تعدّ تجربة التعليم عن بعد تجربةً جديدةً جدًّا على الجميع. لذلك، كان من واجب المؤسّسات التربويّة البحث بسرعة عن بديل لحضور التلاميذ والأساتذة في المدارس لاستكمال العام الدّراسيّ، وكان الحلّ الوحيد هو التّعليم عن بعد. هل نجحت هذه التّجربة أم كانت فاشلة؟ هل استطاع المعنيّون خلال الإجازة الصّيفيّة تطوير عملهم؟ هل وُجد حلٌّ للأمّ العاملة والأمّ المعلّمة؟ هذا ما سأعرضه من خلال تجربتي بوصفي معلّمةً وأمًّا.
فجأة ودون سابق إنذار وجدنا أنفسنا (تلاميذ، أساتذة، وأهل) أمام التعليم عن بعد الذي فُرض علينا بعد جائحة كورونا. لم نكن محضَّرين أو مدرَّبين على تجربة كهذه من قبل، لكن حاولت إدارات المدارس التأقلم والتماشي مع هذا الوضع الجديد.علّمتنا تجربة تطبيق التعلّم عن بعد الكثير، وطوّرت مهاراتنا أيضًا فأصبح همّنا الأكبر كيفيّة إيصال المعلومات للتلاميذ بطريقة سهلة مبسّطة. بدأت تظهر الفروقات وأحيانا المشكلات. أستعرض هنا بعض التجارب التي مررت بها.
خلال هذه المدّة كان علينا إيجاد الطرائق التي تساعدنا للوصول إلى التلاميذ فكان تواصلنا معهم عن طريق "واتس آب" أكثر سرعةً ونفاذًا. بدأنا بتحضير الفيديوهات التعليميّة. واجهتنا تحدّيات كثيرة. إذ يبدو أنّ الفيديو الذي لا يستغرق أكثر من ثلاث دقائق، يتطلّب إنتاجه الكثير من الوقت والجهد. يعتقد بعضنا أنّ تحضير الفيديو أمر سهل جدًّا، وينسى أو ربما لا يعرف كم مرّة نضطرّ لإعادة الفيديو بسبب جملة، أو ضجّة عابرة، كم من الوقت نحتاج للبحث عن الصور التي تصبّ في صلب الدرس.
في أثناء التجربة كان لدينا تحدٍ جديد، وهو التحقّق من وجود التلاميذ بالأساس خلف الشاشة؛ هل الجميع حاضر؟ هل الجميع يشارك؟ ماذا عن إطفاء الكاميرا! هل ما زال الطلّاب موجودين أم هم مشغولون بشيء آخر؟
هذا إذا ما تجاوزنا تحدّيًا يفرض نفسه باستمرار، وهو انقطاع الكهرباء في لبنان وضعف الإنترنت. في ظلّ كل تلك التحدّيات، وبالرغم من محاولتي تجاوزها بمجهود فرديّ كليًّا، كنت أستمع إلى عبارات مثل: "أين التعب وأنتم تعملون من المنزل؟ أين التعب وأنتم أبعد عن ضجّة التلاميذ؟". شعرت بكثير من الغبن والخيبة.
أمّا تلك التساؤلات حول أداء مهمّتي بوصفي معلمةً تعمل من المنزل، فقد حان الوقت للإجابة عنها، فالبقاء في المنزل لم يكن الرفاهية التي توسّمها بعضهم. هيّا أحدّثكم عن دوري معلّمةً، وأمًّا. بالرغم من اجتهادي الفرديّ لئلا ينقطع التواصل مع طلّابي، وحرصي على شرح الدروس التي كنت أضطرّ فيها إلى إعادة الهدف الواحد مرّات عدّة، فإنّ ابنتي لم تتلقّ الرعاية التعليميّة نفسها من قبل معلّميها. اقتصر دور المدرسة على إرسال مهمّات تعليميّة تنجزها طفلتي، دون أيّ شرح أو خطوات واضحة، فوقع العبء كلّه على رأسي. بعد إلحاح من الأهالي، ومطالبتهم المدرسة بتوفير الدعم التعليميّ اللازم، أرسلت بعض المعلّمات سبعة فيديوهات تعليميّة فقط لا غير. كنت أشعر أنّني أعمل بدوامين لوظيفتين كلاهما مستنزف لطاقتي الجسديّة والذهنيّة والنفسيّة.
تطالعنا كثيرٌ من التصريحات حول إدارة الأزمة، في حين يُغفَل دور الأهل الذين وقفوا بجانب أبنائهم بكلّ طريقة ممكنة، لا يذكر أحد الأهالي الذين لجؤوا إلى إحضار معلّمة مساعدة للأطفال في المنزل، بالرغم مما يستتبع ذلك من عبء ماليّ إضافيّ في وقت الأزمة. لم يذكر أحد المعلّمات الأمهات اللواتي أدرن شؤون الأسرة، وحملن على عاتقهن استمرار تعليم أطفالهنّ جنبًا إلى جنب مع طلّابهم في المدارس. لم يذكر أحد مشقّة متابعة الحصص الافتراضيّة مع الأطفال في المنزل بينما ذهن الأمّ مشغول بدورها الذي ستلعبه بعد قليل بوصفها معلّمةً تقدّم دروسًا لطلّاب آخرين لم يمددْ لهم أحد يد العون.
لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ التعليم عن بعد وضَعَنا في مسار لإسراع تطوير مهاراتنا التقنيّة، لكنّ الأزمة أيضًا أظهرت ما في داخلنا من قدرة على التكيّف بالرغم من كلّ شيء، وإدارة الأزمة بكلّ ما كان متاحًا لنا حينئذ هي قدر المستطاع. تحيّة لكلّ الأمّهات المعلّمات اللواتي لم يتوجّه لهنّ أحد بالذكر أو الشكر، فهنّ يعلمن أنّه دون هذا الدعم لم نكن سنصل إلى ما نحن فيه اليوم.