تحدّثت مؤخّرًا، بمعيّة مجموعة مميّزة من المعلّمات والمعلّمين من القدس ورام الله وطولكرم وسلفيت، في فعالية نظّمها طلاب الدراسات العليا في جامعة هارفرد حول التعليم والتعلّم في فلسطين، وممارسات الاحتلال الإسرائيليّ الممنهجة لتقويض العمليّة التعليميّة، والتي ما تزال تحدث على مرأى ومسمع من العالم: بدءًا من قتل الأطفال الآمنين وتدمير أحيائهم ومدارسهم، والتي تحوّلت إلى مراكز إيواء كما حدث في مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة الغوث الدوليّة (الأونروا) في العدوان الجاري على قطاع غزّة؛ وصولًا إلى الإرهاب الممنهج ضدّ طلّاب المدارس في المدن الفلسطينيّة كافّة، وتوقيفهم على الحواجز العسكريّة وتفتيشهم ومضايقتهم كما حدث مؤخّرًا في مخيم شعفاط للّاجئين في القدس.
كان أحد أهمّ الأسئلة التي طُرحت عليّ خلال الفعاليّة: "ما أكثر شيء يفاجئك في طالباتك في غزّة؟" تأثّرت بهذا السؤال بشدّة لأنّه ذكّرني بالقوة والصمود اللذين يمكننا أن نتعلّمهما من أطفالنا، وخصوصًا في هذه الأوقات الحرجة. أجبت بأنّ أكثر ما يفاجئني في طالباتي، قدرتُهنّ على الحلم والتفكير في المستقبل، في منطقة يعيش فيها الناس حياةً مع وقف التنفيذ. لديهنّ رغبات وطموحات لا تختلف عن تلك التي يحلم بها الأطفال في مناطق أكثر استقرارًا وأمانًا. تحلم بعضهنّ بمهنة في المجال الطبّيّ، وأخريات في مجال التكنولوجيا والعلوم، وأخريات في مجال الأدب والتاريخ والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعيّ وريادة الأعمال وغيرها الكثير، حتّى إنّ بعضهنّ يطمح للسفر إلى الفضاء.
استطعت، خلال الأيّام الماضية، التواصل مع زميلاتي اللّاتي يعملن في الإرشاد النفسيّ في مدرستي، والتي تحوّلت حاليًّا إلى مركز إيواء لآلاف الأسر النازحة. أخبرنني أنّه لم يعد هناك متّسع داخل المدرسة لاستيعاب أعداد النازحين، لذلك تعيش العائلات التي لا تجد مكانًا، في خيامٍ في محيط المدرسة. يحاول فريق الإرشاد النفسيّ في المدرسة تقديم الدعم النفسيّ - الاجتماعيّ للعائلات، وتنفيذ أنشطة تفريغ انفعاليّ للأطفال. يريد الأطفال أن يتوقّف القتل، ويتوقّف أزيز الطائرات الحربيّة، وتتوقّف أصوات القصف. يريد الأطفال أن يعودوا إلى بيوتهم ويناموا في أسرّتهم. يريد الأطفال أن يعودوا إلى الدراسة والقلق بخصوص الاختبارات والواجبات البيتيّة. يريد الأطفال أن تعود الحياة.
ذهلتُ عندما أخبرتني زميلاتي عن قلق الفتيات بخصوص اختبار الثانويّة العامّة (التوجيهيّ)، حيث تركنَ كتبهنّ المدرسيّة في بيوتهنّ في المناطق الشرقيّة والشماليّة. رحلن مع عائلاتهنّ، أو من تبقى منها، حاملات الأوراق الثبوتيّة فقط، حيث لا يسمح جيش الاحتلال بحمل أكثر من ذلك خلال النزوح عبر ما يسميه "الطريق الآمن". تقتبس زميلاتي إحدى الفتيات، "خايفة لمّا تخلّص الحرب ما ألحق أدرس للاختبارات". ترغب الفتيات في خوض الاختبار والتفوّق والالتحاق بالجامعة على الرغم من قصف العدو للمدارس والجامعات والمشافي والشوارع والبنية التحتيّة. ما زالت لدى الفتيات القدرة على الحلم والتفكير في المستقبل من داخل الملاجئ المعرّضة للقصف في أيّ لحظة.
تلهمني القوّة والصمود عند عائلتي وصديقاتي وزملائي وطالباتي في غزّة، وأفهمهما حقًّا، إذ لم يمضِ وقت طويل على آخر حرب شهدتها في غزّة. وأعلم تمامًا أنّه عند نفاد الخيارات، لا تملك سوى أن تنظر إلى الشرّ في عينيه وتقول شعب فلسطين لن يسقط. غادرتُ غزّة للالتحاق ببرنامج الزمالة الأطلسيّة للعدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في كلّيّة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة، قبل شهر من العدوان الإسرائيليّ على مدينتي وأهلي. وخلال الأسابيع الماضية، جاهدت نفسي كثيرًا كي لا أنهار أمام الفظائع التي ترتكب بحقّ كلّ مَن وما أحبّه وأكترث له.
حاولت مرارًا العودة إلى غزّة لأكون بالقرب من عائلتي. أريد العودة حتّى إذا كُتبت الحياة لعائلتي أعيش معهم، ولو كُتب لهم الموت أموت معهم. فالمستقبل لا يعني لي شيئًا إن لم تكن عائلتي فيه. ولأنّني فشلت حتّى الآن في إيجاد طريقة لأكون بالقرب منهم، أو حتّى أن أخرجهم إلى مكان آمن، أحاول أن أستلهم القوّة من الناس هناك: عائلتي وأحبّتي وطالباتي وزميلاتي في غزّة. وأجتهد في دراستي وعملي في الخارج، لأنّ كلّ ما أتعلّمه هنا سأعود لأوظّفه في مدرستي ومجتمعي.
الناس في غزّة يستحقون الأفضل، والمستقبل الذي يحلم به الأطفال يستحقّ أن نعمل من أجله.
صرت أؤمن أنّ ما أتعلّمه هنا لا يزيد عمّا استطعت أنا وغيري، من الطلبة والمعلّمين الفلسطينيّين، تعليمه للآخرين: عن صمود المنظومة التعليميّة وقوّتها وقدرتها على الاستمرار على الرغم من قهر الاحتلال وعجرفته؛ فالتضامن الذي يمكننا حشده، والمعرفة التي يمكننا نشرها عن المجتمعات التي نأتي منها ونخدمها كعاملين في مجال التربية والتعليم، إسهامٌ لا غنى عنه في سبيل دفع عجلة التغيير من أجل عالم أكثر عدالة.
لذلك، زميلاتي وزملائي في مجال التربية والتعليم، سأشارككم بعض الفرص التي تعرّفت إليها خلال زيارتي لجامعة هارفرد، علّها تساعدكم في إيصال صوتكم وتعزيز إمكاناتكم. يمكنكم التقدّم لزمالة مبادرة الشرق الأوسط للتعليم المهنيّ Harvard's Professional Learning Initiative، إذ تستطيعون من خلالها ابتكار الممارسات المثلى لتعزيز قوّة التعليم في مدارسكم، والسياقات المختلفة التي تخدمونها ونشرها. كما يمكن للعاملين في الجامعات ترشيح أنفسهم أو الآخرين لزمالة الباحثين المعرّضين إلى الخطر Harvard's Scholars at Risk Fellowship.
تعاتبني صديقتي وزميلتي ميساء، مرشدة المدرسة، في كلّ مكالمة نستطيع أن نسرقها على الرغم من انقطاع الاتّصال المتكرّر: "وينك يا رفيقة دربي، كان هلحين أنا وإنتِ في المدرسة بنعمل للزّغار ألعاب وأنشطة وبنفرّحهم". تجرحني كلماتها كلّ مرّة لأنّني حقًّا أشعر بأنّ لا شيء أفعله خارج غزّة يضاهي الدور الذي كان يمكنني فعله هناك، لكنّها مشيئة الله.
في الصورة زميلتي ميساء وبعض الطالبات أثناء نشاط ترفيهيّ في المدرسة نفذّناه العام الماضي. شعرنا يومها بسعادة كبيرة لأنّنا تمكّنّا من الحصول على بالونات، حيث أنّ الاحتلال يمنع دخول البالونات إلى قطاع غزّة. لعبنا بالبالونات مثل الأطفال، وفرحنا بها أكثر منهم حتّى.
نحلمُ بمستقبل آمن وعامر بالفرح لنا ولأحبّتنا ولأطفالنا؛ مستقبل يستطيعون فيه تحقيق أحلامهم وطموحاتهم على أرضهم وتحت سمائها الزرقاء، حيث تستبدل فيها الطائرات الحربيّة وقنابل الفسفور، بالطائرات الورقيّة والبالونات والعصافير.
سُجّل النصّ مع بودكاست صوت خلال العدوان على غزّة، عام 2024.