تعدّ حرّيّة المعلّم التعليميّة أحد الأسس الرئيسة لتحقيق التعليم الابتكاريّ والفعّال؛ إلّا أنّها قد تواجه عددًا من الإشكاليّات والتحدّيات التي تعوق قدرته على تنفيذ ممارسات تعليميّة مبتكرة. وينبغي فهم هذه الإشكاليّات وتحدّيّاتها، للعمل على إيجاد الحلول الملائمة لتعزيز حرّيّته، وتعزيز التعليم الإبداعيّ والفعّال. الأمر الذي ينعكس إيجابًا في أداء الطلّاب.
نعرض، في هذا المقال، بعض التحدّيات الواقعيّة التي قد تحدّ من حرّيّة ممارسات المعلّم التعليميّة في عالمنا العربيّ، ونقدّم مقترحات علاجيّة.
صياغة السياسات التعليميّة
أعتقد أنّ الإشكاليّة الرئيسة تكمن في عدم توافق السياسات التعليميّة مع الواقع المحلّيّ واحتياجات المجتمع، وأتّفق مع سليمان (2023) في ضرورة أخذ الثقافة والتقاليد والاحتياجات الخاصّة للمجتمع بعين الاعتبار عندما تُصمَّم السياسات التعليميّة. برغم ذلك، يحدث في كثير من الأحيان أن تكون السياسات التعليميّة قائمة على نماذج وأساليب تعليميّة مستورَدة من خارج البلاد، الأمر الذي يجعلها عاجزة عن تلبية احتياجات المجتمع المحلّيّ. وبالتالي، يجد المعلّم نفسه مضطرًا إلى تنفيذ ممارسات تعليميّة غير فعّالة، وغير ملائمة للطلّاب. بالإضافة إلى ذلك، قد تعاني السياسات التعليميّة عدمَ وضوح الأهداف والتوجّهات، فيصعب على المعلّمين تحديد الإجراءات والممارسات الفعّالة التي يجب اتّباعها. وعليه، تتأثّر جودة التعليم، ويتراجع أداء الطلّاب. نقترح، من جانبنا، بعض الحلول لهذه المشكلة:
- - يجب أن تُراجَع السياسات التعليميّة وتُعدَّل كي تتناسب مع الواقع المحلّيّ واحتياجات المجتمع. فضلًا عن السماح بمشاركة المعلّمين في عمليّة وضع السياسات التعليميّة، بإنشاء هيئة استشاريّة تضمّ معلّمين من مختلف المستويات التعليميّة والتخصّصات. يُختار المعلّمون بناءً على خبراتهم ومهاراتهم، كما يجب استشارتهم، واستطلاع آرائهم وملاحظاتهم حول السياسات التعليميّة وتوجّهاتها.
- - توفير المدارس للتدريب المهنيّ وتوجيهها المستمرّ للمعلّمين إلى أفضل الممارسات التعليميّة، لتحقيق هذه الأهداف، وتنفيذ السياسات التعليميّة تنفيذًا صحيحًا. فضلًا عن توفير الدعم الفنّيّ والاستشاريّ لمساعدتهم على تحقيق ذلك.
توجّهات النظام التعليميّ
ترِّكز أنظمة التعليم في كثير من البلدان على الالتزام بالمناهج القياسيّة ومعايير التعليم الوطنيّة التي تضعها السلطات التعليميّة. بالإضافة إلى تحديدها محتوى موضوعات المناهج، فيُعيَّن المعلّمون لتنفيذ تلك المناهج بدقّة محدّدة، وعندما تُحدَّد المناهج تحديدًا صارمًا، يجد المعلّم نفسه مقيّدًا بتنفيذ المحتوى المعرفيّ المحدّد في المناهج، من دون أن يتمكّن من توظيف أساليب تعليميّة مبتكرة تتناسب مع طرائق تفكير الطلّاب أو احتياجاتهم. وفي هذا الصدد، نقترح الحلول الآتية:
- - توفير المرونة في المناهج التعليميّة، ليتمكّن المعلّمون من تعديل المحتوى والأساليب التعليميّة، وفق احتياجات الطلّاب ومتطلّبات البيئة التعليميّة؛ وذلك بتطوير مناهج مرنة وقائمة على المعايير في الوقت ذاته.
