مقدّمة
كانت، وما زالت، مهارة القراءة من المهارات التي تحظى بالكثير من الاهتمام من قبل أولياء الأمور والمعلّمين على السّواء. ويرى بعض أولياء الأمور أن دور الروضة أو المدرسة الرئيسيّ يتمحور حول تعليم الحروف ومبادئ القراءة، طبعًا لا يمكننا أن نغفل عن الفوائد الجمّة لمهارة القراءة في حياة أي إنسان، إذ تُعتبر نقطة انطلاق الطفل في حياته المستقبليّة لاستكمال مراحله التعليميّة اللاحقة، لما لها من تأثير مباشر وغير مباشر على مستوى الطفل الدراسيّ وتحصيله العلميّ.
ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه، ويطرحه بعض أولياء الأمور على المعلّمين ضمن هذا السياق، هو: لماذا لا يجيد طفلي القراءة مقارنة بأقرانه؟ لماذا نرى أصدقاءه في الفئة العمريّة نفسها يجيدون مهارة القراءة، بينما هو غير قادر على تمييز الحروف أو شبكها؟ ما الحلّ؟
هناك عدّة أسباب لعسر القراءة، ولكن ما أودّ تسليط الضوء عليه هو استعداد طفلنا للقراءة، فترانا نحن المعلّمين، وبشكل لا شعوري، نميل لاستعجال الطفل في القراءة دون التأكّد من جاهزيته، وذلك تحت ضغط أولياء الأمور من جهة، وضغط تحقيق معايير الوزارة من جهة أخرى.
الاستعداد للقراءة
الاستعداد للقراءة هو أمر نسبيّ يعتمد على نموّ الطفل في عدة جوانب؛ عقليّة ولغويّة واجتماعيّة وانفعاليّة، ويعتمد على خبرات الطفل وتجاربه السابقة والبيئة التي ترعرع فيها بشكل أساسيّ. وهذا لا يعني أن الطفل الذي لم يلتحق بحضانة أو روضة سيعاني من صعوبات في القراءة، فمن خلال تجربتي كمعلّمة رياض الأطفال، ينضمّ إلينا العديد من الأطفال من منازلهم مباشرة إلى المدرسة؛ إلى مرحلة الروضة الثالثة، ويبدون قدرة واستعدادًا على القراءة، وهذا يعود بالتأكيد إلى البيئة التي نشأ فيها الطفل.
ومهما تعدّدت تعريفات الاستعداد للقراءة، ومهما اختلفت تجاربنا نحن المعلّمين والمعلّمات، إلّا أنّني أؤمن بوجود عوامل ومعايير أساسيّة وتجارب لا يمكن للطفل أن يستعدّ للقراءة بدونها، وسأتطرّق إلى بعضها بشكلٍ موجزٍ.
عوامل ومعايير الاستعداد للقراءة
النموّ العقليّ
عندما نسمع كلمة نموّ عقليّ يتبادر إلى أذهاننا فورًا الذكاء الذي يتمتع به الطفل؛ أي العمر العقليّ ونسبة الذكاء. وأكّدت دراسات عديدة أن الطفل يستعدُّ لغويًا وعمره العقليّ بين ستّ إلى سبع سنوات.
الجانب المعرفيّ
إن الجانب المعرفيّ إلى جانب النموّ العقليّ، هما، بشكل أو بآخر، وجهان لعملة واحدة، فالطفل منذ لحظة ولادته يبدأ بتكوين الخبرات والمعارف من خلال المواقف التي يتعرّض لها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ودورنا هُنا يتمثّل بتوفير بيئة محفّزة وميسّرة للطفل للتعامل مع هذي المواقف، وتصميم أنشطة يوميّة تُمكّنهُ من التعامل معها بشكلٍ حسّيّ من خلال لمسها وفحصها وتفكيكها وتركيبها.
وفي حال كان قد التحق الطفل بروضة أو حضانة، سيكون ذلك من مسؤوليّة المعلّمة إضافة إلى دور المربّي، أمّا في حال لم يلتحق الطفل بروضة أو حضانة، فستقع هنا المسؤولية كاملةً وبلا شك على عاتق المربّي.
