- أستاذة علم الاجتماع ودراسات الجندر.
- حاصلة على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برلين الحرّة.
- أستاذة مشاركة في علم الاجتماع ودراسات الجندر في كلية القدّيس اولاف للآداب والفنون الحرّة في مينيسوتا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
-
- فلنبدأ بفهمك للفرق بين التعليم والتعلّم، كيف تقاربين المفهومين؟
يختلف التعليم عن التعلّم من حيث المفهوم؛ فالتعلّم هو رحلة حياة، وخبرات، ومعارف، ومهارات تتشكّل مع الإنسان طيلة حياته، إذ هي مجمل خبراته، وإحساسه، وتذوّقه، وتأمّله في نفسه، وفي الطبيعة، وفي العالم الذي أنشأه. والتعلّم يرى الإنسان جزءًا غير منفصل من بنية المعرفة وهيئتها وغايتها، المعرفة التي هي هدف التعلّم. التعلّم قد كان دائمًا منهج الإنسان، ووسيلته من أجل البقاء. الغاية من المعرفة إذًا هي مساعدة الإنسان على اجتياز الامتحان الأصعب، وهو البقاء، والاجتماع الإنسانيّ، وكلاهما مرتبطان، لأنّ الإنسان كائن اجتماعيّ. وعلى هذا الأساس تتولّاه مؤسّسات اجتماعيّة مختلفة (الأسرة، المسجد، الكنيسة، جماعات الأصدقاء، الإعلام، الأدب، الاحتفالات والشعائر الاجتماعيّة والدينيّة)، والتعلّم يستمرّ طيلة حياة الإنسان بشكل مقصود أو غير مقصود.
إنّه سلوك اجتماعيّ؛ فكيف نتعلّم، وممّن، وماذا نتعلّم، كلّها أمور كثيرًا ما تكون محدّدةً مجتمعيًّا، مع أنّ التعلّم قد يكون أيضًا ذاتيًّا. إذ ثمّة بعض من الحقيقة في ما حاول ابن طفيل تقديمه من خلال شخصيّة حيّ بن يقظان، الشخص الذي علّم ذاته بذاته دون تواصل بشريّ، ولا مجتمع إنسانيّ، ووصل إلى النتائج ذاتها (إن لم يكن أعمق) من معرفة أسرار الكون والوجود، مقابل من تعلّم عنها من كتب أو أشخاص، أي معلّمين. الطريف هنا أنّ مصادر المعرفة الإنسانيّة تاريخيًّا _مثل جلجامش أو المعرفة اليونانيّة الكلاسيكيّة_ كانت كائنات فوق بشريّة، أمّا الوسيلة فقد كانت الشعر. المعلّم كان شاعرًا على اتّصال مع العالم الميتافزيقيّ.
التعليم فكرة وممارسة مختلفة، فهو منظَّم أكثر، هيكليّ، مرتبط بالبنى والهياكل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للمجتمع أكثر من كونه ذاتيًّا. التعليم مقصود ممنهج، يقتصر على مراحل محدّدة من حياة الفرد، ويكون متخصّصًا، ويحصل في مؤسّسات متخصّصة في التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات. التعليم يقاس بمقاييس للمعرفة المتحصّلة التي تمنح المتعلّم رخصةً من نوع ما (درجةً، صفّ... إلخ).
يرتبط التعليم ارتباطًا وثيقًا مع "العلم" والمنهج العلميّ، فهو بهذه الحالة حديث نسبيًّا مقارنةً بتاريخيّة التعلّم، إذ إنّ التعلّم قديم قدم أوّل البشر، وهو تراكميّ. أمّا التعليم فيركّز على نوع متخصّص من المعرفة هي المعرفة المتحقّقة بتطبيق منهج علميّ واضح محدّد. في التعلّم المسألة مختلفة، إذ تتعدّد مصادر المعرفة، ووسائل الوصول إليها، ويختلف تعريف الحقيقة.
