التقييم.. حجر الرحى في العمليّة التدريسيّة
التقييم.. حجر الرحى في العمليّة التدريسيّة
2022/04/16
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

يثير العدد الثامن من مجلّة منهجيّات الاهتمام حول أبرز القضايا التي تهمّ المعلّمين وهي التقييم، بمعنى أن اهتمام المعلّم يجب أن ينصبّ حول اختيار طريقة حقيقيّة وفاعلة يتأكّد بها من تثبّت التعلّم في أذهان الطلبة، وفي الوقت نفسه، معرفة السبب الذي يحول دون تثبّت التعلّم في أذهانهم ثم معالجته بشكلٍ ملائم. يضاف إلى هذا التحدّي تحدّيات جديدة فرضتها تجربة التعلّم عن بُعد، وبتنا نتحدّث إضافة إلى فعاليّة أدوات التقييم وقدرتها على قياس مستوى الطالب الحقيقيّ عن المصداقية، وواقعيّة النتائج التي حصلنا عليها في التقييم عن بعد، وضرورة توفّر معايير أخلاقيّة تلتزم بها أطراف العمليّة التعليميّة من الطلبة إلى المعلّمين إلى الإدارة إلى أولياء الأمور أثناء تقييم الطلبة.

تقدّم لنا مقالات ملفّ منهجيّات الثامن مقاربة مهمّة في هذا المجال، وتُضيء جانبًا كبيرًا من طريق المعلّمين في التقييم، فهي تدعو، ابتداء، إلى ربط التقييم بحاجات الطلبة والمهارات التي يجب أن ترافق الطلبة في رحلة تعلّمهم، وألّا يكون التقييم عاملًا من عوامل الضغط النفسيّ التي تربك تعلّم الطالب وتؤخر تقدمه الدراسيّ، بل أن يكون داعمًا للطالب في اكتساب المهارات الضروريّة ليكون متعلّمًا فاعلًا. وفي الجهة المقابلة، فإنّ مقالات العدد دعت النُّظم التعليميّة إلى منح المعلّم أدوارًا أكبر في تقييم أداء الطلبة، وألّا يكون المعلّم حبيس أوراق تُفرض عليه في ضوء مُحدّدات كثيرة.

 

يجود علينا الأدب التربويّ بكثير من الاستراتيجيّات والأدوات لتقييم أداء الطلبة، ويكاد يجمع كثير من المعلّمين والعاملين في الحقول التربويّة على أهميّتها وضرورة استخدامها، بل يحاول المعلّمون تطبيقها بتنوّعٍ كبيرٍ وشاملٍ، من باب تبرئة الذمّة أمام المسؤولين أنهم نوّعوا في طرق الوصول إلى مستوى الطالب الذي يستحقّه، لكن المخرجات، التي نراها، تثبّت أن التعلّم لم يحصل، وأن نسب التسرّب والرسوب عالية بين الطلبة، وأن معدّلات حصول الدول العربيّة على نتائج متقدّمة في الاختبارات الدوليّة متدنّية، فضلًا عمّا نراه من أخطاء لغويّة وصياغات ركيكة ينثرها أفراد المجتمع في مواقع التواصل الاجتماعيّ، فهذه المنشورات تؤكّد أن التعلّم لم يحصل، وأن تنويع أدوات التقييم لم يؤتِ ثماره المتوقّعة، فما العمل لمواجهة تحدّيات التقييم في مدارسنا؟

إضافة إلى ما قدّمته مقالات العدد الثامن، أودُّ الإشارة إلى جوانب ستكون نافعة، من وجهة نظري، عندما تأخذ بها النُّظم التعليميّة في بلادنا العربيّة، وتدرّب المعلّمين على استخدامها:

1. تدريب المعلّمين الفاعل والحقيقيّ على استراتيجيّات التقييم وأدواته، إذ لم يحصل جميع المعلّمين على مؤهّلات تربويّة في الدراسة الجامعيّة، وقبل انخراطهم في سلك التعليم، وأن يكون هذا التدريب إجرائيًّا يُمكّن المعلّم من تطبيقه بدقّة.
2. استمرار التقييم على مدار العام، وعدم حصره في اختبار محدّد بموعد زمنيّ يحدّد مصير الطالب، ذلك أن نظريّة التعلّم المستند إلى الدماغ تدعو إلى مراعاة الجوانب النفسيّة للطالب، وأن تعلّم الطالب يتأثّر بهذه الجوانب إذا لم تكن على ما يرام، ولنا أن نتخيّل عندما يقدّم الطالب الاختبار في ظروف نفسيّة صعبة.
3. تحديد أداة التقييم المناسبة للمهارة المراد قياسها، إذ ليس العبرة بتنويع الأدوات المستخدمة في التقييم، بل العبرة في مناسبة هذه الأدوات للمهارة المراد قياسها، وأن تعطي مستوى حقيقيًّا لتعلّم الطلبة.
4. تحديد مستويات التعلّم التي يراد من الطالب الوصول إليها بعد كل تعلّم، ووضع هذه المستويات بين يدي الطلبة والإدارة المدرسيّة والأهل، فهذا التحديد يبيّن للطالب أين هو، وأين سيصل بعد تعلم محتوى محدّد. وفي الجهة الأخرى، فإن هذه الأمر يجعل جهود أطراف العمليّة التعليميّة مركّزة وموجّهة للوصول إلى المستوى المحدّد للطلبة بعد كل تعلّم.
5. ربط خطة التدريس بخطّة التقييم، وأن تكون خطة التقييم سابقة لخطّة التدريس، فهذا يعني أن المعلّم سيركّز في تدريسه على المهارات التي سيقيّمها، وهذا الأمر لا يعني، بأيّ حال من الأحوال، التخلّي عن المهارات الأخرى أو إغفالها، بل هي عمليّة إعطاء أولويات، فما سيركّز عليه المعلّم هذه المرّة، سينتقل إلى التركيز على غيره في المرّة القادمة، ذلك بعد أن يتأكّد من تثبّته في أداء الطلبة بطبيعة الحال.

 

يورد الأدب النظريّ كثيرًا من الثناء على النُّظم الغربيّة في التقييم، ويقارنها كثيرًا بعجز أنظمتنا، لكنّنا يجب أن ندرك أنه يمكن الاستفادة من تجاربهم بعد دراستها، وأنه يمكن تكييف السياسات المتّبعة في أنظمتنا التربويّة في البلاد العربيّة، لتصبح قابلة لتطبيق أدوات التقييم المتّبعة في أنظمة الدول المتقدّمة التعليميّة، وأنه يمكن تدريب المعلّمين في بلادنا العربيّة تدريبًا فاعلًا يمكّنهم، في النهاية، من تطبيق هذه الأدوات بالشّكل الصحيح.

تجري عمليّة التقييم في فنلندا، على سبيل المثال، وفق خطوات واضحة يُمكن نقلها إلى أنظمتنا التعليميّة مع تعديلات أساسيّة في سياسات النظام التعليميّ في الدول العربيّة. فنظام التعليم مجّانيّ للطلبة، وهذا يشبه النُّظم العربيّة التي تقدّم التعليم المجّاني للطلبة حتى الثانوية العامّة، ويعيّن المعلّمون في المدارس وفق شروط يجب على المعلّم اجتيازها قبل أن يصبح معلّمًا، والبقاء في حالة تحديث دائمة للنظام التعليميّ تقوم على البحث والتجريب ثم التغيير بناء على النتائج، وليس خضوعًا لمزاج المسؤول أو تغيير الحكومات والقيادات. ويقوم نظام التقييم الفنلنديّ على إجراء اختبارات تقيس امتلاك الطلبة المهارات الأساسيّة، والتي تجعله فردًا صالحًا في المجتمع، وتمكّنه من الخوض في القضايا الحياتيّة التي تتطلّب إضافة إلى المعرفة المهارة في العرض والتحاور وإبداء الرأي والبحث والتدليل، ولا تعطي فقط مجرد علامة، إضافة إلى أن النظام التعليميّ يعطي أولوية للعب ولا يحبّذ الواجبات المنزليّة، بل يُخصّص لها وقتًا قليلًا مقارنة بالنُّظم التعليميّة الأخرى.

 

إنّ مواجهة التحدّيات التي تثيرها عملية التقييم في مدارسنا ليست صعبة، بل هي عمليّة ممكنة عندما تتوفّر الرغبة الحقيقيّة التي تضع مصلحة المجتمع العُليا في سلّم الأولويّات، ويؤمن المعلّمون بمحوريّة دورهم وضرورة قيادتهم التغيير؛ لتصبح عمليّة التقييم فاعلة حقيقيّة معبّرة عن الجهود التي يبذلونها في الغرف الصفّيّة.