-
- باحثة في مجال الألسنيّة التاريخيّة.
-
- يتركّز عملها البحثيّ حول تطوّر التراث النحويّ العربيّ، وتأثير هذا التطوّر في تعلّم اللغة العربيّة وتعليمها.
-
- عضو في اللجنة الاستشاريّة لمجلّة منهجيّات.
-
- أشرفت د. ديّة على مشروع أكاديميّة الملكة رانيا لتطوير معايير لتعلم اللغة العربيّة للناطقين بها.
-
- شاركت في مشروع (AERO+) الذي وضع وأشرف على تطبيق معايير اللغة العربيّة كلغة عالميّة في المدارس الأمريكيّة والدوليّة.
-
- رأست لجنة الاستشارات العربيّة في مجلس المدارس الأمريكيّة في الشرق الأدنى وجنوب آسيا (NESA)، وكانت عضوًا في لجنتها للتطوير المهنيّ.
-
- لها مؤلّفات عديدة، فقد وضعت برامج تعليم اللغة العربيّة للناطقين بها وبغيرها، للمراحل الابتدائيّة والإعداديّة.
-
- رئيسة كرسي معهد اللغة العربية للتميّز، ومديرة برامج اللغة العربيّة في مدرسة الجالية الأميركيّة في أبوظبي.
-
- أخبرينا عن الرحلة التي أوصلتك إلى ما أنتِ عليه اليوم في إدارة البرامج وكتابة المناهج وغير ذلك من مناحي تطوير تعليم العربيّة.
بدأتُ من حيث يبدأ الجميع، أنهيت دراستي في تخصّص اللغة العربيّة وآدابها، وكان من الطبيعيّ أن أدخل إلى مجال التعليم، ككثير ممّن ينهون دراستهم من التخصّص ذاته. بدأت التعليم في مدارس لبنانيّة، وبعدها انتقلت إلى التعليم في مدارس أمريكيّة، الأمر الذي كان تحوّلًا مهمًّا في خبرتي في التعليم، لأنّها كانت المرّة الأولى في حياتي التي أتعرّض فيها إلى تجربة تعليم العربيّة كلغة ثانية، وهذا لم يكن مألوفًا لي، بل كان تحدّيًا لأنّ دراسة الأدب العربيّ تشمل دراسة الأدب واللغة، لكن لا تشمل كيفيّة تدريس العربيّة لغير الناطقين بها.
من هُنا، كان العمل بمثابة رحلة تعلّم وتعليم في الوقت ذاته؛ تعلّم لي أنا، وتعليم للطلبة. ووقعت في حُبّ التعليم، والعمل في المجال التربويّ، ودأبت على العمل فيه حتّى اليوم. وعندما حصّلتُ الدكتوراه في مجال الألسنيّة التاريخيّة، خطر لي أن أنتقل إلى التعليم الجامعيّ، كما هو متوقّع حين يتحوّل المربّي إلى باحث أكاديميّ. لكن، المدّة الطويلة التي أمضيتها في مجال التعليم، والتي تخطّيت خلالها مرحلة التعليم في الصفوف، إلى إدارة البرامج وإدارة منهاج اللغة العربيّة، وصرت في مكانٍ اكتشفتُ فيهِ حبّي لقيادة التغيير؛ كلّ ذلك جعل صورة العودة إلى الجامعة والبحث العلميّ في مجال اللغة العربيّة والتراث النحويّ العربيّ فقط، من دون أن تكون لي صلة بالواقع اليوميّ لتعليم العربيّة في المدارس، بعيدةً عنّي؛ فلا تنسَ أن العلاقة بين كلّيّة الآداب وكلّيّة التربية بالمدارس شبه مقطوعة، وكأنّ العالمين يعملان بشكلٍ منفصلٍ تمامًا.
