مقولةٌ استوقفتني، وهي لزميلة، وأخذتني في فضاءٍ عميقٍ من التأمّل: "ألا تلاحظ وأنت تسير في حدائق قطر اختلاف الأشجار وتنوّع أصولها، حيث نقلت من مواطنها الأصليّة إلى هنا؟ وكذلك نحن، فكلّنا من أصولٍ وثقافاتٍ مختلفة قد اجتمعنا هنا".
من الطبيعيّ كمعلّمٍ أن تتّجه بوصلة تأمّلي مباشرةً نحو البيئة المدرسيّة، لأتفرّس من جديدٍ مكوّناتها البشريّة، فإذا بالطّاقم الإداريّ والتّعليميّ والصّحيّ والخدماتيّ كلّهم من مشارب وأصولٍ مختلفةٍ، لوهلةٍ تشعر أنك بين مزيجٍ فريدٍ وكأنّما جمعت أمامك العديد من قارّات أو بلدان العالم دون أن تتكلّف عناء السّفر إليها جميعها، فأنا أندغم بتلك الشعوب وأتعرّف على ثقافاتهم ولهجاتهم ولغاتهم وأطباعهم، وأشاركهم مناسباتهم العديدة وأطعمتهم الفريدة التي لم يتح لي سابقًا معرفتها.
أمّا البيئة الصفّيّة، فأخذت أعمل فيها البصر، مثلما أعملته بادئ الأمر في زملائي، وأتفرّس سرّ انتظام عناصر ذلك العقد الفريد، فالتلاميذ هنا مزيجٌ بديعٌ من مختلف البلدان اجتمعوا في صفٍّ واحدٍ ومدرسةٍ واحدةٍ، وقد تحقّق لديهم، كما تحقّق لي، الانخراط بالثّقافات العديدة والاطلاع عليها والتّعايش معها دون حاجةٍ إلى السّفر لدولٍ متعدّدةٍ والإقامة فيها بغية التّحليق في الفضاء المعرفيّ وانفتاح العقل وتوسيع الأفق. أدركت حينها قيمة الاغتراب إلى بلدٍ منفتحٍ على أممٍ كثيرةٍ، وكيف يتيح لنا فرصًا في إكساب واكتساب الخبرات وتوسيع المدارك ما لا يمكن أن تتيحه عدّة أسفارٍ، فالتنوّع هو سرّ الجمال والكمال، وهو مادّة تلاقح الأفكار وخصبها، ومرآة انعكاس القيم والمبادئ، والتفكير بعقليّةٍ دوليّةٍ منفتحةٍ.
حينما نتأمّل بعمقٍ، نرى كيف أنّ تلك القوّة الفطريّة في التشبّث بالحياة تخلق الإرادة والطّموح؛ فالطّلبة المنحدرون من بيئاتٍ وأصولٍ متعدّدةٍ وقد تكيّفوا مع بيئةٍ جديدة، هم كتلك الأشجار التي تكيّفت مع المناخ والتّربة والتّضاريس- غير المألوفة لها سابقًا- فأورقت وأورفت ظلالها. هم يهيّئون لأنفسهم جذورًا في تربةٍ جديدةٍ متحدّين كلّ عوامل التغيّر، تلمح في عيونهم الإصرار والهمّة والشّغف بتلك التجربة والاندفاع نحو ذلك التّحدّي، والابتهاج بذلك التنوّع من الأقران. ولكن، كيف يمكننا معشر المعلّمين أن نستثمر تلك الحالة الفريدة؟
أوّلًا: علينا تطويع الظّروف المحيطة في خلق بيئةٍ صفيّةٍ شعارها إذكاء روح الإبداع وإشعال فتيل الهمّة والمبادرة، من خلال استثمار التنوّع في الوحدات الدراسيّة، وما ينضوي تحتها من تعبيرٍ شخصيٍّ وثقافيٍّ، وانفتاحٍ معرفيّ، وهويّاتٍ وتجارب ينصهر فيها البشر ببوتقةٍ واحدةٍ تجمعهم تحت مظلّة تشاركيّة هذا الكوكب، فينبري الطلبة بالبحث والاستقصاء حول الثقافات الأخرى، ويعبّرون عن ثقافاتهم محادثةً وكتابةً، ويتعرّضون إلى نصوص استماعٍ وقراءةٍ في هذه المجالات، ويتحاورون مع أقرانهم حول ثقافاتهم متخطّين حاجز اختلاف اللّهجات أو اللّغات، والذي من شأنه أن يهيّئ لهم التبصّر في فرص الحياة واكتشاف المواهب، وتحديد تطلّعاتهم نحو ما سيكونون في المستقبل.