التعليم مبنيّ على أساس أنّ العلم ينظر إلى العالم على أنّه موجود بصورة منفصلة عن خبرات الإنسان، وتجاربه، وإحساسه، وتأثيره، وأنّه قابل للدراسة من قبل الإنسان. يخلق هذا المعتقد وهمًا لدى المتعلّم بأنّ التعليم دون أجندة، ولا تشوبه مصلحة، أي أنّه موضوعيّ علميّ. هذه سذاجة، فلكلّ معرفة غاية. وعليه، تختلف أجندة التعلّم عن تلك الخاصّة بالتعليم، ولعلّ أجندة التعليم تطويع الطبيعة لغايات سياسيّة، أو اقتصاديّة، أو حتّى اجتماعيّة، بينما أرى أنّ أجندة التعلّم هي خلق عالم أكثر عدالةً، يعترف بقدرة الإنسان على تطويع الطبيعة، لكنّه يجعل تطويع الطبيعة والإنسان خدمةً لهدف أسمى، هو العدالة والاستدامة التي تبتعد بالضرورة عن مركزيّة الإنسان وتفوّقه مقابل الأطراف الأخرى المكوّنة للكون، كالأرض، والنبات، والحيوان، حتّى الإنسان "الآخر" الذي عرّفه العلم والفلسفة الغربيّان بكونه "آخر" حين جرى نقاش ماهيّة الإنسان "والكينونة"، مثل هايدغر في نقاشه حول الكينونة والوجود، وديكارت في منهج الشكّ، الذي حصر أحقّيّة الكينونة في الإنسان، ومنع منها كلّ شكل آخر للوجود. التعلّم يوسّع فهم الكينونة بشكل يتجاوز الإنسان.
في تراث السكّان الأصليّين في أمريكا الشماليّة مثلًا ثمّة فهم للكينونة والوجود لا يقتصر على البشر، فالأرض كائن Being، وكذلك الأشجار، والأنهار... إلخ. لنتخيّل انعكاسات معرفة مبنيّة على حقيقة (معتقد) من هذا النوع: لن يكون بإمكان أحد أن يعلن ملكيّته لأرض، فلها مثله حقّ الوجود، وإنّ أحدًا لن يستطيع استغلال الموارد الطبيعيّة إلى حدّ تهديد وجودها، أو زواله. أيّ عالم كان من الممكن أن ينشأ لو سادت هذه الفكرة على علاقة البشر بكلّ شيء؟
التعليم المبنيّ على العلم يعزّز فكرة تفوّق الإنسان، وأحقّيّته في الوجود فوق كلّ شيء، وعلى حساب كلّ شيء.
-
- تأسيسًا على هذا، ما أهمّ إشكاليّات التعليم عربيًّا اليوم من وجهة نظرك حسب خبرتك؟
واحد من أهمّ التحدّيات هو توغّل النزعة النيو-ليبراليّة التي غيّرت من شكل المؤسّسات التعليميّة، ومن مضمونها، ومناهجها. التعليم تحوّل من حقّ إنسانيّ في تكوين معرفة عن العالم، والنفس، ليكون سلعةً تتفاوت جودتها بناءً على القدرة الشرائيّة؛ إن توفّرت لديك قدرة على شراء تعليم ذي جودة، اشتريته. أمّا إن كانت قدراتك محدودةً، فالتعليم الذي تستطيع شراءه محدود متواضع.
أفهم النيو-ليبراليّة على أنّها المرحلة الحاليّة للرأسماليّة، وهذا المفهوم يصف مجموعة الحزم والبرامج التي تتبنّاها الدول لتحرير السوق، ويصف حالة هيمنة الفرديّة، وتقلّص دور الدولة. وهي أيضًا خطاب معياريّ، استنادًا لفكرة ميشيل فوكو، بمعنى أنّ التعليم أصبح مقلّصًا لدرجة أنّ مهمّته الأساسيّة باتت رفد السوق الرأسماليّ بـ"أجساد طيّعة"، مطلوب منها فقط التكيّف مع أوضاع السوق المتغيّرة باستمرار.
