هُنا في جنوب مدينة رفح، نُصبت مئات الآلاف من الخيام، علّها تؤوي الأسر الفلسطينيّة من خطر نيران الاحتلال الغاشم منذ أربعة شهور. تركوا بيوتهم خلفهم، لا يعلمون عنها شيئًا بعد دخول دبّابات العدوّ مناطقهم. نجوا بأرواحهم، بعد أن كان بعضهم قد استُشهد، وبعضهم قد أصيب.
طفلة السبعة أعوام، جودي، جميلة الوجه، هادئة الملامح، جدائل شعرها بلون الشمس، تأتي كلّ يوم في الساعة الرابعة مساءً مع صديقاتها في الخيام المجاورة، تتّكئ على إحداهنّ بطريقة معيّنة، لتستمع إلى حكاية اليوم التي سأرويها لهنّ، وتناقش معنا الدروس المستفادة من القصّة. وقد تكون إحدى راويات القصّة القصيرة في اليوم التالي، نستمع إليها جميعًا بشوق ومحبّة.
كانت إحدى الحاضرات من بعيد. تمشي متّكئة على زميلاتها، من دون أن يشعر أحد بأنّها تجد نوعًا من التسلية في ذلك، أثارت فضولي كثيرًا. جلست جودي بين زميلاتها بطريقة الحريص على قدميه. أثارت فضولي هذه الطفلة، ولكنّي تركتها وقرّرت التحدّث إليها بعد الدرس.
بدأتُ الجلسة التعليميّة، وقرّرت أن أضع الطفلة جودي نصب عينيّ واهتمامي، رأيتها تضع يدًا على قدمها اليسرى، والتي كانت تغطّيها بحذاءٍ مفتوح، وعلى قدمها قطعة من القماش، موضوعة بطريقة معيّنة. كانت جودي كلّما سألتُ سؤالًا ترفع يدها الأخرى لتحاور وتناقش كباقي زميلاتها. أثارت فضولي أكثر عندما انتهت الجلسة، وعادت الطالبات إلى خيامهنّ بعد أن ألقين عليّ التحيّة، ما عدا جودي ومن معها، رأيتُ صديقاتها يساعدنها في القيام، ويتفقّدن قدمها، رأيتها تهزُّ برأسها كأنّها تطمئن صديقاتها على قدمها، مشت نحوي، متّكئة مرّة أخرى عليهنّ، وأجلستُها بحضني، سألتها: من أين نزحتِ؟ أخبريني.
أخبرتني أنّها من مدينة غزّة. كان نزوح عائلتها الأوّل إلى النصيرات وسط القطاع عند أقارب لهم. وعندما هجم العدوّ برّيًّا إلى المنطقة، اشتدّ القصف المدفعيّ، وخرجوا من البيوت منتصف ليلة باردة شديدة البرودة، مظلمة شديدة الظلام. استشهدت أختاها أمام أعينهم جميعًا، وأصيبت جودي في قدمها. لم تشعر بالإصابة وقتها، وظلّت تجري كما كان حال الجميع من حولها. وعندما بدأت الشمس تشرق، رأت الطفلة كم فقدت من دمائها. تقول جودي: "قطعت قماشة من ملابسي بإيدي ولفّيتها على رجلي وربطتها منيح، وظليت أجري". سمعت جودي صوت سيّارة إسعاف. جرت صوبها وحدها. لم يسمع صوتها الصغير أحد، ولم تتمكّن من الوصول إلى الإسعاف. وجدت نفسها أخيرًا تائهة عن العائلة بسبب تأخّرها في المشي على قدمها المصابة، ولكنّها تمكّنت من الاستعانة بإحدى السيّدات للتواصل مع أهلها، وإبلاغهم أنّها ما تزال على قيد الحياة وتحتاج إلى رعاية طبّيّة.
جاء والدها أخيرًا ليأخذها، ليضع ابنته في حضنه ويضمّها إليه، ويبكي بحرقة لما فقد كثيرًا. كان يظنّها قد استشهدت أيضًا، لكنّ جودي الناجية ما يزال في عمرها بقيّة لتروي الحكاية، وتعطي الأمل بابتسامتها الساحرة كلَّ من حولها. فقدت جودي أختين لها ولم تفقد حبّها للحياة، لم تفقد إدراكها في حقّها الكامل بأن تتعلّم، وحقّها في أن تعيش بأمان. لم تعجز جودي عن تكوين صداقات جديدة تتّكئ عليها، تحبّهم ويحبّونها. فقدت بيتها الصغير ولم تفقد أحلامها، فقدت ذكريات جميلة ولم تفقد الأمل، فقدت ألعابها وكتبها وحقيبتها المدرسيّة، ولكنّها على يقين حتمًا بأنّ الصبح قريب، وأنّ هذا الكابوس سينتهي، وتعود جودي وصديقاتها إلى مقاعد الدراسة يومًا ما.