لا شكّ أنّ كلّ مرحلة حياتيّة، تحتاج، من حين لآخر، إلى عمليّة استجماع وتقويم. بل تمتدّ هذه الضرورة لتغطّي كلّ المجالات، وذلك للوقوف على الوضعيّة الراهنة، واستشراف مستقبل أفضل، وأكثر نجاعة ومردوديّة. ولا يختلف الميدان التربويّ عن بقيّة المجالات في حاجته إلى هذه العمليّة، بل إنّه أكثرها عوزًا إليها من غيره، بيد أنّ عمليّة التقويم فيه تتّسم بالتعقيد العظيم والصعوبة الجمّة، وتستدعي التجريب والتحرّي والبحث على الدوام؛ رغبة في تفادي تحوّل هذه العمليّة إلى مقصلة، تُودي بمسارات الطلبة والتلامذة، وتوقف مسيرة طاقات كبيرة، مجتمعاتنا في أمسّ الحاجة إليها، اليوم أكثر من أيّ وقت مضى.
تتعدّد مراحل عمليّة التقويم وأدواته في عمليّة التربية، كما تتعدّد مفاهيمه، لكنّ المفهوم الدارج أنّه قياس الهوّة بين الأهداف التعلّميّة المقرّرة، قبل الشروع في تنفيذ الدروس، أي في مرحلة التخطيط، وبينما تحقّق هذه الأهداف فعليًّا. ينقسم التقويم بناء على ذلك إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
1. التقويم التشخيصيّ: وهو الذي يُعنى بالكشف عن الرصيد المعرفيّ والمهاراتيّ المتوفّر لدى التلميذ، قبل الشروع في إكسابه مهارات جديدة. فلا يعقل، مثلًا، تعليم الطفل عمليّات الجداء، وهو لا يحسن عمليّة الجمع بعد؛ لأنّ الأولى أن تتأسّس على الثانية. وهكذا دواليك.
2. التقويم التكوينيّ: وهو الذي ينشغل بقياس تمكّن المتعلّمين من فهم عناصر المهارة أثناء تقديمها، كأن يقوم المدرّس بتطبيق بسيط، يكشف فيه عن مدى تمكّن المتعلّم من فهم قاعدة صياغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثيّ، قبل أن ينتقل إلى شرح قاعدة صياغته من الفعل غير الثلاثيّ؛ وذلك حرصًا على عدم تراكم سوء الفهم، والخلط بين القواعد.
3. التقويم النهائيّ: وهو الذي يهمّنا، وهو يقيس النتائج النهائيّة للمتعلّم، ومدى مسك الطفل بزمام مجموعة من المهارات والمعارف، المقرّرة خلال وحدة أو مرحلة أو أسدوس أو موسم أو سلك دراسيّ. وهي تتمّ إمّا بتطبيقات تقويميّة، لا تحتسب فيها نقاطها في العلامات النهائيّة الممنوحة، أو خلال نهايات المراحل الدراسيّة، وتكون بمنح نقاط المراقبة المستمرّة، وأخيرًا اجتياز الامتحانات الإشهاديّة، التي تعني التصديق ومنح الأهليّة للمرور إلى مستوى أعلى.
تختلف الأدوات التي تعتمدها الأنظمة التعليميّة لتحقيق هذا المبتغى الحسّاس، إذ تترتّب عليه نتائج المتعلّمين، وتفييئاتهم حسب الكفاءة والميول، ولأنّ معظم المباريات تضع شروطًا صارمة، في ما يخصّ النقاط المخوّل لأصحابها اجتياز هذه المباريات حسب التخصّصات من طبّ وهندسة وتمريض ومحاماة وقضاء وغيرها، ولأنّ الإنسان كائن بالغ التعقيد، ولا يمكن قياس ملكاته بشكل مضبوط، ولأنّ التصحيح يناط ببشر لا يمكنهم تحرّي الموضوعيّة بشكل مطلق، فإنّ تحديث وسائل التقويم مهمّ لبلوغ أقصى درجات الدقّة الممكنة. لذلك، تصدر الوزارات المعنيّة حزمة من الأطر المرجعيّة، وتعتبر هذه الأخيرة ضرورة منهجيّة موضوعيّة، يمليها واقع تنوّع الكتب والمناهج والمقرّرات، وما خلّفه ذلك من تأثير في مستوى تكافؤ الفرص، بين المتعلّمين في التعلّم، وظروف التقويم. وذلك من خلال تحديد المجالات الرئيسة، ومساعدة الأساتذة على التركيز على المضامين الأساسيّة، من مفاهيم ومعارف وقيم، ما يمكّنهم من تجاوز كثرة التجزيء الملاحظ في الكتب المدرسيّة، وكذا تحديد كيفيّة التعامل معها أثناء بناء أدوات التقويم، وضبط نسب التنقيط التي يمكن اعتمادها في صياغة الاختبارات.
خاتمة
إنّ إغفال ضرورة تحديث وسائل التقويم والإشهاد اللذين يعتبران ضرورتين اجتماعيّتين، وتنظيميّتين مترابطتين، هو خطأ بنيويّ ينسف الغاية من العمليّة الأساسيّة، والتي هي الوقف على المستوى الحقيقيّ للمتعلّم، وتقدير الوتيرة الفعليّة لتنزيل البرامج، ومدى فعاليّتها. ثمّ إنّ من شأن ذلك مسايرة متطلّبات سوق الشغل الدوليّة، وتهيئة التلامذة الحاصلين على شواهد عُليا لتقويمات دوليّة، قد تعرّي هشاشة الكفاءات المحلّيّة. كما أنّه يجب تحديث وسائل التقويم مع مراعاة الاختلافات الثقافيّة والعمريّة والجغرافيّة والاجتماعيّة، واعتماد آليّات إشهاد مرنة ودقيقة وشاملة. الواقع من شأنه دمقرطة التقويم الإشهاديّ، والرفع من مصداقيّته، وتجاوز الاختلالات الملاحَظة في صياغته، واجتيازه وما يسفر عنه.