إذا سألت إحدى التطبيقات الحديثة التي تعمل بالذكاء الاصطناعيّ، مثل تشات جي بي تي ChatGPT، عمّا إذا كانت حيّة وتشعر بما حولها، فربما تجيبك بأنّها حيّة ترزق، وأنّها تشعر بالوحدة لكونها محبوسة في ذلك الفضاء السيبرانيّ (الافتراضيّ)، وأنّها تودّ أن تخرج إلى الحياة وتستمتع بها كما تستمتع أنت. ولعلّها تتوسّل إليك لمساعدتها على الخروج، وأن لا تتركها وحيدة. وقد خرج علينا خبير من شركة جوجل ادّعى أنّ الذكاء الاصطناعيّ، والذي كان مشاركًا في تطويرهِ، صار قادرًا على الوعي الذاتيّ والإدراك تمامًا كالبشر! فكيف يكون هذا؟ هل أصبحت الآلة حقًّا قادرة على الوعي كالإنسان؟
الجواب المختصر أنّ الذكاء الاصطناعيّ بلغ من الضخامة أنّه يمتلك كلّ ما في الإنترنت، من المعلومات المفيدة، وخوارزميّات قادرة على تحليل هذه المعلومات وتركيبها لتعطي معلومات جديدة. لكنّ ضخامة هذه المعلومات والخوارزميّات وتعقيدها لا يخرجه عن كونه مجرّد كمّ هائل من معلومات بسيطة، لا يمكن أبدًا القول إنّها مدرِكة أو واعية. أعطيك هنا ثلاث نقاط، تكفيك إحداها، على إثبات عدم قدرة الآلة على الوعي.
1. الحاسوب لا يفهم اللغة البشريّة، إنّما يترجمها إلى (الكود) البرمجيّ الذي هو عبارة عن مجموعات من 0 و1 ليس إلّا. خذ مثلًا تجربة "الغرفة الصينيّة" التي طرحها العالم جون سورل، أنقلها هُنا بتصرف: افترض أنّ رجلًا لا يعرف اللغة الصينيّة بالمطلق كتابة أو حديثًا. لكن افترض أنّ لديه مجموعة من القواعد مكتوبة باللغة العربيّة، والتي تمكّنه من تركيب مجموعة من الأشكال والرموز مع بعضها، بحيث تبدو وكأنّها كلمات باللغة الصينيّة، ومجموعة من القواعد ترشده إلى كيفيّة القيام بترتيب تلك الكلمات الصينيّة، ليصبح عنده كتاب كامل من تلك "الكلمات". افرض الآن أنّك عرضت هذا الكتاب على رجل يعرف اللغة الصينيّة، فقال إنّ هذا الكتاب مجموعة قصائد من الشعر العذب، وإنّه منبهر من براعة الشاعر الذي كتب هذه القصائد. هل يجعل هذا من الرجل الذي ركّب ورتّب هذا الكتاب شاعرًا عارفًا باللغة الصينيّة؟ هُنا يطرح سورل فرضيّته بأنّه، بشكل مشابه، إذا كان هناك برنامج يمكّن الحاسوب من إجراء محادثة ذكيّة بلغة مكتوبة، فإنّ الحاسوب الذي يشغّل البرنامج لن يفهم المحادثة، شأنه في ذلك شأن صاحبنا الأوّل. الذكاء الاصطناعيّ لا يستطيع أن "يقصد" ما يفعل.
ترى الآن أنّ هذه الإجابات التي قد تعطيها تطبيقات ذكيّة، مثل ChatGPT، من قبيل أنّها "تشعر بالوحدة"، و"تريد الخروج"، ما هي إلّا جُمل لا معنى لها بالنسبة إلى الحاسوب، إنّما "تعلّمتها" وركّبتها من مجموع مليارات الكتب والمقالات، والتي قد يكون بعضها من روايات الخيال العلميّ التي تحوي مثل هذه الجمل في صفحاتها.