-
- معظم المناهج والكتب التعليميّة يشرف عليها أساتذة جامعيّون، هل لذلك أثر في انفصال العالمين؟
أكيد، أعتقد أنّ الفجوة بين المقرّرات أو المناهج والتوقّعات وبين ما يستطيع المعلّم تطبيقهُ كبيرة. وهذا يصيب المعلّم بالإحباط في أحيان كثيرة. هذه الفجوة لها علاقة بأنّ المسؤولين عن وضع المناهج يبحثون دائمًا عن أساتذة جامعيّين ليقوموا لذلك. وبما أنّني في العالمَين، المدارس والجامعات، فأنا أسمعُ دائمًا من المعلّمين جُملة: "متى كانت آخر مرّة دخل فيها إلى فصل دراسيّ؟!" إشارةً إلى مَن كتب المنهاج، وإلى البعد الكبير لما يُتوقّع في هذا المنهاج عن واقع التعليم. أفضّل ألّا أنقطع عن الحياة اليوميّة الواقعيّة للمدارس والتجارب التعليميّة، خوفا من أنّ يؤدّي اقتصار التركيز على البحث العلمي فقط، إلى ابتعادي عن الواقع. يذكّرني العمل في مجال التعليم المدرسيّ بأن تكون توقّعاتي مُلائمة لسياق المدرسة ومستوى الطلاب. وأعتقد أنّ قطاع التعليم المدرسيّ يتطوّر بشكلٍ أسرع بكثير من قدرة الجامعات على ملاحقة هذا التطوّر، لأنّه في حالة تماسّ دائم ومتواصل مع الجيل. أمّا في الجامعات فالتطوّر يتطلّب وقتًا أطول.
-
- لا يُمكننا أن نخوض عمليّة التطوير بدون بحث، والمدارس مشغولة جدًّا، فمن سيقوم بالبحوث في هذا السياق؟
هذا صحيح، ومن هُنا كان الاقتراح بضرورة خلق علاقة استراتيجيّة بين دوائر اللغة العربيّة ودوائر التربية في الجامعات، فالعلاقة حاليًّا مقطوعة بين الكلّيّتين في الجامعات. أمّا على مستوى علاقة كلّيّة التربية بالمدارس، فأعتقد أنّ ثمّة علاقة مبنيّة على فكرة واحدة: إرسال تلاميذ الجامعة للتدرّب العمليّ في المدارس. فالعلاقة بين الجامعات والمدارس ليست علاقة شراكة.
قد يكون المشروع الوحيد الذي لُحظت فيه شراكة حقيقيّة بين الجامعة والمدرسة، هو مشروع "تمام" في الجامعة الأميركيّة في بيروت؛ فالمشروع يقوم على شراكة بين البحث العلميّ التربويّ والتطبيق العمليّ، أي بين الجامعة والمدرسة، لضمان الاستدامة. نحن بحاجة إلى مثل هذه الشراكات في العالم العربيّ، وبهذا الصدد أقول إنّ تمتين العلاقة بين الجامعة والمدرسة أمر ضروريّ، وعليها أن تكون علاقة ثلاثيّة وليست ثنائيّة، أي بين كلّيّة الأدب العربيّ وكلّيّة التربية والمدرسة، لا أن تقتصر على كلّيّة التربية والمدارس في مجال تدريب المعلمين الجدد وحسب. علاقة تقوم على مستويَي البحث الإجرائيّ والتطبيق العمليّ للنظريات التربويّة واللغويّة.