لم تعدّ مهمّة التعليم الرقيّ بإنسانيّة الإنسان، وتحويل المجتمعات لمجتمعات أكثر عدالةً، بما في ذلك تغيير التنظيم الاقتصاديّ. بل أصبح هدف المؤسّسات التعليميّة إنتاج أجساد طيّعة متكيّفةً مع حاجات السوق، وغير قادرة إطلاقًا على تغيير هذا الواقع، غير قادرة على التغيير الاقتصاديّ، ولا السياسيّ، ولا الاجتماعيّ.
وهذا يعني أنّ "مشكلات التعليم" صارت مشكلات السوق، فالسوق يحدّد ماذا نحتاج من تخصّصات وخبرات، ويتغيّر التعليم لحلّ مشكلات سوق العمل، ورفده بما يحتاج مع تحييد كامل للمهمّة الإنسانيّة الأسمى للتعليم. بإمكان المؤسّسات التعليميّة توجيه طاقاتها نحو التعلّم، وترك التعليم الذي يختزل إنسانيّة البشر، ويمثّل بارتباطه بأجندة السوق تهديدًا للوجود.
-
- لأيّ درجة جرى إغفال القيم في التعليم؟ وكيف أثّر ذلك في المجتمع من جوانبه المختلفة؟
القيمة الأساسيّة للنموذج النيو-ليبراليّ في التعليم هي قيمة الفرد. أصبح الفرد محور اهتمامك الشخصيّ، ومحور اهتمام النموذج التعليميّ، ولم تعد قيم العدالة أو الاستدامة قيمًا أساسيّةً، فهي ليست ضمن سلّم الأولويّات لدى للفرد. الفقر والبطالة لم يعودا مشكلات اجتماعيّةً ذات مسؤوليّة مشتركةً، بل أصبح الفقر والبطالة والصحّة والمرض نتائجَ خياراتٍ اقتصاديّة سيّئة أخذها أفراد. في هذا النموذج، يُطلب من الفرد التكيّف مع الاقتصاد الموجود، وتحسين وضعه وكفاءاته بناءً على حاجات السوق ومنطقه، ومن هنا صار الفقر والبطالة مسؤوليّة الفرد الذي يعاني منها، لا مسؤوليّة المجتمع أو الدولة.
وهنا يظهر التغيّر الجذريّ المتمثّل في نقل مسؤوليّة مشكلات كبرى في المجتمع عن كاهل المجتمع والدولة، وتحميلها للأفراد؛ فالفقر مسؤوليّة الفقير وحده، مع تجاهل كامل لوجود نظام اقتصاديّ ينتج تفاوتًا طبقيًّا بين فقراء وأغنياء.
-
- هل هذا يعني أنّه لم يعد للمدرسة دور في التغيير المجتمعيّ؟
من الصعب للمدرسة لعب أيّ دور في التغيير المجتمعيّ ضمن الإطار/النموذج الفكريّ (Paradigm) الموجود حاليًّا الذي يُصَبّ فيه التركيز على تحضير أولادنا لمهن وتخصّصات يحتاجها سوق العمل في المستقبل، إذ إنّ هذا يعني أنّنا نسلّمهم لاقتصاد رأسماليّ طبقيّ غير عادل، دون تمكينهم من إحداث التغيير المطلوب، فيتحوّل هذا الواقع إلى مصير إنسانيّ لا مفرّ منه، وعلى الإنسان التكيّف معه.
على المدرسة أن تستعيد استقلاليّتها عن الاقتصاد والسياسة، وأن تتبنّى الهدف الأساس الذي وجدت من أجله، وهو بناء معرفة تحقّق عدالةً، واستدامةً، ورفاهًا إنسانيًّا، حتّى لو تطلب ذلك تخريج أجيال غاضبة، أو ثائرة على الوضع القائم.
