يعتمدُ نجاح العمليّة التعليميّة في المدرسة على مجموعة عوامل، لولا وجودها لما نجح التعليم في تأدية رسالته، ومنها تحقيق الانضباط المدرسيّ. يتحقّق الانضباط المدرسيّ بتوظيف جميع الوسائل والأدوات الموجّهة للطلّاب نحو احترام القوانين التربويّة والتعليميّة، وضبط سلوكهم، وتشجيعهم على الالتزام بأفضل السلوكيّات الإيجابيّة التي تعكسُ مدى أهمّيّة تفعيل الأدوار المنبثقة عن الانضباط المدرسيّ، والمتمثّلة في أساليب تطبيقه للمساهمة في تنشئة جيل من الطلّاب الأكفّاء أكاديميًّا وتربويًّا.
الانضباط المدرسيّ
باعتقادي، يجبُ تسليط الضوء على الانضباط المدرسيّ، وتوضيح مفهومه، لبيان الإجراءات المُطبّقة تحت مظلّته والتي غالبًا لا تُسمّى بمسمّياتها المباشرة، بل تبقى مجرّد تصرّفات وأفعال مقترنة بمجموعة من المواقف في إطار البيئة التعليميّة. عندما بحثتُ في عدد من المراجع والكُتب التربويّة عن الانضباط المدرسيّ، توصّلتُ إلى أكثر من مفهوم يدلّ إليه. ومع أنّ المفاهيم اختلفت عن بعضها إلّا أنها تشابهت معًا في الإشارة إلى أهمّيّته، ودوره الإيجابيّ في البيئة التعليميّة، على سبيل المثال، من مفاهيمه ضبط سلوك الطالب والانفعالات الصادرة عنه، من خلال توظيف مجموعة من الأساليب التي تساهم في تحقيق ذلك داخل الغرفة الصفّيّة، والمدرسة بصورة عامّة.
ومن خلال عملي في التعليم، ومشاهداتي المستمرّة لكثير من السلوكيّات والأفعال والمواقف الصادرة من الطلّاب والمعلّمين، بالإضافة إلى الأولياء الأمور، أُعرّفُ الانضباط المدرسيّ بأنه العلاقة التشاركيّة التعاونيّة بين الطالب والمعلّم وولي الأمر، الهادفة إلى متابعة سلوك معيّن لدى الطالب، وتقويمه وفق القواعد والأسس التربويّة، عن طريق بناء قنوات اتصال مشتركة بين المدرسة والمنزل تسعى إلى إيجاد شراكة حقيقيّة مستمدّة من تعليمات الانضباط المدرسيّ، ودوره الأساسيّ في تحقيق أهداف التربية ونتاجات التعلّم، بما يحافظ على سير العمليّة التعليميّة وفق الخطّة التطويريّة للمدرسة، الشاملة في مجالاتها للاهتمام بتنمية الطلاب فكريًّا ومعرفيًّا وسلوكيًّا واجتماعيًّا.
المشكلات التي تواجه الانضباط المدرسيّ
يواجه الانضباط المدرسيّ مجموعة من المشكلات التي تعيق تطبيقه وفق الأسس الصحيحة. أرى أن هذه المشكلات تؤكّد على الاختلاف الملحوظ بين النظريات المتعلّقة بالتربية والانضباط المدرسيّ، وما هو مطبّق بالفعل في الواقع، ولا بُدّ من إلقاء نظرة على كلّ مشكلة، ومحاولة فهمها وإدراكها، تبدأ من الفجوة الواضحة بين التربية نظريًّا وواقعيًّا، فيغيب عن بعض المعلّمين أهمّيّة فهم دورهم التربويّ قبل الأكاديميّ في توجيه الطلّاب، ومتابعتهم، وينصب اهتمامهم على تدريس مادّتهم فقط، دون الالتفات إلى المشاركة في تحسين سلوكيات الطلاب، وتحفيزهم على الالتزام بالانضباط المدرسيّ. وأيضًا قد يكون السلوك الخاطئ لدى بعض المعلّمين، من ذوي الخبرة القليلة في إدارة الصفّ، مُشكلة أساسيّة، يرجع ذلك لعدم امتلاكهم أي وسائل أو أدوات تساعدهم على إدارة المواقف الصفّيّة المختلفة بطريقة ذات كفاءة وحكمة.
ومن المشكلات الأخرى، وجود أفكار سلبيّة لدى الطالب مكتسبة من المنزل، وتنتقل معه إلى المدرسة. يكون مصدر هذه الأفكار في الأغلب وجود ظروف أسريّة سلبيّة، مثل انفصال الوالدين أو العنف أو التفكّك الأسريّ، والتي تشكل مُشكلات نفسيّة لدى الطالب، وتجعلهُ يتصرف بعنف داخل المدرسة، سواء مع زملائه في الصفّ أو معلّميه، فيفقد السيطرة على انفعالاته، ويثير المشكلات مع زملائه، وقد يتعامل معهم بأسلوب المثل؛ أي تطبيق ما حدث معه في المنزل من عنف على أحد زملائه. كما أن بعض التصرّفات الخاطئة التي قد تصدر عن الطلّاب، والتي تعدُّ عادية ومعتادة بينهم، ولكن لا يمكن تصنيفها بأنها عاديّة، كالغشّ في الامتحانات، وتبادل الشتائم، وغيرها، والتي تعالج أحيانًا بغير الطرق العلاجيّة المناسبة، تضرُّ في تطبيق الانضباط المدرسيّ بالشكل الصحيح والمطلوب في الميدان التعليميّ التربويّ.