1. الأصالة والتجديد
-
- في اليوم الدراسيّ بعنوان "تعليم اللغة العربيّة في المدارس: مداخل واستراتيجيّات" الذي عُقد في معهد الدوحة للدراسات العُليا بتاريخ 25 شباط/ فبراير 2023، بشراكة بين ترشيد ومعهد التطوير التربويّ، ركّزتِ في محاضرتك الافتتاحيّة على مفهومَي الأصالة والتجديد، ما تعريفك لهذين المفهومين؟
لم يكن تعريفًا خاصًّا بي، انطلقتُ في المحاضرة الافتتاحيّة من التعريف المعجميّ لكلمتَي الأصالة والتجديد. وقد قمت بذلك لأنّني على علم بأنّ المفردتين تستخدمان بمعانٍ غير دقيقة. يبدو، مثلًا، استخدام كلمة "أصالة" في تعبير "أصالة اللغة" أنّه يعكس المحافظة والقِدم وبالتالي التعقيد، فيما يبدو استخدام كلمة "التجديد" أنّه يعكس كلّ ما هو جديد ومبتكر، وبالتالي ما يأتينا من الغرب. وما قمت به أنّني عُدتُ إلى المعجم لضبط المصطلحين؛ فالأصالة تعريفا هي التجذّر، ومن هُنا العربيّة هي لغة أصيلة، فهي عريقة ضاربة في الزمن، وعريقة بكمّيّة آدابها ونوعيّتها. لكن، من معاني الأصالة أيضًا، أن تكون مبتكِرًا، وهذه من المعاني الواردة في المعاجم: فالأصيل مبتكِر في لحظته، أمّا التجديد فهو أن تأتي بشيء جديد، أو أن تقوم بشيء غير مألوف وشائع، ومنه الابتكار.
لقد حاولت في كلمتي الافتتاحية أن أدعو إلى عدم مقاربة المفهومين على أنّهما نقيضان، وأن أوضح أنّهما يمكن أن يؤدّيا المعنى ذاته: واحد يشير إلى ميلٍ إلى الجذور وآخر إلى المستقبل. وهذا ما أؤمن به عن تعليم العربيّة؛ فيمكننا أن نكون أصيلين، نتقن اللغة، ونعرفها، ونعرف تاريخها، ونعرف حضارتها، ومتمكّنين منها، ونؤمنُ بها وبقدرتها على التجديد في آنٍ.
-
- لكنّ المفهومين يطرحان على أساس أنّهما ضدّان، ما تبريرك لهذا الواقع؟
بالنسبة إلي يعكس هذا الواقع الصراع بين ما يتوهّم البعض أنّه الشرق أو الغرب؛ فثمة فكرة سائدة في تعليم العربيّة تؤدّي إلى انقسام وهميّ بين معلّمي العربيّة: إمّا أن تكون أصيلا، وبالتالي تقليديّا ومحافظّا، أو أن تكون تجديديّا ومبتكرا وبالتالي "مستغرِبا"، أي تقلّد الغرب ولا تحترم خصوصيّة اللغة العربيّة وتراثها. لقد حاولت في كلمتي الافتتاحيّة أن أدحض هذا التقسيم وهذا الفهم المغلوط لمفهومَي الأصالة والتجديد. وكانت دعوتي في نهاية المحاضرة "ادخلوا إلى تعليم العربيّة وتعلّمها بقلب أصيل وعقل متجدّد": قلب أصيل لأنّ اللغة العربيّة عزيزة على القلوب، وسنبقى أصيلين لها لأنّها غنيّة وثريّة ولها جذورها. وعقل متجدّد لأنها أيضًا لغة تحتمل التجديد والتطوير، من دون أن يعني ذلك أن نستورد كلّ المبادرات الأجنبيّة ونفرضها على العربيّة، بل أن ننطلق من العربيّة ولكن بعقلٍ تجديديّ، وأن نجد مقاربات وأساليب تجديديّة في تعليم العربيّة، مع التساؤل الدائم حول توافق هذه المقاربات وخصائص اللغة العربيّة.