-
- هل هذا يعني أنّ دور المدرسة القيميّ اختفى تمامًا، وحلّ محلّه دور جديد؟
نعم، اختفى دور المدرسة، والجامعة أيضًا، فلم تعد حاضنةً توفّر للأجيال المستقبليّة فرصةً للمعرفة دون حدود ولا مسلّمات، فرصةً لمحاولة فهم الكون والعالم، أي "أن نعرف" انطلاقًا من كون هذا حقًّا إنسانيًّا. ما تبدّل _تحديدًا في العقود الأخيرة_ هو التوجّه نحو تلبية حاجات السوق ورغباته؛ فالمدرسة أصبحت مجرّد مصنع لإنتاج عمّال، ومهندسين، ومهنيّين، وفقدت الدور التغييريّ المجتمعيّ العامّ، وأصبحت مجرّد منتجة لخدمة هذا القطاع المحدود الذي بات كما لو أنّه القطاع الوحيد في المجتمع. وفي هذا تغييب كامل لدور المدرسة الإصلاحيّ التغييريّ المجتمعيّ، واختزال لها في دور تلبية احتياجات السوق.
هذا يعني تقييد الحرّيّة في المعرفة، وتحديد الأسئلة التي يمكن أن تُطرح. فالبحث العلميّ موجّه فقط لخدمة السوق، وهذا يحدّد حرّيّة المعرفة.
-
- هل يعني هذا أنّ المدرسة تعيد إنتاج الواقع بدل أن تضطلع بدور في تغييره؟
نعم، هذا ما حدث حين حوّلنا التعليم سلعةً، وحدّدنا جودته بقدرة الفرد على الاستهلاك، وحين فرّقنا بين التخصّصات، فعددنا بعضها تخصّصات راكدةً، أو مشبعةً لا نشجّع الطلّاب على دراستها. هذه التخصّصات هي الفلسفة، والأدب، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والعلوم السياسيّة... إلخ. هذه التخصّصات مطلوبة كلّها للتغيير المجتمعيّ. ينصبّ الآن التركيز على التخصّصات التقنيّة، والهندسيّة، والتطبيقيّة (STEM)، إذ نعدّ هذه الأخيرة الحلّ لمشكلات الاقتصاد الصعبة، والبطالة، والفقر، لا سيّما بين الشباب المتعلّم.
الأزمة المتعلّقة ببطالة المتعلّمين لا يمكن حلّها حلًّا مبنيًّا على سوق متغيّرة باستمرار. الأزمة الحاليّة لنسب البطالة المرتفعة _لنأخذ الأردنّ على سبيل المثال_ تضعنا أمام فرصة مهمّة لنعيد التفكير بالتعليم ككلّ؛ لأنّه لا يمكن تخريج مهندس لا يفكّر، ولا يَعدُّ الأسئلة الفلسفيّة الوجوديّة مهمّةً، أو تخريج تقنيّ لا يدرك أبعاد التكنولوجيا، مثل أثرها في البشر والمجتمعات. عند تقليص الاهتمام بالمجالات الإنسانيّة لصالح المجالات التقنيّة، فنحن نخلق أجسادًا طيّعةً غير قادرة على التغيير، قادرةً فقط على التكيّف مع الوضع القائم.
كان ضمن منظّري النيو-ليبراليّة من يفرّق بين التعليم والتعلّم، وتحاجج هذه الجماعة بأنّ التعلّم مسؤوليّة ذاتيّة، لا ينبغي أن يقف عند حدود التعليم المدرسيّ أو الجامعيّ. غالبًا ما يستخدم مفهوم إعادة تأهيل الذات Agility، ومفهوم إعادة تأهيل المهارات Reskilling، لتحويل مشكلة البطالة من مشكلة هيكليّة مرتبطة بطبيعة الاقتصاد، لتصبح مشكلة فرديّة تقع مسؤوليّة حلّها حصرًا على عاتق الباحث عن العمل، الذي ينبغي أن يُطوّر من مهاراته باستمرار لمواكبة احتياجات السوق المتغيّرة باستمرار.
