات، ونتاجات بنيت عليها المرحلة الدراسيّة السابقة، لمرحلة عودتهم إلى التعليم المدرسيّ، وهكذا جاء مفهوم (الفاقد التعليميّ)، الذي بات متداولًا بشكلٍ واسعٍ في الأوساط التعليميّة.
الفاقد التعليميّ
لا يوجد أي شكّ أن الهيئات والوزارات المختصّة بالتربية والتعليم في الدول، اهتمّت بمعالجة قضيّة الفاقد التعليميّ المترتّب على فيروس كورونا، فظهرت الخطط الإجرائيّة التي تضع جدولًا زمنيًّا يساهم في علاج هذه المشكلة، ومحاولة تدارك الأخطاء المترتّبة على الانقطاع عن الدراسة بصورتها المعتادة، والمساهمة في تقليص حجم الفجوة الحاصلة بين التعليم الوجاهيّ والتعلّم عن بُعد، وإعادة العمليّة التعليميّة إلى مسارها الصحيح، بما يضمن تحقيق الأهداف المخطّط لها.
الفاقد التعليميّ، أو مثلما يُطلقُ عليه أيضًا الهدر التعليميّ، هو واحدٌ من أشهر القضايا التعليميّة. ويُعرّف بأنه توفّر الجهود، والكفاية الزمنيّة من أجل استمرار التعلّم، ولكن دون تحقيق النتاجات المطلوبة من المناهج الدراسيّة؛ فصُنّفَ الفاقد التعليميّ مشكلة خطيرة، ومرتبطة بمشكلاتٍ أخرى، مثل التسرّب المدرسيّ، وقلّة الموارد البشريّة من المعلّمين الأكفّاء، وارتفاع عدد الطلاب داخل الصفّ الواحد، وفي سنة 2020 أدّى انتشار جائحة كورونا في العالم، إلى أن تكون واحدة من المشكلات المُسبّبة للفاقد التعليميّ في كثيرٍ من الدول.
أسباب الفاقد التعليميّ
لم تظهر قضية الفاقد التعليميّ وليدة الصدفة، بل جاءت ناجمة عن مجموعة أسباب، ففي الوضع الطبيعي قبل ظهور فيروس كورونا، ارتبطت بعدم اكتراث كثير من أسر الطلاب بأهمية التعلّم؛ بسبب قلّة الوعي لدى أحد الوالدين أو كليهما بضرورة متابعة الأبناء في المدرسة، وإجبار كثير من العائلات أبناءهم على العمل، وترك الدراسة نتيجة الظروف المادّيّة، والتشتّت الأسريّ الناتج عن انفصال أو وفاة الوالدين، وما يترتب عليه من ضرر نفسيّ ينعكس على الطالب وتعلّمه، كما قد تشارك بعض المدارس في حدوث هذا الفاقد عن طريق تطبيق ممارسات غير تربويّة، مثل ترهيب وتخويف الطلاب من قبل المعلّمين والإدارة، باستخدام أساليب عقاب غير مقبولة وممنوعة أثناء معالجة أخطائهم وقضاياهم، وضعف مهارات بعض المعلّمين في تعزيز الطلاب، وتشجيعهم على المشاركة في محتوى الدرس.
حديثًا، شكّل فيروس كورونا سببًا رئيسًا لقضيّة الفاقد التعليميّ، وأرى أنه أصبح السبب الأوّل، والأكثر تأثيرًا في التعليم حول العالم، بسبب عدم وجود الكفايات اللازمة لدى نسبةٍ كبيرةٍ من أولياء أمور الطلاب لتدريس أبنائهم نتاجات المناهج الدراسيّة، مع شحِّ موارد بعض الدول في توفير بدائل سريعة ومجدية لغياب الطلاب عن حضور الحصص في المدرسة، والذي أفقد وجود التوازن الملائم بين بيئة الدراسة في المنزل، والبيئة التعليميّة المدرسيّة، فما يحصل عليه الطالب أثناء وجوده في الصفّ عن طريق تفاعله، وتواصله، واندماجه مع زملائه ومعلّميه، يعتمد بشكلٍ أساسيّ على خطّةٍ تُنفّذ محتوى المنهاج الدراسي، وهكذا تسبب فيروس كورونا بتعميق انتشار قضية الفاقد التعليميّ، والتي تحتاجُ إلى حلول فورية وإيجابية على المدى القريب.