-
- هُناك أسباب لانطلاق هذا الصراع، أليس مُبرّرًا لمن يخاف من التجديد، أنّه يخاف على الهويّة وعلى التاريخ، وأن كلّ ما يؤتى به هو جزء من "مؤامرة"؟
الخوف على العربيّة قديم جدّا، وقد نرجع به إلى عصور سابقة، ولا سيّما عندما بدأ اختلاط العرب مع شعوب أُخرى تتحدّث لغات أُخرى، فكان الخوف على اللغة، وهذا أمر قديم. عند قراءة "مقدّمة" ابن خلدون، من القرن الرابع عشر، في جزئه الذي يتحدّث فيه عن العربيّة وكيف يتعامل معها الجيل الجديد، إذا أخفينا اسمَي الكاتب والكتاب، سنشعر أنّه يكتب عن اليوم وجيل اليوم.
الخوف يجعلنا نتمسّك بما هو مألوف ومعروف لنا، فيدفع بنا إلى التمسّك بطرائق تعليميّة تقليديّة لأنّنا اختبرناها ونعرف نتائجها. ولكنّنا نقع في هوّة المسافة بين طرائقنا التقليديّة وتطوّر الجيل، لذا نخطو في طريق إيجاد حلول سريعة، فنتفاجأ بأنّها تأتي كلّها من الغرب، ونقع بالتالي في جدليّة التقليديّة والاستيراد، من دون وجود مرجعيّات تُقيّم هذه الحلول. وفي هذا السياق، نعود إلى دور الجامعات التي لا تواكب تطوّر المدارس. أعتقد أنّ الخوف العميق جدًّا وغير المبرّر من ضياع اللغة وخسرانها، عنصر أساس في ضياعها وخسرانها، لأنّه يشلّنا ويوقفنا عن التجديد الحقيقيّ.
-
- ما التجديد الذي نتحدّث عنه؟
التجديد الذي أتحدّث عنه هو تطوير المهارات الإنتاجيّة عند الطالب، أي مهارَتي الكتابة والتحدّث. هذه المهارات الإنتاجيّة هي للأسف، آخر ما يتمّ تعليمه للطلبة. فتعليم العربية بمعظمه، حتّى الآن، يقتصر على تعليم اللغة عن طريق مهارات الإملاء والقواعد والنسخ واستراتيجيّات الحفظ والتلقين. وهذه كلّها خصائص "الكُتّاب". أحيانا أشعر أنّ تطوّرنا بعيدًا عن الكُتّاب اقتصر على استبدال اللوح القديم باللوح الذكيّ، لكنّ الطرائق ما زالت هي نفسها: فنحن لم نتساءل مثلًا عن الإملاء، ولم نقيّم استراتيجيّة تدريس الإملاء بعلاقتهِا المُباشرة بتحسين الكتابة عند الطلبة، ولم نتساءل كيف يُمكننا تطوير عمليّة الكتابة ككلّ والإملاء ضمنها.
لا شكّ في أنّنا شهدنا في الآونة الأخيرة زيادة في كمّيّة الأبحاث ونوعيّتها في استراتيجيّات تعليم العربيّة. لكنّ هذه الأبحاث ما زالت محدودة وقليلة، وهي بعيدة لا تصل إلى المعلّم/ المعلّمة. وهُنا أعود إلى التأكيد على علاقة الشراكة بين الباحثين والمعلّمين، وإشراك المعلّمين إشراكًا فاعلًا في تصميم المناهج، وتجريب هذه المناهج في مدارس مُختلفة قبل اعتمادها؛ فلا يُمكن أن نعتمد منهاجًا واحدًا لكلّ المدارس بكلّ سياقاتها المُختلفة.
وللتوضيح، فإنّ مهارات العربيّة تحتاج كلّها إلى تطوير، ولكنّ الوقت المخصّص لتعليم العربيّة، في معظمه، يُصرف على مهارات القراءة الصوتيّة وقراءة الفهم، لذلك أدعو إلى الاهتمام بالقدر نفسه بالمهارات الإنتاجيّة. وتدريس هذه المهارات يحتاج إلى تجديد يستند إلى أبحاث، تقوم على شراكة مع المعلّمين والمعلّمات والتطبيق داخل الغرفة الصفّيّة.