وهُنا أودّ التأكيد على دور الأنشطة الحسّيّة الكبير في تغذية النموّ المعرفيّ، ومنها تطوير التركيز ومهارات الملاحظة والتحليل، إضافة إلى المهارات الحركيّة الدقيقة واستخدام الحواس. ومن أبرز الأنشطة الحسّيّة التي أن يمكن أن تطبّق وبكل سهولة أنشطة العجين التي نطبّقها في المدرسة عبر الأنشطة المطبخيّة مثلًا، وأنشطة الرمل التي تدفع الطفل للتفكير والخيال عبر محاولة بناء أشكال مختلفة باستخدام أدوات منوّعة، وأيضًا أنشطة الموسيقى التي تركّز على نموّ الوعي الصوتيّ. إضافة إلى أنشطة التأرجح والتزلّق والقفز والتسلّق، وما إلى ذلك من أنشطة تساهم في تنمية الجانب المعرفيّ للطفل.
النمو اللغويّ
اللغة هي أوّل وأهمّ عامل ومؤشّر يدلنا على استعداد الطفل للقراءة، فلا يمكننا استعجال الطفل للقراءة وهو ما يزال غير قادر على التعبير عن مشاعره، أو ما يجول في خاطره بكلمات أو جملة بسيطة. ولا شك أن اللغة، شأنها شأن النموّ المعرفيّ، ليست وليدة اللحظة، إنما تظهر من عمر صغير عندما يبدأ الطفل بإصدار أصوات بسيطة وهو لا يتجاوز أسابيع قليلة من عمره، ومن ثم يتدرّج حتى يصل إلى الاستخدام اللفظيّ الواضح للكلمة.
وقد لاحظنا مؤخّرًا داخل صفوفنا تراجعًا كبيرًا في اللغة، متمثّلًا بعدم قدرة أطفالنا على تركيب جملة بسيطة صحيحة وسليمة، إمّا بسبب خلل في مخارج الحروف و/ أو فقر في المخزون اللغويّ لدى الطفل وأسباب أخرى، فيكون دورنا هُنا كمعلّمين ومعلّمات تطوير اللغة لدى الطفل من خلال عدّة طرق واستراتيجيّات وأنشطة صفّيّة ولا صفّيّة. وقد تكون قراءة القصص مثالًا جيّدًا على هذه الطرق، مع العلم أنّ هذه الأدوات والاستراتيجيّات لا تقتصر على المعلم فقط، إنّما على أولياء الأمور والمربّين أن يكونوا شركاء في هذه العمليّة، وفهم هذه الأدوات فهمًا جيّدًا لتطوير مخزون الطفل اللغويّ ومهاراته المُختلفة.
ومن هذه الأدوات أيضًا استثمار الرحلات الميدانيّة من خلال قيامنا بتسمية الأماكن وكل ما نراه هناك. أذكر في إحدى المرّات، وكمثال على رحلة من عدّة رحلات قمنا بها، أننا توجّهنا إلى مزرعة لنتعرّف على رحلة الحليب والمراحل التي يمرّ بها كي نحصل على منتجات مختلفة منه، وعدنا من الرحلة وفي جعبتنا كلمات ومفردات جديدة تعلّمناها هناك، ويمكن استثمار أيّة رحلة، سواء كانت برفقة الأهل أو المعلّم، لاكتساب مفردات ومصطلحات جديدة.
ولا يُمكننا أن نغفل عن أهمّيّة البيئة الصفّيّة دورها في تطوير اللغة، فنحرصُ داخل القاعة الصفّيّة أن تكون الحروف والكلمات متمثّلة بصريًّا حولنا، ونخصّص لها أركانًا مختلفة وثابتة على مدار العامّ، وتكون على مدى مناسب لنظر الطفل ونمرّ عليها تقريبًا بشكل يوميّ. وأيضًا أسماء الطلاب وحائط وحدة البحث الذي علينا إثراءه بكلمات وصور تتعلّق بالوحدة، وهذا الركن الأساسيّ في الصفّ الذي يتغيّر بتغيُّر وحدة البحث والموضوع الذي نتناوله.
أذكر إحدى الاستراتيجيّات المفيدة التي اتّبعناها في إحدى المدارس كانت استراتيجيّة الكلمات البديلة، لقد كان لدى الأطفال فقر شديد في استخدام المفردات، وكانوا، غالبًا، يستعملون كلمات غير واضحة تعود، للأسف، لقيام بعض الآباء بالتحدّث مع أطفالهم بلغة طفوليّة، أو يستخدمونَ أكثر من لغة خلال الحوار مع الطفل، وهذا تسبّب في خلفيّة لغويّة ضعيفة وفقيرة للطفل.
فكنّا نستعرض في كل حلقة صباحيّة، صورة و نقوم بتسميتها، ونرى أحيانًا أن التسميات التي يطرحها الأطفال تتعدّد بكلمات صحيحة أو غير صحيحة، وأحيانًا تكون بعيدة عن اسم الصورة، فبعد أن نتوصّل للاسم الصحيح، كنّا نضع الكلمة بجانب الصورة، وكلّ يوم نزيد رصيدنا من الكلمات.
هُنا أودّ التأكيد على أهمّيّة الحوار والحديث مع الطفل بأبسط التفاصيل، سواء في البيت أو في المدرسة، والبدء بذلك من سنّ مبكّرة، فالطفل لديه قدرة كبيرة على تخزين المفردات التي ستساعده لاحقًا على القراءة والتحدّث. إضافة إلى العديد من الأنشطة التي لها دور فعال في تنمية اللغة والتعبير اللغويّ وإثراء الحصيلة اللغويّة لدى الطفل، مثل ألعاب التخيُّل ولعب الأدوار والمسرحيّات والأناشيد والرّديّات.
التكيُّف الاجتماعيّ والانفعاليّ
من العوامل المهمّة المؤثّرة على استعداد الطفل للقراءة هي الاستقرار الاجتماعيّ والانفعاليّ داخل بيئته. هُنا من الضروري تخصيص أنشطة وألعاب لا منهجيّة، بهدف دعم الاتزان العاطفيّ والاجتماعيّ لدى الطفل. وأرى ضرورة ربط ذلك بالاتفاقيّات الصفّيّة التي نبنيها مع الأطفال في بداية العام الدراسيّ، شرط أن تبنى هذه الاتفاقيّات بطريقة بعيدة كل البعد عن التعليمات إصدار الأوامر والتهديد، إنما نبنيها معًا وبكلّ حبّ.
إنّ هذه الأنشطة وتكوين بيئة آمنة للطفل ساعدت وساهمت في تكيّف الأطفال والتأقلم والتناغم بينهم وشعورهم بالأمان داخل هذا المجتمع الصغير، ومن الصعب على المعلّمين، أو على المربّين، بدء العمل على مهارة القراءة والطفل فاقد للاتزان الانفعاليّ أو التكيُّف الاجتماعيّ مع بيئته، سواء كانت هذه البيئة هي الروضة أو المدرسة أو حتى البيت، فتأجيل مهارة القراءة أمر بالغ الأهمّيّة في حال كان الطفل لا يشعر بالاستقرار في المكان.
الصحّة الجسمانيّة والعامّة للطفل
لا شكّ أيضًا أن الصحّة العامّة للطفل هي أحد العوامل المؤثّرة في الاستعداد للقراءة، بما في ذلك التناسق الحركيّ وسلامة البصر والسمع لديه، لأنّ المشاكل بصريّة أو السمعيّة سينجم عنها مشاكل في النطق، والأطفال الذين يعانون من مشكلات في التناسق الحركيّ سيواجهون تحدّيات للقيام بأنشطة التآزر ما بين العين واليدّ، وكل ذلك سيؤثّر، بشكل أو بآخر، على استعداد الطفل لمهارة القراءة.
تأمُّل
في لحظة تأمُّل سنجد أن مهارة القراءة من المهارات المعقّدة، وتحتاج أن يمرّ الطفل بكثير من المراحل، وأن يتعرّض للكثير من المواقف في سنواته الأولى، وتحتاج إلى الكثير من الجهد والاستراتيجيّات من قبل المربّي. واستعجال الطفل أحيانًا من قبلنا، تحت ضغط المعايير والأهداف، دون التأكُّد من امتلاك الطفل للمقوّمات الكافية، سينعكس سلبًا عليه، وسيعيق ذلك تطوره، وربما رفضه لاحقًا لأي محاولة لتطوير مهارة القراءة لديه.