تعويض الفاقد التعليميّ
يحتاجُ الفاقد التعليميّ بصفته مشكلة قائمة، وقضيّة تربويّة ذات أبعاد عديدة إلى وسائل تساهم في تعويضه، وعلاجه، ضمن خطة علاجيّة، تشمل، غالبًا، التركيز على عدّة جوانب، وأهمّها: المهارات الأساسيّة؛ وهي القراءة والكتابة والحساب، خاصّة للصفوف الثلاثة الأولى، التي تعدّ أهم مرحلة تعليميّة بصفتها أساس تكوين شخصيّة الطالب، ورفده بكافة الإمكانات الداعمة له في مراحل تعلّمه اللاحقة، كما من الضروري إجراء اختبارات تشخيصيّة لجميع المراحل الدراسيّة دون استثناء، وعادةً تكون هذه الاختبارات في المواد الأربعة، اللغة العربيّة، واللغة الإنجليزيّة، والرياضيّات، والعلوم بكافّة مجالاته، وتضاف بعض المواد الأخرى، التي تشكّل جزءًا من المرحلة التعليميّة السابقة لدى الطلاب، ويهدف ذلك إلى قياس مدى تمكّنهم من نتاجات تلك المرحلة، من خلال ترصيد نتائج هذه الاختبارات، التي تُحدّد مستوى كل طالب ومهاراته الشخصيّة، وهكذا تتبلور مكوّنات الخطّة العلاجيّة، وتنتهي باختبارات بعديّة تقيس جميع مؤشّرات الأداء المحدّدة، لتعويض الفاقد التعليميّ، ويشكّل تحقيق الطلاب علامات جيّدة جدًا فيها، مقياسًا على نجاح معالجة الفاقد التعليميّ.
أثر الفاقد التعليميّ في التعليم
أثّر الفاقد التعليميّ في التعليم بصورة سلبيّة، إذ أدّى إلى حدوث تشتّت كبير بين الطلاب من جهةٍ، والمناهج الدراسيّة من جهةٍ أخرى، كَما قلّل فرص استثمار الموارد الماليّة والبشريّة المخصّصة للتعليم في مكانها الصحيح. ومن هُنا انبثقت من الفاقد التعليميّ مجموعة آثار، حصد الطلاب النصيب الأكبر منها، خاصّة في مرحلة توقّف الدراسة داخل المدارس، مع العطلة الإلزاميّة المفروضة حول العالم أثناء انتشار فيروس كورونا، فازدادت معدلات الرسوب في مختلف المراحل التعليميّة، وانعكست بدورها على الدول النامية، التي ارتفعت فيها نسبة الأمّيّة بسبب عدم توفّر القدرات والوسائل اللازمة فيها لاستدامة التعلّم، ومتابعة دراسة الطلاب في ظل جائحة كورونا، ما عمّق من الآثار الناتجة عن الفاقد التعليميّ، والتي قد تمتد إلى سنوات كثيرة حتّى يتم تداركها وفق برامج متوافقة مع جميع المعايير التربويّة والتعليميّة العالميّة.
إن الفاقد التعليميّ، وأثره في التعليم، ليس قضيّة بسيطة يمكن حلّها في مرحلة زمنيّة قصيرة، بل يحتاج علاجه إلى تحقيق التعاون المشترك بين عائلات الطلاب والهيئات التعليميّة، ذلك عن طريق توظيف جميع القدرات التي تعالج آثاره السلبيّة، وتحدّ من تفاقم حالة عدم استقرار التعلّم المترتّبة عليه، مع ضرورة تذكّر أن الطرف الوحيد الذي يدفع ضريبة هذه المشكلة الخطيرة هو الطالب، باعتباره المحور الأساس في العمليّة التعليميّة، لذلك يجب الإسراع دون تأجيل أو تردّد في الوصول إلى علاجٍ فعّال، يساهمُ في تحسين كفاءة التعليم، وحماية مستقبل الطلاب من تداعيات الفاقد التعليميّ.