- - يمكن أن تؤدّي التكنولوجيا دورًا حاسمًا في تعزيز حرّيّة المعلّم في تنفيذ استراتيجيّات تعليميّة مبتكرة ومتنوّعة باستخدام التكنولوجيا في الفصول؛ وذلك بتوفير موارد تعليميّة متنوّعة وملائمة احتياجات الطلّاب. كما يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في تعزيز التفاعل والتعاون بين الطلّاب، وتوفير فرص للتعلّم القائم على المشروعات، والأنشطة العمليّة.
- - تحقيق توازن بين تحديد المناهج التعليميّة وحرّيّة المعلّم في تنفيذ استراتيجيّات تعليميّة مبتكرة ومتنوّعة. الأمر الذي قد يسهم في تحسين جودة التعليم، وتعزيز تعلّم الطلّاب. لذا، ينبغي على أصحاب المصلحة العمل معًا لتطوير سياسات تعليميّة تعكس هذا التوازن، وتدعم حرّيّة المعلّم في تحقيق التعليم المبتكر.
- - تطوير أساليب التقييم التي تعزّز التعلّم الشامل، وتدعم نموّ الطلّاب، واستخدام صيغ تقييميّة جديدة، مثل التقييم الشخصيّ، والتقييم الشكليّ، والتقييم المعتمد على المشاركة، والتقييم الشامل، والنقد البنّاء.
ومن المعيقات أيضًا افتقار عدد من المعلّمين للتدريب والتأهيل المهنيّ اللازمين، لتنفيذ أساليب تعليميّة جديدة. ففي عدّة نظم تعليميّة، يوفَّر تدريب قصير المدى، وورش عمل محدودة، ممّا يحدّ من فرص المعلّمين في تطوير ممارساتهم التعليميّة، واكتساب المهارات اللازمة لتطبيق أساليب جديدة ومبتكرة. ومن جانبنا، نقترح بعض الحلول لهذه المشكلة، تتمثّل بالآتي:
- - توفير برامج تدريبيّة مستمرّة للمعلّمين، إذ يجب أن تكون متاحة لجميع المعلّمين، وتهدف إلى تعزيز مهاراتهم التعليميّة، وتوسيع معرفتهم بأساليب التعليم الحديثة. ويمكن للمعلّمين الإفادة من هذه البرامج، بحضور ورش عمل ودورات تدريبيّة تركِّز على تطوير ممارسات التعليم، وتبادل الخبرات مع المعلّمين الآخرين. يضاف إلى ذلك، إمكانيّة التوجّه إلى التعلّم باستخدام التكنولوجيا، والموارد التعليميّة عبر الإنترنت، ممّا يساعدهم على تجربة أساليب تعليميّة جديدة، وتحسين ممارساتهم التعليميّة.
- - يجب أن تكون المدارس بيئة تشجِّع المعلّمين على تطوير ممارساتهم التعليميّة، وتجربة أساليب تعليميّة جديدة، بإنشاء فرق عمل تتكوّن من معلّمين يتشاركون الاهتمامات والأفكار ذاتها في تطوير التعليم. كما يمكنهم العمل معًا لتطوير مشروعات تعليميّة جديدة، ومشاركة النتائج والخبرات مع بقيّة المعلّمين في المدرسة. فضلًا عن ذلك، لا بدّ من إتاحة الفرص أمام المعلّمين، للتعلّم من بعضهم بعضًا، بمراجعة الدروس، وتبادل الخبرات والملاحظات.
- - ينبغي للحكومات والمؤسّسات التعليميّة أن توفِّر للمعلّمين فرص المشاركة في البحوث التعليميّة، وتطوير أفكار جديدة في مجال التعليم. ويمكن للمعلّمين إجراء البحوث والدراسات حول أفضل الممارسات التعليميّة، وتطبيقها في الفصول الدراسيّة.