-
- هذا يأخذنا للحديث عن التعليم التحرّريّ، بوصفه مقابلًا لهذا الواقع. كيف تعرّفينه في العالم العربيّ تحديدًا؟
عربيًّا، بالإضافة إلى التغوّل النيو-ليبراليّ الذي ناقشناه، ثمّة أيضًا مشكلة استقلاليّة التعليم ومؤسّساته؛ إذ تسود غالبًا في المنطقة نزعة أمنيّة في النظر إلى التعليم، إلى جانب نزعة اجتماعيّة محافظة، تحمل طابعًا شعبويًّا من وجهة نظر سياسيّة. من هنا، ثمّة مجموعة من المحرّمات السياسيّة والاجتماعيّة التي لا تستطيع المدرسة والجامعة تجاوزها، ما يعني أنّ كثيرًا من الأسئلة تغدو ممنوعةً. لذلك، فالتعليم التحريريّ لا يمكن ألّا يكون تحرير التعليم من الدولة العربيّة التسلّطيّة التي تتعامل مع التفكير، والعلم، والبحث بعقليّة أمنيّة تشجّع الحظر، والخوف، ونشر دوغما سياسيّة داعمة للوضع القائم. كذلك أيضًا، تحرير التعليم بوصفه مساحةً من تأثير التيّارات الاجتماعيّة المحافظة سواءً أكانت قبليّةً أم دينيّةً أم عشائريّةً، إذ هي تمارس ثقافة الإلغاء، وتضع خطوطًا حمرًا أمام تفكيرنا، وعلى نوع الأسئلة التي نستطيع طرحها، ونوع المعرفة التي ننتجها، وذلك انطلاقًا من أهداف سياسيّة خاصّة بهذه التيّارات.
كي يكون التعليم متحرّرًا عربيًّا، يجب أن يتحرّر من السوق، والدولة التسلّطيّة، والتيّارات المحافظة المسيّسة، والشعبويّة.
حتّى نحوّل الجامعة أو المدرسة لمنطقة تعليم تحرّريّ، يجب تشجيع التفكير النقديّ بوصفه مهارةً، وقدرةً للعقل على تمييز الحقيقة من الخرافة، وهذا الأمر لا بدّ أن يكون في وجه منهجيّات تعليم قائمة على التلقين والمحاضرة التي تفرض تراتبيّةً بين الأستاذ والطالب، حيث يكون الطالب مستقبلًا لمعرفة تتحرّك باتّجاه واحد. التفكير النقديّ يعني أيضًا القدرة على صياغة أسئلة، والتفكير داخل الموضوع قيد البحث وخارجه. هذا المنهج أصيل في تاريخنا، وثقافتنا العربيّة والإسلاميّة؛ فهو المنهج الذي اختطّه ابن سينا، وتبعه ابن رشد، فالعقلانيّة عند ابن رشد أصل الوجود، وأصل ممارسة الدين.
من المهمّ أيضًا في النموذج التعليميّ التحرّريّ التركيز على النظريّة والممارسة، أي المعرفة بهدف التغيير؛ فلا بدّ من المزاوجة بين القدرة على فهم الظاهرة، والتنظير بخصوصها من جهة، وتطوير القدرة على الفعل حيالها، وبناء مهارات تغيير العالم من جهة أخرى، هكذا حتّى الوصول إلى هدف التعليم الأساسيّ، وهو الوصول لمجتمعات أكثر عدالةً.
-
- حسب الذي تطرحين فإن لم يكن لدينا تعليم تحرّريّ، لن يكون لدينا إنسان حرّ، وإن لم يوجد الإنسان الحرّ، لن ننتج تعليمًا تحرّريًّا. كيف يمكن كسر هذه الحلقة؟
برأيي، حتّى نتخلّص عربيًّا من هذه الإشكاليّة، صار لزامًا الابتعاد عن الأطر الموجودة من مدارس وجامعات، والبدء من مساحات بعيدة مختلفة تمامًا، من مساحات أهليّة مستقلّة، إلى حين تحرّر الدولة العربيّة بالكامل من إرث الاستعمار القديم والمستحدث، لأنّه ضمن هذه المساحات يمكن الدفع بالحرّيّة إلى حدود أوسع، خاصّةً حين تتوفّر منظومة قيميّة في هذه المساحات هي ضروريّة للتعليم التحرّريّ. ويمكن تسمية هذه المساحات بالفضاء الثالث، بعيدًا عن الفضاءين الأوّل والثاني، أي العائلة والدولة.