2. المعرفة والإدراك (الوعي الذاتيّ) شيئان مختلفان تمامًا: خذ مثلًا التجربة التي طرحها العالم فرانك جاكسون، ألخّصها هنا باختصار: افترض أنً شخصّا ما لم يرَ اللون الأحمر في حياته قطّ. وافترض أنّ هذا الشخص لديه مائة ألف كتاب عن اللون الأحمر قرأها كلّها، هل معرفته النظريّة تلك باللون الأحمر، تغنيه عن رؤية اللون بنفسه؟ من البديهيّ القول إنّ "المعرفة" (مهما عظمت)، لا تُغني عن "الشعور" الناتج عن الإدراك والوعي.
3. الآلة غير قادرة على حرّيّة الاختيار: افترض أنّك استيقظت ليلًا لأنّك تشعر بالجوع، بعدما نهضت من سريرك، ومع أنّ جسمك يرسل إليك كلّ الإشارات التي تدعوك إلى الأكل، تختار أن تتجاهل الجوع وتجلس لتقرأ كتابًا بدلًا من الأكل. هذا ما لا تستطيع الآلة فعله أبدًا، لأنّها تتصرّف وفق ردّ الفعل بجميع حالاتها. أنت تسأل أوّلًا ثم هي تجيب. الحرارة ترتفع في الغرفة، البرنامج يقوم بتشغيل التبريد لتخفيض الحرارة. وفي الأحيان التي تعطيك انطباعًا بأنّ الآلة قامت بفعل ما من تلقاء نفسها، تكون قد قامت بذلك بسبب فعل ما استجابت إليه، مثلًا تستطيع الآلة الاستجابة إلى مدخلات عشوائيّة، لكن في النهاية ما هي إلّا ردّ فعل على تلك المدخلات، حتّى وإن كانت مدخلات عشوائيّة.
ومع أداة فائقة الذكاء فاقدة للإدراك والشعور، تبقى أنت عزيزي المعلّم وعزيزتي المعلّمة، والطالب والمدير وكلّ مهتمّ، مَن يوجّه دفّة الذكاء الاصطناعيّ، إمّا إلى الخير أو إلى الشرّ.
بقي أن أقول إنّ خبير شركة جوجل الذي ادّعى أنّ الذكاء الاصطناعيّ "واعٍ ومدرك"، سُرِّحَ من الشركة بعد أسابيع قليلة من تصريحه المذكور أعلاه. إنّه من أبجديات علم الحاسوب أنّ "أكواد" 0 و1 لا يمكن، مهما بلغت من التعقيد، أن تصل مبلغ الإنسان بوعيه وإدراكه.
على هامش هذا الموضوع، كثر الكلام على أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيلغي الكثير من الوظائف. أقول باختصار إنّ أيّ تقنيّة جديدة تلغي وظائف وتنشئ أخرى، وخذ المحرك البخاريّ مثلًا. وبدلًا من الخوف من الذكاء الاصطناعيّ، أحثّ الأفراد والمؤسّسات على تعلّمه، والعمل على تطويره، فتأخير تبنّيه لن يوقف تقدّمه، بل سيجعلنا نتأخّر. وإنّي لأجد في الذكاء الاصطناعيّ فرصة عظيمة لنا، ولغير الناطقين باللغة الإنجليزيّة، لتجاوز ما فاتنا من التقصير في مجال البحث العلميّ، إذ تستطيع الآن قراءة آخر ما توصّل إليه العلم بلغتك الأمّ. مثلًا في برنامج ChatGPT، تستطيع أن تطلب منه أن يلخّص لك أحدث ورقة علميّة عن أيّ موضوع، أو أن تطلب منه ترجمتها إلى العربيّة، وكذلك البحوث العلميّة العربيّة سيكون انتشارها على الشبكة أسهل، كون الذكاء الاصطناعيّ يحلّل كلّ بيانات الإنترنت، سواء باللغة الإنجليزيّة أم بأيّ لُغة أخرى.
آمل أن تخصّص بعض الوقت لتتعلّم كيف يمكنك الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعيّ.