هرم بلوم: الصعود إلى الهاوية!
هرم بلوم: الصعود إلى الهاوية!
2024/09/15
عبد الرحمن سيّور | معلّم مادّتي الفيزياء والرياضيّات- لبنان

استخدم التربويّون تصنيف بلوم للمجال المعرفيّ منذ أكثر من 50 سنة، لكتابة الأهداف التعليمية. فقُسّمت الأهداف التعليميّة إلى ستّة مستويات، تتراوح من أبسط مستوًى للتعقيد المعرفيّ أي الاستذكار، وصولًا إلى أعلى مستوًى، وهو الابتكار. وعلى هذا، يشتمل تصنيف بلوم على ستّة مجالات معرفيّة: الاستذكار؛ والفهم؛ والتطبيق؛ والتحليل؛ والتقييم؛ والابتكار. تمثّل هذه المجالات سلسلة متواصلة تُستخدم في التعليم والتقييم.

وعلى الرغم من شهرة هذا التصنيف، إلّا أنّه يُعتبر غير فعّال حسب بعض الخبراء التربويّين، بل ويحذّر البعض من تأثيره السلبيّ في العمليّة التعليميّة، في حال استُخدم بالطريقة السائدة.

سأوضح في هذا المقال كيف أنّ تصنيف بلوم يقدّم تصوّرًا مخلًا عن عمليّة التعلّم، وكيف يؤثّر استخدامه بشكل سلبيّ.

للتوضيح سأقوم باستخدام مصطلح "المستويات الأعلى" و"المستويات الأدنى"، للإشارة إلى المستويات حسب تصنيف بلوم، وليس لأنّني مقتنع بوجود هذه التراتبيّة بالشكل المطروح.

 

1

 

1. تقييد العمليّة التعليميّة من خلال تراتبيّة الأهداف

لنفترض هنا أنّ المستويات متسلسلة كما يُعبّر عنها بتصنيف بلوم.

يقوم تفسير تصنيف بلوم عادة، على ضرورة أن يتقن المتعلّم المستويات الأدنى قبل تناول مستويات أعلى.

على سبيل المثال، على معلّم الفيزياء أن يتأكّد أن الطلّاب قد أتقنوا حفظ أسماء القطع الكهربائيّة، وحفظ الرموز الكهربائيّة المستخدمة في الدرس، وشرح المصطلحات الضروريّة كتعريف الجهد، والتيّار الكهربائيّ، وشرح كيفيّة عمل الدارة الكهربائيّة... وذلك قبل الانتقال إلى مستويات أعلى كالتطبيق، والتحليل. إنّ اشتراط إتقان هذه التفاصيل قبل الانتقال إلى المستويات "الأعلى"، يبطّئ العمليّة التعليميّة بشكل كبير. في حين إنّ الطريقة الأكثر فعّاليّة هي العودة إلى الكتاب، أو تزويد الطالب بأوراق تلخّص المعلومات والتعريفات التي يجب حفظها وفهمها، بعد أن شُرحت. وهكذا يستطيع المعلّم أن ينتقل إلى مستويات أخرى بشكل أسرع، ليطبّق ويحلّل. هذه الطريقة تجنبنا هدر الوقت، إضافة إلى جعلها الحفظ والفهم أسهل؛ فالطالب لا يجد نفسه يحفظ معلومات وتعريفات معزولة عن سياقها، بل يحفظ ويفهم ما اختبره في التطبيق واستخدمه للتحليل.

يمكن تقديم المثال ذاته على الموادّ الاجتماعيّة: لنفترض أنّنا نتحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة؛ إنّ الوصول إلى مستوى التحليل، والطلب من المتعلّم المقارنة بين مقترحات الأمم المتّحدة ومطالب الفلسطينيّين، لا يشترط إتقان الطالب وحفظه كلّ الاقتراحات والمطالب، بل ببساطة يمكن تزويد الطلاب بأوراق تلخّص المطالب والاقتراحات، ثمّ العمل على المقارنة. النتيجة عدم هدر الوقت، وحفظ أسهل للمعلومات، بينما يقوم الطالب بتطبيقها وتحليلها.

 

2. تسلسل أم تداخل؟

المشكلة في هرم بلوم لا تكمن في تقييد العمليّة التعليميّة وتبطيئها وحسب، بل المشكلة أعمق من ذلك. فالتسلسل المقترح لا يعبّر عن تسلسل حقيقيّ دائمًا، فالفهم ليس دائمًا أقلّ تعقيدًا من التطبيق والتحليل. بل قد يستوجب تكوين فهم متماسك، أن يطبّق المتعلّم ما تعلّمه بأمثلة وسياقات مختلفة، وأن يحلّل ويقارن.

ليفهم الطالب بشكل حقيقيّ خصائص النمط الإقناعيّ في الكتابة، يجب التطبيق والعمل على كتابة نصّ بنفسه، وليس بعد أن يحفظ خصائصه عن ظهر قلب. وليفهم الطالب بشكل متقن "قانون أوم" الذي يفسّر العلاقة بين الجهد والتيّار والمقاومة، يتطلّب ذلك أن يستطيع تطبيق العلاقة، إمّا رياضيًّا أو تجريبيًّا، وأن يكون التطبيق بطرق مختلفة: فمرّة لاحتساب الجهد، ومرّة للتيار، ومرّة للمقاومة.

الفهم ليس بالضرورة مرحلة تأسيسيّة للتطبيق والتحليل؛ ففي أغلب الأحوال لا نكوّن فهمًا للأفكار بعد اكتساب معلومات وحفظها، بل بتطبيق المعلومات وتحليلها، والعمل على ابتكار أشياء جديدة بأنفسنا.

لا يجب تفتيت العمليّة التعليميّة، في حين أنّها أكثر تداخلًا وتعقيدًا في الواقع.

وما قد يزيد الطين بلّة، افتراض المعلّم أنّ مواجهة المتعلّم صعوبة في الحفظ تعني ضرورة مواجهته صعوبة في المستويات الأعلى. في حين أنّ هذا ليس صحيحًا بتاتًا، ومن الخطر الحكم على الطالب بالفشل لعدم قدرته على الحفظ، بل تجب مساعدته على تناول المحتوى التعليميّ بطرق مختلفة، وأن يطلب منه التطبيق والتحليل والابتكار، لا أن يُتوقّع منه أن يتقن الحفظ قبل أيّ شيء.

 

3. مستويات من دون كفايات

استخدام تصنيف بلوم يعطي المعلّم الثقة المضلّلة بأنّ التركيز على هذه المستويات يعني إتقان المحتوى التعليميّ. في حين يمكن للمعلّم أن يشرح درس فيزياء كاملًا مثلًا، باستخدام تصنيف بلوم، وتعليم الجانب الرياضيّ للدرس فحسب، وتجاهل الجانب التجريبيّ والجوانب الأخرى للمادّة.

على سبيل المثال، يمكن للمعلّم أن يعلّم الطلّاب القواعد الرياضيّة المطلوب حفظها، ثمّ تعريف كلّ متغيّر، ثمّ تطبيق القاعدة مع متغيّرات مختلفة. بعد ذلك يعلّمهم تحليل تأثير تغيير هذا المتغير في ذاك، ثمّ تقييم ما حصلنا عليه من أجوبة، وابتكار طريقة جديدة لحلّ القاعدة.

من وجهة نظر تصنيف بلوم حقّقنا الهدف، ووصلنا أعلى الهرم. لكن في الواقع، هذا إخفاق واضح في تدريس الفيزياء. فلتدريس الفيزياء أبعاد وكفايات متنوّعة، لا تقتصر على البعد الرياضيّ، بل هناك جوانب تجريبيّة وتطبيقيّة ومفاهيميّة، والقدرة على توظيف التكنولوجيا، ورسم البيانات، وحلّ المشكلات.

 إنّ إتقان كلّ درس يتحقّق باكتساب مهارات حقيقيّة ومتنوّعة، وليس فقط باستخدام مستويات متعدّدة من المجال المعرفيّ.

بمعنى آخر، يجب أن يطبّق المتعلّم ويحلّل ويبتكر، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار الكفايات التعليميّة الخاصّة في كلّ مادّة.

 

الخلاصة

إنّ استخدام المستويات المتعدّدة المذكورة في تصنيف بلوم، يكون مفيدًا في حال استخدم بوصفه طريقة لوضع أهداف تعليميّة في مستويات متنوّعة لا متسلسلة؛ حيث يتعلّم الطالب الاستذكار والفهم والتطبيق والتحليل والتقييم والابتكار، شرط عدم تعامل المعلّم مع هذه المستويات باعتبارها هرميّة. وعلى المعلّم ألّا ينسى كفايات كلّ مادّة ومهاراتها وخصوصيّتها، وتنوّع حاجات كلّ عيّنة طلّابيّة.

يبقى السؤال: ما الطريقة المثلى لوضع أهداف تعليميّة فعّالة برأيك؟