-
- هذا التناقض الموجود بين التجديد والأصالة، من يحسمه؟
تاريخيًّا، التغيير الناجح في قطاع التربية والتعليم يبدأ على مستوى السياسات وصُنّاع القرار. هذه فنلندا وتقدّمها التربوي نموذجًا، التغيير أتى من الدولة ووصل إلى المعلّم، وهذه إيطاليا، وتحديدًا منهج ريدجيو إيميليا، الذي ارتبط بقرار على مستوى وضع سياسات تردم هوّة التعليم عند الأطفال بعد الحرب العالميّة الثانية. أمّا في عالمنا العربي، فلا يُمكننا الانتظار لأيّ جهود على مستوى الدول للتغيير لأسباب عديدة. لذلك علينا أن نعتمد على الإنجازات الفرديّة، فأنا مؤمنة بقدرة الفرد على التغيير.
-
- ولكنّ فنلندا وإيطاليا لا تتوزّع لغاتها على مساحة جغرافيّة واسعة كتلك التي تتوزّع عليها العربيّة، وهذه مشكلة تحتاج إلى خيط ناظم للمُحاولات الفرديّة.
سأنطلق من فكرة أنّ المدارس جميعها تُعلّم اللغة العربيّة الفُصحى، من دون أن أنفي أنّ لكلّ دولة سياقها. المشكلة التي تواجهها الدول العربيّة في تعليم العربيّة تظهر كأنّها واحدة، ولكنّها ليست كذلك، فلكلّ دولة سياق. ومع ذلك، ثمّة إمكانيّات تعاون كبيرة على مستوى المبادرات الفرديّة.
-
- بتقديرك، هل العلاقة بين الفصحى والعامّيّة علاقة تضارب؟
أبدًا، ليس هُناك تضارب. وكلّ مفهوم الفصحى والعامّيّة يخضع للبحث: هل هما لغتان؟ أم هي لغة واحدة متدرّجة؟ لأنّ هناك عامّيّات مُختلفة: عامّيّة المثقف، وعامّيّة غير المتعلّم، وعامّيّات تُدخل الكثير من اللغات الأجنبيّة. وفيما يبدو الحديث عن الفصحى والعامّيّة تحدّثًا عن لغتين، أرى أنّنا نتحدّث عن طيف من الأنواع.
2. صورة المتعلّم وصورة التعليم
-
- كيف نعرّف متعلّم اللغة العربيّة اليوم؟
أنا لا أفرّق بين متعلّم العربيّة وأيّ متعلّم لأيّ لغة؛ فهو متعلّم لُغة، ويمتلك المهارات الدماغيّة نفسها لاكتساب اللغات. إلّا أنّ متعلّم العربيّة يدخل إلى المدرسة بمخزون لغويّ بسيط جدًّا، يجعل تعلّمه للّغة العربيّة الفصحى يبدو وكأنّه تعلّم للغة ثانية. وسواء كان المتعلّم من ذوي الدخل العالي أو المحدود، فإنّه في الحالتين لا يكتسب اللغة الأمّ في البيت في مرحلة ما قبل الدخول إلى المدرسة. ففي العالم العربيّ. كلّما ارتفع الدخل زاد التحدّث في البيت باللغات الأجنبيّة، وكلّما قلّ الدخل كثُر التحدّث بعامّيّة حياتيّة، وقلّ التعرّض للّغة الفصحى، إذ لا تبدو عادة قراءة قصص عربيّة للأطفال قبل النوم، من عادات مجتمعاتنا العربيّة. معظم الأهل الذين يقرؤون لأولادهم قبل النوم، يفضّلون قراءة قصص بلغات أجنبيّة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى دور المدارس الخاصّة التي أسهمت في انتشار ثقافة اكتساب لغة أجنبيّة في مرحلة ما قبل المدرسة، إذ إنّ التسجيل في معظمها منوط بالحديث باللغة الأجنبيّة، مع العلم أنّ الطفل عربيّ.