هذا الفضاء الثالث يمكن أن يخلق مساحات حرّيّة من الممكن التوسّع فيها، وخلق الفرق الذي نسعى له. لست متفائلةً بتغيير راديكاليّ يخرج من المؤسّسات التعليميّة، بل أراه آتيًا من مكان آخر.
-
- مؤسّسات المجتمع المدنيّ في منطقتنا ارتبطت إلى حدّ بعيد بالتمويل الأجنبيّ وغاياته، فكيف يمكنها، وهي رهينة هذا الواقع، خلق تغيير على هذا المستوى؟
نعم لمؤسّسات المجتمع المدنيّ مشكلاتها، من تمويل وأجندة، وكذلك دورها في إزاحة العبء عن الدولة في قضايا عديدة، وتصويرها كأنّها ممّا يقع على كاهل المجتمع ومبادراته، ما سهّل عمليّة الانتقال نحو النموذج النيو-ليبراليّ. كلّ هذه المشاكل حقيقة، لكنّها لا تنفي قيمة هذه المساحة بوصفها مساحةً مستقلّةً كما أرى.
فلننظر إلى التغيير عربيًّا مؤخّرًا، نجد أنّ التغيير يأتي دائمًا من المجتمع المدنيّ، لا من الدولة، ولا من المؤسّسات التعليميّة. يمكن الجدل كثيرًا حول هذا التغيير، ولكن لا يمكن إنكار أنّ المجتمع المدنيّ كان الفاعل الرئيس فيه، أو المساحة الرئيسة للتغيير. في المجتمع المدنيّ ثمّة منظومة قيميّة حقوقيّة أساسيّة، على أساسها نستطيع بناء التغيير المطلوب. ثمّة جيل جديد من مؤسّسات المجتمع المدنيّ، الجيل الشابّ الجديد، وهو أقلّ ارتباطًا بالتمويل، أو رافض للتمويل المشروط، وهو على محدوديّته موجود. في الأردنّ مبادرة اسمها "أهل"، لديها اشتراطات على التمويل الأمريكيّ لارتباطه سياسيًّا بالاحتلال "الإسرائيليّ". هذا نموذج لديه وعي، وقدرة على التغيير في مفاهيم المجتمع المدنيّ، وممارساته، وإعادة تعريف هذه المساحة المدنيّة، ونقلها إلى وضعيّة مختلفة. مبادرة "تنوير" مثلًا، مدرسة لها تاريخ طويل في الأردنّ تتطوّر لتصير جامعةً بمجموعة من القيم الأساسيّة، التي من أهمّ مرتكزاتها التعليم العربيّ التحرّريّ، وهذه مبادرة أراها مرتبطةً بهذا الإطار الجديد، وإن كانت لم تحسم مسألة استقلاليّتها بعد.
-
- يوجد مؤسّسات تعليميّة خاصّة غير ربحيّة برسالة مختلفة عن التعليم الرسميّ. هل ترين فيها أملًا أو دورًا في تغيير المجتمع والتعليم؟
نعم، ثمّة قطاع خاصّ تعليميّ غير ربحيّ أراه ضمن المبادرات الأهليّة، وأرى فيها أملًا، ويمكن إعادة إنتاج هذه المؤسّسات التعليميّة غير الربحيّة وفق هذه القيم لتشكّل مساحةً للتغيير، بينما المؤسّسات التعليميّة الرسميّة يبدو تغييرها لي صعبًا جدًّا؛ فقد استقرّت فيها أنماط تعبّر عن السلطة وبنيتها من تراتبيّة، ومناهج، وأساليب، وأدوات. لذلك، فالتغيير الممكن الذي أراه يأتي من خارجها، وليس من خلالها. تبقى فقط مشكلة القدرة على تحمّل تكاليف هذا النوع من التعليم، إذ إنّ "غير الربحيّ" لا يعني أنّه تعليم مجانيّ من غير مقابل.