الضغوط الإداريّة في المدرسة
تعدّ الضغوط الإداريّة في المدارس أحد التحدّيات التي قد تعوق المعلّم عن ممارساته الفعّالة. وثمّة عدّة أسباب لذلك، نعرضها في ما يلي:
- - قد تحتاج الإدارة إلى مراقبة أداء المعلّمين، وضمان الامتثال للمعايير التعليميّة المعمول بها؛ إذ ينفِّذ المعلّمون ممارسات معيّنة، أو يتّبعون أساليب تعليميّة محدّدة. وقد يؤدِّي عدم الالتزام بهذه التوجيهات إلى عواقب سلبيّة، كفرض قيود على الترقية أو الحصول على فرص تدريب إضافيّة.
- - تنشأ الضغوط الإداريّة بسبب الحاجة إلى تنفيذ سياسات مدرسيّة محدّدة، قد تكون مرتبطة بالمناهج الدراسيّة، أو طرائق التدريس المعتمدة في المدرسة. لذلك، يتعيّن على المعلّمين اتّباع هذه السياسات وتنفيذها تنفيذًا صارمًا، ممّا يعوق قدرتهم على تنفيذ ممارسات تعليميّة مبتكرة.
- - قد يشعر المعلّمون بالقلق مع عدم قدرتهم على تلبية توقّعات الإدارة، والمحافظة على وظائفهم. الأمر الذي يؤثِّر سلبًا في تجربة تعلّم الطلّاب، بتقليل دافع المعلّمين، وإبداعهم في التعليم.
وعليه، نعرض بعض الحلول الممكنة لمعالجة هذه المشكلات:
- - تشجيع المعلّمين على المشاركة في عمليّة صنع القرار، بتنظيم ورش عمل، وندوات تعليميّة تهدف إلى تحسين مهارات اتّخاذ القرار، وتطوير الابتكار في الصفّ الدراسيّ.
- - تطوير برامج تدريبيّة تهدف إلى تحسين مهارات المعلّمين في تطبيق الممارسات التعليميّة المبتكرة، كتقديم ورش عمل، ودورات تدريبيّة تركِّز على تطوير مهارات التخطيط الدراسيّ، واستخدام التكنولوجيا في التعليم، وتنمية مهارات التواصل مع الطلّاب، حيث يمكّنهم ذلك من تنفيذ ممارسات تعليميّة فعّالة، بعيدًا عن الضغوط الإداريّة.
- - تعزيز ثقة المعلّمين بقدراتهم ومعارفهم التعليميّة، إذ لا بدّ من أن يشعر المعلّمون باحترام الإدارة وتقديرها، وأن يتمتّعوا بالحرّيّة في تنفيذ ممارساتهم التعليميّة، بتوفير فرص للتواصل المفتوح بين المعلّمين والإدارة، وتشجيع الإدارة على الاستماع إلى آراء المعلّمين واقتراحاتهم، واتّخاذها بعين الاعتبار.
- - تعزيز شفافيّة تقييم أداء المعلّمين، وضمان إجراء عمليّة التقييم إجراءً عادلًا وموضوعيًّا وقائمًا على المصادر والأدلّة، بوضع معايير محدّدة للتقييم، واستخدام أدوات تقييميّة متنوّعة، للحصول على صورة شاملة لأدائهم. بالإضافة إلى تقديم التدريب للقائمين على عمليّة التقييم، لضمان فهمهم الجيّد للعمليّة وتطبيقها تطبيقًا صحيحًا.
في الواقع، لا عجب إذا قلنا إنّ الضغوط الإداريّة ليست بالضرورة سلبيّة تمامًا. ففي بعض الأحيان، يمكن أن تكون هذه الضغوط مفيدة في تحسين أداء المعلّمين، وتعزيز التعلّم في الفصل الدراسيّ، إذ قد توفّر التوجيهات والسياسات الإداريّة الهيكل اللازم لتحسين الجودة التعليميّة، وتحقيق الأهداف الأكاديميّة المحدّدة.
نقص التمويل والموارد المادّيّة
تواجه بعض المدارس تحدّيات ماليّة تعوق قدرتها على توفير الموارد اللازمة لتنفيذ ممارسات تعليميّة مبتكرة. ومن بين هذه التحدّيات القيود الماليّة التي تعرقل استثمار المدارس في تكنولوجيا التعليم، واستقطاب خبراء تعليم متخصّصين.
وتُعدّ تكنولوجيا التعليم أداة حديثة وفعّالة لتعزيز جودة التعليم، وتحسين تجربة الطلّاب. يساعد استخدامها في توفير محتوى تعليميّ متنوّع ويجذب الاهتمام، كما يسهم في تطوير مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى الطلّاب.
بالإضافة إلى ذلك، يعدّ توفير خبراء تعليم متخصّصين أمرًا ضروريًّا لتعزيز جودة التعليم، وتحقيق نتائج أفضل للطلّاب، إذ يمكن أن يقدّموا التوجيه والمشورة المهنيّة للمعلّمين والإدارة المدرسيّة، والمساعدة في تطوير استراتيجيّات تعليميّة مبتكرة ومناسبة احتياجات الطلّاب. ومع ذلك، يتطلّب توظيف خبراء تعليم متخصّصين تخصيص ميزانيّة لتلبية تكاليف تعاقدهم ورواتبهم، وهو أمر يمكن أن يكون صعبًا في حالة مدارسنا التي تعاني قيودًا ترتبط بواقع موارد الدول الماليّة التي توفّرها وزارة الماليّة. ومن أجل التغلّب على هذا التحدّي، نقدّم بعض المقترحات:
- - يمكن للمدارس أن تسعى إلى إقامة شراكات مع الشركات والمنظّمات غير الربحيّة والمهتمّة بتعزيز التعليم. كما يمكن لهذه الشراكات توفير التمويل والدعم لتوفير تكنولوجيا التعليم، وتوظيف خبراء التعليم المتخصّصين.
- - يمكن للمدارس العمل على توسيع قاعدة الموارد الماليّة، بتنظيم حملات جمع التبرّعات، أو تقديم العروض والفعّاليّات المجتمعيّة.
- - يمكن للمدارس السعي إلى الحصول على تمويل إضافيّ من الجهات الحكوميّة، أو الهيئات التعليميّة المحلّيّة.
* * *
في النهاية، نجد أنّه برغم وضع السياسات التعليميّة الإطار الذي يحدّد الأهداف والمعايير والممارسات في المجال التعليميّ، إلّا أنّها قد تتسبّب في تقييد حرّيّة المعلّمين في اختيار الممارسات التعليميّة التي يرونها مناسبة وتنفيذها. الأمر الذي يشكِّل تهديدًا كبيرًا لجودة التعليم. كما أنّ بعض الجهات تعمل على تقويض السياسات التعليميّة للحرّيّة التعليميّة وممارسات المعلّم، بتدخّلات غير مبرَّرة في العمليّة التعليميّة. قد تكون هذه التدخّلات سياسيّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة، وتهدف إلى فرض منظور محدّد، أو توجيه العمليّة التعليميّة وفق جداول أعمال خاصّة. لذلك، يجب على الحكومات والمؤسّسات التعليميّة إدراك أهمّيّة استقلاليّة المعلّمين وحرّية التعليم، وتوفير بيئة داعمة لهم، ليتفوّقوا في مهمّاتهم التعليميّة. ويجب أن تُشجَّع السياسات التعليميّة على التنوّع والابتكار في الممارسات التعليميّة، وتعزّز الوصول إلى موارد تعليميّة متنوّعة ومتجدّدة.
المراجع
- سليمان، نضال. (2023). قيادة التعليم بين الأداء الوظيفيّ والتفكير النقديّ. منهجيّات. العدد 14. 50-53.