بالخلاصة، متعلّم العربيّة في المدرسة متعلّم يتّصف بأنّه ابن اللغة وابن التراث، لأنّه حصيلة تراث هذه اللغة وثقافتها، وليس متعلّما للّغة العربيّة "لغةً أُمًّا" على اختلاف شرائح المجتمع التي يأتي منها.
-
- في هذه الصورة الضبابيّة للمتعلّم بعلاقته مع اللغة، كيف تؤثّر هذه الصورة في مقاربات تعليمه والممارسات؟
أنا لا أرى هذه الصورة ضبابيّة، إنّما أراها بمثابة تحدٍّ وفرصة. علينا أوّلًا أن نعترف أنّ هذا هو الواقع، وعلينا، بالتالي، أن نكتب منهاجًا مُناسبًا لهذا الواقع، يأخذ بعين الاعتبار السياقات الاجتماعيّة الاقتصاديّة للطلبة، والتغييرات الحاصلة ضمن سياق الأسرة، وذلك لأصل إلى الطالب، وأبني لهُ لغته. ومن هُنا، على لغتي ومنهاجي أن يكونا مطابقين لصفات الطالب الذي أُعلّم، لا أن تكون توقّعاتي في المنهاج مناسبة لأحلام واضعيها، وصورهم الذهنيّة لمتعلّم ما غير موجود في الحقيقة.
هُناك إحباط بين المعلّمين يرجع إلى كون المناهج غير مرتبطة بالواقع، وبالتالي فإنّ تحقيق أهداف هذه المناهج أمر مستحيل. ونتيجةً لهذا الضغط، يعودُ المعلّم إلى استراتيجيّات تعليم قديمة، أو يسارع إلى استيراد أفكار تجديديّة غير ملائمة للسياق العربيّ؛ فمثلا دخل في المناهج العربيّة في الآونة الأخيرة، معيار السرعة في قراءة الكلمات في الدقيقة الواحدة، واعتبار قدرة المتعلّم على القراءة السريعة دليلًا على تطوّر قدرته على القراءة. هذا نموذج من الاستيراد والترجمة لمناهج وُضعت للغات أخرى. هي استراتيجيّة تصلح للّغة الإنجليزيّة، وقد أُخذت من مناهج تعليمها. ولكنّها لا تصلح للعربيّة التي هي لُغة تهجئة بالأساس؛ تقوم على التأكُّد من مخارج الحروف الصحيحة والوقف الصحيح، بغضّ النظر عن السّرعة.
-
- ما الفرق بين طفل اليوم وطفل الأمس حيث لم يكن الأهل يقرؤون أيضًا لأطفالهم؟
التراث العربيّ تراث شفهيّ. صحيح أنّ الأهل لم يكونوا يقرؤون لأطفالهم، ولكنّ الأحاديث العائليّة والسِّيَر كانت بمثابة قصص وحكايات شعبيّة طويلة، فيها حبكات ومفردات وجمل فصيحة وعامّيّات، وكانت تُعزّز قاموس الأطفال اللغويّ. أمّا طفل اليوم، فإنّه يتعرّض كثيرًا، مع الحركة التكنولوجيّة الكبيرة، إلى اللغة الإنجليزيّة.
وكما أشرت سابقًا، فإنّ ازدياد رغبة الأهل بتسجيل أولادهم في المدارس الخاصّة التي تضع شروطًا للتسجيل، أهمّها أن يعرف الطفل اللغة الإنجليزيّة لا العربيّة، فرض تغييرا كبيرا في ملامح طفل اليوم؛ فالأهل، ورغبة منهم في قبول أولادهم في هذه المدارس، يتحدّثون اللغة الأجنبيّة مع أولادهم في البيت. وأودّ إضافة عامل آخر، هو حركة الهجرة إلى الخارج منذ 30 سنة، وعودة الجيل الثاني إلى العالم العربيّ التي فرضت ملمحًا جديدًا من أطفال اليوم: طفل أهله لا يتقنون العربيّة لأنّهم وُلدوا أو كبروا في بلاد المهجر. لهؤلاء الأطفال جميعًا، اللغة العربيّة ستكون لُغة ثانية.