-
- لديك اشتغال طويل في دراسات الجندر والقيادة في التعليم. هل من علاقة بين هذا الجانب في اشتغالك المعرفيّ والتعليم التحرّريّ؟
درست مجموعةً من المساقات التي تعرّضت للفلسفة، والحَراك النسويّ، واندهشت كثيرًا من وجود اهتمام بهذا الموضوع من طرف شبّان عرب، ومنظّمات مجتمع مدنيّ عربيّة. المنهج الذي اتّبعته مبنيّ بالأساس على فكرة تحرّريّة، تعتمد على تغيير السرديّة السائدة عربيًّا، وفي العالم عن "ما هي النِسويّة؟". فعندما تُعرَّف النسويّة عربيًّا، تُطرَح كأنّها منتج غربيّ لا يناسب ثقافتنا، وتُصوَّر على أنّها فكر نساء كارهات لأنفسهنّ وللرجال، أو نساء غاضبات. في الغرب أيضًا ينظر إلى النسويّة وفق منظور محدّد. لذلك، رأيت أنّه من اللازم إعادة ترتيب هذه السرديّة، وتصحيح الصورة الخاطئة.
اتّصفت النساء عبر العصور بالحساسيّة البالغة للظلم، وقد رفضن التمييز الممارس ضدّهنّ. هذا الرفض ليس اختراعًا غربيًّا، وليس محصورًا بالقرن التاسع عشر؛ ثمّة نماذج عديدة لرفض التمييز ضدّ المرأة، واضطهادها عبر التاريخ، وتحديدًا التاريخ العربيّ والإسلاميّ. من هنا، النسويّة ليست فكرةً غربيّةً، ولا جاءتنا من الغرب. كان لدينا الكثير من الكاتبات والمثقّفات اللاتي طوّرن خطابًا نسويًّا عربيًّا أصيلًا اشتبك مع كلّ هذه القضايا. ممّا أردّ عليه مثلًا، عَدُّ قاسم أمين مؤسّسًا للنسويّة العربيّة، وأتصدّى لنقد لغته الفوقيّة، ومقاربته التي تماهت مع مقاربة المستعمر، وإثبات زيف الادّعاء بأنّه هو "أبو النسويّة العربيّة"، وصولًا إلى تغيير سرديّة النسويّة وقصّتها؛ فهي ليست غربيّةَ المنبع، ولم تنشأ عربيًّا من خلال مفكّرين ومثقّفين رجال مع كلّ الاحترام لإنجازاتهم.
-
- تحرّر المرأة وتحرّر التعليم، ما العلاقة هنا؟
تحرّر المرأة يعني تحرّر المجتمع. الثقافة الأبويّة تفرض على الرجال أيضًا نموذجًا ذكوريًّا مهيمنًا. هذا النموذج ينتهك إنسانيّة الرجل، ويضعه في أدوار تحافظ على الوضع القائم، وتتناقض مع إنسانيّة الرجل.
تحرير المرأة شرط أساسيّ لتحرير الإنسان وفق فهمي. وبذلك، يصحّ بناء المعرفة المتّصلة بإنسانيّة المرأة والرجل، وهي عبارة عن محاولة جادّة لإعادة بناء الخصائص المرتبطة بالأنوثة والذكورة وفهمها، تلك التي تشكّل في إطار النظام الأبويّ أرضيّةً للتراتبيّة، وللتمييز في توزيع الحقوق والامتيازات بين النساء والرجال في المجتمع، ولتحرير تلك الخصائص من الجسد البيولوجيّ الطبيعيّ، أي إنّ الرجولة تصبح قيمةً، ومجموعة خصائص يمكن أن تتحلّى بها الأنثى، والأنوثة قيمة وخصائص يمكن أن يتحلّى بها الذكر. هكذا، فتحرّر المرأة يعني بالضرورة تحرّر الرجل أيضًا.