العوامل المؤثّرة في الانضباط المدرسيّ
من خلال خبرتي في التعليم، أرى أنه هُناك عوامل تؤثّر في الانضباط المدرسيّ، وتساهم في تطبيقه بصورة صحيحة وسليمة وصحّيّة، أو تجعله مليئًا بالمشكلات والعوائق المتعدّدة التي تحدّ من استدامته وتطوّره. تبدأ هذه العوامل من دور الإدارة المدرسيّة الناجحة والقياديّة والمُعزّزة لتطبيق الانضباط المدرسيّ بشكل صحيح وفق المعايير المطلوبة منه، ثم يأتي دور المعلّمين الداعم للإدارة، والمساند للتعليمات والنصائح التي تقدّمها للطلّاب. ويدعم ما سبق وجود بيئة مدرسيّة سليمة توفّر منهجيّة واضحة، ومدوّنات سلوك تعريفيّة بالانضباط المدرسيّ تشجّع على الالتزام به، والتأقلم معه.
وأيضًا من العوامل المؤثّرة في تطبيق المفهوم تكوّن اتجاهات وآراء أولياء الأمور نحو المدرسة، تنتجُ من رغبتهم في تكييف سلوك أبنائهم معه، فالعائلات التي تهتمّ بتحقيق التوازن بين سلوك الطالب في المنزل والمدرسة، تمتازُ بتقديمها مشاركة فعّالة في بناء بذور الاحترام والالتزام بالانضباط المدرسيّ لديه، وعدم مخالفته لتعليماته، طالما أنه ملتزم بجميع المعايير التربويّة السليمة في منزله.
وأخيرًا، علينا تعزيز دور المرشد المدرسيّ الذي تترتّب عليه مسؤوليّات وواجبات مهمّة، مثل تعريف الطلّاب بالتعليمات والشروط المتعلّقة بالانضباط؛ من خلال تفعيل الحصص الإرشاديّة ضمن جدول الدروس اليوميّة، وهي لقاءات بين المرشد والطلّاب يُتابع ويُراقب فيها السلوكيّات والتصرّفات الصادرة عنهم، ويتعرّف على أحوالهم وظروفهم، ويُساعدُ ذلك في بناء خطّة علاجيّة توجيهيّة تساهمُ في تعزيز القيم الإيجابيّة لديهم.
أساليب تطبيق الانضباط المدرسيّ
أرى أن تطبيق الانضباط المدرسيّ داخل المدرسة يتحقّق من خلال أساليب تشارك في بناء بيئة مدرسيّة إيجابيّة. وتظهرُ في أدوار كلّ من مدير المدرسة والمعلّمين والمرشد التربويّ والأهل. يكون، في هذه الحالة، دور مدير المدرسة هو الأساس، لأنه المسؤول الأوّل عن ضمان تحقّق الانضباط المدرسيّ، والمدرك للحاجات التربويّة والتعليميّة الخاصّة بالمدرسة والطلّاب. ويترتب عليه اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لبناء بيئة مدرسيّة آمنة، بالتعاون مع المعلّمين والمرشد التربويّ الذي يساهم في توجيه الطلّاب لتحقيق أفضل الإنجازات في الدراسة، والأنشطة المدرسيّة. ثم يأتي دور المعلّم المكمّل والداعم لدور مدير المدرسة، بالشراكة مع المرشد التربويّ. وأعتقدُ أنّ المعلّم الناجح يهتمّ بإيجاد ظروف صفّيّة سليمة وملائمة ومُعزّزة للمشاركة الفعّالة، والداعمة للاحترام المتبادل بين الطلّاب، وأيضًا يجب أن يكون قدوةً لهم في السلوك، ومراعيًا لفروقاتهم الفرديّة، ومُشجّعًا على إظهار إبداعاتهم وهواياتهم.
ولا أنسى دور المرشد التربويّ، الذي يعدّ محوريًّا ومهمًّا جدًّا، ويترتّب عليه توظيف جميع الأساليب الإرشاديّة التي تعالج مشكلات الطلّاب المرتبطة بالانضباط المدرسيّ، ودوره الإيجابيّ في توعيتهم بأهمّيّة الالتزام به. ومساندة دور الإدارة والمعلّمين بتمكينهم من أداء أدوارهم باستخدام أدوات التوجيه الفرديّة والجماعيّة، وبناء قنوات تواصل مع الطلّاب تشجعهم على الرجوع إليه عند الحاجة لمساعدته ورأيه في كثير من الأمور.
ويأتي دور الأهل، وهو الأكثر أهمّيّة لدى الطالب بالتعاون مع الأدوار السابقة، بتوجيهه نحو الالتزام بمتطلّبات وتعليمات الانضباط المدرسيّ في المنزل، من خلال وجود بيئة أسريّة هادئة وتربويّة تحترم البيئة المدرسيّة، وتتابع دراسة وتعلّم الطالب، والتزامه بالواجبات المطلوبة منه في المدرسة، الأمر الذي سيُحدِث تغيرات إيجابيّة تنعكسُ على شخصيّته، وتساهم في تنميتها وتطوّرها تعليميًّا وتربويًّا.