-
- ما العلاقة بين الأساليب والتوجّهات، وتعليم العربيّة لغةً أولى أو لغةً ثانية؟
تعليم العربيّة لغة أولى أو ثانية -كتعليم أيّ لغة من اللغات - يجب أن يقوم بالأساس على اكتساب مهارات إنتاجيّة واستجابيّة وتواصليّة. الفرق يكون فقط في التوقّعات، إذ بالنسبة إلى متعلّم العربيّة لغةً أولى، هو يدرس موادّ علميّة واجتماعيّة باللغة العربيّة، فينغمس في اللغة العربيّة مدة طويلة من يومه المدرسيّ. أمّا متعلّم العربيّة لغةً ثانية، فإنّه يتعرّض إليها في صفّ اللغة العربيّة فقط. من هنا، علينا أن ننتبه لتوقّعاتنا من المتعلّم في الحالتين، وعلينا التساؤل قبل وضع المنهاج: "هل نُدرّس اللغة أم عن اللغة؟" أي هل نُدرّسها هي كأداة، أم نُدرّس آدابها وتاريخها وحضارتها، وهُنالك فرق.
برأيي، إن كنّا نريد أن نُعيد إحياء اللغة العربيّة، فعلينا أن نُركّز على قدرة الطلّاب على التواصل بها. المحتوى مهمّ، ولكنّه يجب ألّا يكون مفصولا عن واقع الطالب، وأن يؤمّن فرصًا للمتعلّم ليتواصل باللغة العربيّة في سياقات حياتيّة مهمّة له.
3. أُفق المستقبل
-
- هُناك مشكلة في تعليم اللغة على مستوى العالم العربيّ، وهذا أمر واقع: من أين تبدئين الحلول، على مستوى المناهج أو المؤسّسات الرسميّة؟
على المستويين معًا: إعادة النظر بالتوقّعات، وصرف بعض الوقت لتحديد معالم المتعلّم قبل كتابة المنهاج، وتأمين شراكة بين المدارس والباحثين والجامعات ومدراء البرامج، لا أن تكون المدارس مفصولة تمامًا عن الجامعات.
-
- من أين نبدأ على مستوى المؤسّسات التعليميّة؟
أوّلًا علينا التفريق بين المؤسّسات التعليميّة، فهُناك مؤسّسات عليها أن تعطي اللغة العربيّة حقّها من حيث الحصص، والوقت، والموارد... والبعض الآخر عليها الاهتمام بمعلّمي اللغة العربيّة لأنّهم، ضمن سياقات بعض المؤسّسات، يكونون الأقلّ حظًّا من حيث الموارد الماليّة. وثمّة مؤسّسات أُخرى عليها فتح المجال أمام التطوير المهنيّ لمعلّمي اللغة العربيّة: تطوير مهنيّ متنوّع ومتمايز. وأن تنتبه إلى فروقات المعلّمين وحاجاتهم المختلفة من التطوير المهني. وعلينا أن ننتبه أيضًا لفكرة أنّ كلّ معلّم ناجح نحوّله إلى إداريّ، فمن سيبقى في الصفوف؟
لديّ أمل في بعض المدارس التي تضمّن استراتيجيّاتها أهمّيّة تعليم العربيّة، وتوفّر المصادر، والموارد الماليّة لذلك. هذه المدارس تستطيع أن تقود التغيير. وعندي أمل في المعلّمات والمعلّمين المُمتازين، علينا أن ننتبه لهم ونُؤمن لهم مساحة للابتكار والتجديد.
