"... أذكُرُ اليومَ الّذي رَحَّلونا فيه من بيتنا. قالوا: ارحلوا! صرخوا: ارحلوا وإلّا... وحين لم نتركِ المَكان أخافونا بِسلاحهم. رحّلونا من بيتنا، أخذوا بيتنا وأعطوه لعائلةٍ آتيةٍ من بلادٍ بعيدةٍ. لم نكنْ وحدنا، جيراننا أيضًا تركوا بيوتهم ورحلوا..."
هي قصّة "لو كنتُ طائرًا"، كلمات فاطمة شرف الدّين، ورسوم أمل كرزاي، التي تَمنّى الطّفلُ فيها لو كانَ طائرًا، كي يُحلّقَ فوق الجِدارِ لِيعودَ إلى بيته في النّاحية الأخرى. هو يُريد أن يفهمَ، لماذا أُجبر على تَرْكِ بيته وعلى السّكنِ في بيتٍ لا لون له، ومُحاصر بِجدار؟ فهل سيعودُ إلى بيتهِ في يومٍ ما؟
جاءتِ القِصّةُ في سِياق عمليّة البحث والتقصّي التي قادَها طَلبتي في الصفّ الخامِس حول مفهوم أنظمة الحُكم المُتّبعة في العالم، وارتباطِها بتحقيق العدالة الاجتماعيّة. ولأنّ التعلّم ذا الجودة والجدوى هو التعلّم المرتبط بالواقع، وهو التعلّم الّذي يَعمل من خِلاله الطلبة على ربط المعرفة بالتجارب الواقعيّة والسياقات العمليّة، أثارتِ القِصّة فُضول الطلبة، وحفّزت تساؤلاتهم، ودفعتهم إلى الربطِ بين المفاهيم الموجودة في القِصّة وبين الإبادة الحاصِلة في غزّة؛ فخاضوا نِقاشات وحِوارات استخدموا فيها مهارات التفكير النقديّ، حيث تأمّلوا وفكّروا بمواقف الأنظمة الحاكِمة، والقوانين الدولية المتعلّقة بتحقيق العدالة الاجتماعيّة وحقوق الإنسان حِيال المجازِرِ الجماعيّة بحقّ الفلسطينيّين: فهل ينطبق عليهم مبدأ الحقّ في الحياة، والطبابة، والتّعليم، والعيش بأمان مثلنا؟
لقد تركتِ القِصّة أثرًا عميقًا في نفوس الطلبة، فعبّروا عن غضبهم ورغبتهم في تحقيق العدالة ورفع الظلم، وإعلاء الصوت للدفاع عن غزّة، فقد شوّه ودمّرَ الاحتلال معالم الوطن، ولكنّه عَجزَ عن أن يُسكتَ صوت الحقّ، وأن يُضْعِفَ عَزيمة مَظلومٍ وإيمان مقاوم. كما عبّر الطّلبة عن تعاطفهم وتضامنهم بالقول إنّه "شعب عظيم، لم تهزمه ولم تقهره الحرب، شعب ترفض روحه الانكسار"، وأضافَ آخر بحماسٍ واندفاعٍ مُعقّبًا على أحداث القِصّة: "لو كنت طائرًا، لطرْتُ فوق ذلك الجدار وسلبْتُ منهم مفتاح البيت، كما سلبوا من جدّي مِفتاح بيتنا"، وقد أجمعوا على رأيٍّ مُوحّد وحازِمٍ: أن تسقطَ كلّ القوانين الدولية وأنظمتها الحاكمة الّتي أشْبعتنا تنظيرًا بالحرّيّات وبحقوق الإنسان أمام كلّ غزّيّ استشهد.
رُسوم القصّة ورُموزها عظيمة؛ شجرُ الزيتون وشجرُ البرتقال المزروع في أعلى الهضاب، في إشارةٍ إلى فلسطين، البيّارة الخضراء. كانت تلك الرّسوم كفيلة بِجعلِ الطلبةِ يربطون بينها وبين قصيدة "عاشق من فلسطين"، للشاعر محمود درويش، حين يسألُ في قَصيدته "حكمة الأجداد": لماذا تُسحبُ البيّارة الخضراء إلى سجنٍ، إلى منفى، إلى ميناء...؟ ولكنّ صَوْتَ طلبتي كان دائمًا حاضِرًا لِيُجيب "عائدون وباقون ما بقيَ الزّيتون".
مَنِ المسؤول عن هذا الظلم؟ مَن يتحمّل مسؤوليّة هذه المَجازر التي تُرتكب بحقّ أهلنا، أطفالنا، نسائنا ورجالنا؟ ماذا بإمكاننا أن نفعل لمساعدتهم؟ تساؤلات كثيرة أضرَمت شُعلة التقصّي من جديد، وجعلت الطلبة يُبادرون إلى التعبير بالكلمة، فألّفوا مَجموعة من القصص المُؤثّرة، تحت عناوين "قالت لي فلسطين" و"لأجلك يا غزّة" و"أبناء الأرض"، والتي هدفوا من خِلالها إلى رفع الصوت عاليًا، ونشر الوعي حول تفاصيل القَضيّة وقُدسيّتها، وحول مَجازر أبطالها وشخصيّاتها هم أطفالُ فلسطين، حيث لا عدالة ولا أنظمة حُكم، حيث لا مُجتمع دوليّ يرى، ولا حُرّيّات وحقوق تُطبّق. أبطالها أطفالٌ سُلِبت منهم كلّ مُقوّمات الحياة، وطُلبَ مِنهم، بكلّ بَشاعةٍ وَوقاحةٍ، أن يَرحَلوا!