ثانيًا: يمكن استثمار حالة التنوّع من خلال الأنشطة المدرسيّة بما يتناغم والبرامج الدوليّة. ومن الأمثلة على ذلك، النشاط السنويّ المعروف بيوم الثقافات؛ إذ يمكن أن يعرض فيه الطلبة ثقافاتهم دون الحاجة إلى أن يتقمّصوا ثقافاتٍ أخرى خارج نطاق ثقافتهم الأصيلة، فالتنوّع الموجود حقيقةً كفيلٌ بأن يؤدّي فيه كلّ تلميذٍ عرض ثقافته الأمّ بشكلٍ طبيعيٍّ دون تكلّفٍ.
ثالثًا: توسيع دائرة المواهب المنتمية إلى بيئاتٍ وثقافاتٍ عديدةٍ، وعدم اقتصار الاهتمام بمواهب محدودةٍ منتميةٍ لثقافاتٍ وبيئاتٍ محدودةٍ. ومثال ذلك مادّة الموسيقى؛ إذ تحوي مجالًا واسعًا وثريًّا في ميدانها، كاستخدام وتعليم الطلبة العزف على آلةٍ موسيقيّةٍ جديدةٍ لم يعهدوها سابقًا، والتعرّف إلى تاريخها والرّقصات التي تصاحبها، كالآلات التي يستخدمها الأفارقة أو الصينيّون أو غيرهم حسب الجنسيّات المتوفّرة في المجتمع المدرسيّ، وبهذه الحالة تتحوّل الدراسة من حالة التّنظير إلى حالة الممارسة والمعايشة، والذي من شأنه أن يطوّر الطلبة في مجال العقليّة الدوليّة.
إنّ التنوّع لا ينفي التوحّد في الخواصّ المشتركة، فالشّجر على اختلاف أصوله وبيئاته يشترك في حاجته للماء والضوء والتربة الخصبة، وعدم توفّر ذلك يعني ذبولها وانتكاسها. ونحن كذلك بشرٌ متّحدون في نفس المشاعر بالرّغم من اختلاف أصولنا وثقافاتنا، نفرح بالإنجاز والتفوّق، ونحزن عند الإخفاق، نتحمّس إذا حفزنا، ونحبط إذا أهملت مشاعرنا أو لم يتمّ إنصافنا، نتطوّر في البيئات الدّاعمة، ونتقهقر في البيئات المثبّطة. لذا، من واجبنا كمؤسّساتٍ تعليميّةٍ توفير عناصر التأقلم والتكيّف لدفع مسيرة التعلّم الفعّال، وجعل البيئة المدرسية حديقةً غنّاء زاخرةً بالعطاء.
ختامًا، استوحيت عنوان مقالتي من اسم كتاب "العقد الفريد" للإمام الفاضل ابن عبد ربّه الأندلسيّ، فقد سمّاه بهذا الاسم لاشتماله على جملةٍ من الأمثال والأشعار والمواعظ والحكم والأخبار وغيرها بما يوحي إلى أنّ كلّ بابٍ في كتابه هو لؤلؤةٌ أو جوهرةٌ، فإذا اكتملت أبوابه صارت عقدًا فريدًا لما تحويه من أبوابٍ قيّمةٍ متنوّعةٍ. وهو بذلك يمثّل حالةً من التشابه مع مجتمعنا المدرسيّ المتعدّد الأصول والجنسيّات، فكلّ فردٍ فيه يمثّل لؤلؤةً مميّزةً، إذا ما صارت داخل البيئة المدرسيّة وانخرطت في العمليّة التعلّميّة تآلفت وانتظمت واستحالت عقدًا فريدًا زاخرًا بالتنوّع والحيويّة والانسجام.