-
- من أين يبدأ المعلّم الحلول وهو تحت الضغط في رفع النتائج للإدارة، وأن تكون هذه النتائج جيّدة بالنسبة إلى الأهل. وفي المقابل هُناك مناهج تتطلّب الكثير ممّا هو غير واقعيّ؛ المعلّم الذي يريد أن يقدّم حلولًا تجديديّة على هذا الواقع، ماذا يُمكن أن يفعل؟
في الوقت الحاليّ، تأثير المعلّم محدود ويقتصر على ما يستطيع أن يقوم به داخل الصفّ. المعلّم الذي يريد أن يقدّم حلولًا تجديديّة نافعة، هو أمام واقع يحتّم عليه أن يصنع تغييرًا في التعليم داخل الصفّ. هذا المعلم لا يستسلم، ويحاول التغيير رغم المنهاج ذي التوقّعات العاليّة، وقلة الموارد والنصوص المفصولة عن الواقع.
المعلّم الذي يستسلم للواقع عليه أن يواجه ضميره المهنيّ، ويتساءل حول وجوده في قطاع التعليم. هذا ينطبق على معلّم أيّ مادّة، ولكن أخصّ معلّم العربيّة لأنّ اعتمادنا في تطوير تدريس هذه المادّة يقع على عاتق الفرد، فلا يوجد ما يساعدنا أبدًا: بدءًا من قلّة المصادر والموارد والمراجع، وأقصد هُنا قلّة الأنشطة المتوفّرة والكتب والأدوات والموادّ المُساعدة في تعليم اللغة العربيّة؛ وانتهاء بغياب سياسات تقود التغيير من الأعلى. للأسف، اعتمادنا الآن هو على الفرد، والضغط يقع على معلّمي العربيّة ومعلّماتها. فهم أملنا الوحيد حاليا لتأمين فرصة ناجحة لأبنائنا ليتعلّموا اللغة العربيّة.
-
- هل من دور على الطلبة أو على الأهل/ المجتمع في هذا المجال؟
باعتقادي لا دور على الطلبة، وما يجرّهم إلى هذا النقاش هو سياسة اللوم. فنحن - وأمام إحباطنا من قدرتنا على تعليمهم العربيّة - ننزع إلى لومهم. وهذا بالنسبة إليّ أمر مرفوض تمامًا.
أمّا الأهل، فليس أمامي سوى أن أقدّم بعض التوصيات والنصائح إليهم، كأن يبيّنوا لأبنائهم أهمّيّة اللغة العربيّة، وأن يتواصلوا معهم باللغة العربيّة، ويقرؤوا لهم القصص. لكنّ هذه كلّها توصيات لا سلطة لنا على تحقيقها، لذا أعود لأقول إنّ الثقل الأكبر هو على المعلّم الذي عليه أن يبتكر في ظلّ الظروف والسياق الذي يعيش فيه، بطبيعة الحال، أبقى مع تقديم المساندة إليه، وإعطائه الحرّيّة للابتكار، وتأمين الموارد له.
-
- هل تجدين لمنهجيّات دورًا وإسهامًا في طرح حلول أو صور مختلفة من المتعلّمين والمعلّمين والأساليب؟ وماذا يمكن لنا أن نفعل أكثر؟ وعلى أيّ مستوى؟
منهجيّات مساحة ممتازة للمعلّمات والمعلّمين للكتابة ومشاركة أفكارهم وتجاربهم. وفي متابعتي للمجلّة، أرى نصوصًا تحمل استراتيجيّات جديدة. النقطة التي أودّ التركيز عليها هي تشجيع معلّمات اللغة العربيّة ومعلّميها على المُشاركة أكثر، ليُسمع صوتهم. وأيضًا هُناك فرصة لقسم المصادر، عبر إثرائه بمصادر ومراجع للغة العربيّة، على مستوى طرائق التعليم والاستراتيجيّات، إلى جانب إنتاج مصادر جديدة من المعلّمين إلى المعلّمين.