جميلة المخيّم الطفلة فلسطين، أصيبت في رابع أيّام الحرب على غزّة إصابةً بالغة، فقدت الرؤية تمامًا بعينها اليمنى، بالإضافة إلى إصابة بليغة في أجزاء جسمها المختلفة. وهي تعيش ظروفًا اجتماعيّة خاصّة، فلم ترَ أمّها منذ سنوات، تكتفي نادرًا جدًّا بسماع صوتها وقد لا يحدث ذلك لأشهر عديدة.
ومع ذلك كلّه، فلسطين تعلّمني الكثير من الدروس الحقيقيّة في حياتي، إذ تفيض على أخيها الأصغر، المصاب أيضًا، بنبع الحنان والأمومة بلا مبالغة؛ تُنجز كلّ واجباتها كأمّ صغيرة لأخيها لتحضر الدرس. ونحنُ، بدورنا، ننتظر قدومها جميعنا بلهفة، وإن تأخّرت، يذهب أحد أعضاء الفريق للسؤال عنها. نحبُّ فلسطين وتحبّنا، وأصبحت بعد دقائق معدودة فردًا مهمًّا مُلهمًا من أفراد أسرتي في الخيمة. وقد علّمتني اليوم كيف تقوم بإعداد طبق الأرز الأصفر، "المبهّر" كما تقول.
العظيمة فلسطين معلّمتي الأولى في الأمل، ابتسامتها مدرسة، وتصميمها على الحضور يوميًّا للتعلّم يعلّمني ويعلّمنا الكثير. جميلة الجميلات، ودافئة القلب، وصبورة وهادئة، وتحبُّ الحياة ومتفائلة جدًّا.
أهديتها وردة بيضاء قلت لها: "بيضاء كقلبك يا فلسطين". أذهلتني عندما قالت لي: "هذه الوردة بتشبهك يا مسّ".
ابتسامة خانقة تحاصرني منذ تلك اللحظة.
2
جاءت طفلة جديدة ذات يوم إلى خيمتنا التعليميّة، تمشي على استحياء من بعيد وكأنّها متردّدة في الدخول. استأذنت وطلبت مني التحدّث إليها على انفراد. حدثتني رغد عن قصّتها مع المرض الخبيث الذي أجبرها على حلق شعرها حتى أصبحت كما تظنّ تشبه الأولاد. كان طلبها الوحيد أن تتعلّم على انفراد خشية تعرّضها إلى التنمّر لا سمح الله.
لا تعلم رغد أنّها الكنز الثمين الذي نبحث عنه ليرشدنا إلى الطريق، ونسمو بها ومعها ومن أجلها أكثر وأكثر. بالحبّ والأمل والتعاون استطعنا أن نتقرّب من رغد أكثر وأكثر، ونحبّ الحياة مثلها تمامًا، أكثر وأكثر.
رغد قالت لي اليوم: "نسيتُ أنّي حلقت شعري يا مسّ، ومرتاحة كتير أحسن من أوّل".
لا عشت إن لم أركِ كلّ يوم يا رغد.