-
- ما هي أهمّيّة أن يكون لدى المعلّمة هذا الوعي؟
هذا هو التعليم التحرّريّ بالضبط؛ إذ ليس المفترض أن أدرّب المعلّمين والمعلّمات على إيصال المنهاج كما هو للطلّاب، أي أن يلقّنوه فقط، بل أن يكون ثمّة مساحة للتفكير النقديّ، والتعلّم التفاعليّ، وتوفير مساحة لتحرير المنهاج من أن يكون مصمّمًا جاهزًا، وأن يكون دور المعلّم توصيله للطلّاب، ويقتصر دور الطلّاب على تلقّيه. من هنا، تبدو أهمّيّة وجود مادّة مدخل إلى الفكر والفلسفة النسويّة بوصفها متطلّبًا جامعيًّا في جامعاتنا، بل وعلى المستوى المدرسيّ أيضًا.
-
- ما صورة المدرسة التحرّريّة كما ترينها؟ أو ما صورة المعلّم/ة في بيئة مدرسيّة تحرّريّة؟ ماذا يمكنك أن تقولي للمعلّم هنا؟
أوّلًا، تصوّري عن تحقيق التعلّم العربيّ التحرّريّ تصوّر شامل، أي إنّه يتضمّن وجوب انطلاقه من مواقع عدّة بالتزامن، وهذا يعني أنّه لا يمكننا البدء في مكان واحد، أو على مستوًى واحد دون المستويات الأخرى، مثلًا مستوى المعلّم، والمتعلّم، والمنهاج، والسياسة العامّة للتعليم، وبناء المعرفة في المجتمع ككلّ.
مشكلة التعليم حين يتحوّل لسلعة هي أنّ المتعلّم يصير مستهلِكًا يحدّد ماذا يستهلك حسب ذوقه، وتتحوّل المدرسة لمكان يوفّر سلعةً حسب ذوق المستهلك، وهذا نموذج ظالم للمتعلّم بوصفه إنسانًا. يجب أن يتعامل التعليم مع المتعلّم على أنّه إنسان له عقل، وروح، وتجربة حياتيّة.
ينطلق الأمر فيما يخصّ المعلّم من نظرته إلى الصفّ، إذ ليس الصفّ مجموعة عقول فارغة تنتظر أن أملأها، بل هو حالة تعلّميّة. على ذلك، إن لم تكن الموضوعات، والأطر، والمفاهيم متّصلةً بالحياة اليوميّة للطلّاب وخبراتهم، سيكون التعليم أحاديّ الجانب يقصي المتعلّم. على سبيل المثال، في دراستي الجامعيّة في علم الاجتماع كنت أشعر بأنّ المرأة مجرّد موضوع للدراسة، فلا يوجد من بين كلّ العلماء الذين ندرس إنتاجهم أيّة امرأة أنتجت معرفةً عامّةً متعلّقةً بهذا المجال. أدخلني هذا في حالة اغتراب تجاه هذا العلم. من هنا، فالتعليم الذي لا يأخذ خبرات المتعلّم، وتجاربه بعين الاعتبار يصير تعليمًا اغترابيًّا إقصائيًّا. على المعلّم المتبنّي للتصوّر التحرّريّ أن يسمح لخبرات الطالب وتجاربه ومعرفته بالظهور، والتفاعل داخل الغرفة الصفّيّة، حتّى لو كانت معرفةً مبنيّةً على خرافة، أو تمييز، أو أيّ رواسب مجتمعيّة، أو متأثّرةً بمحيط الطالب، يظلّ من المهمّ أن تظهر في الصفّ، ثمّ يتفاعل معها المعلّم، ويشتبك بطريقة تحترم قدرات الطلّاب على التفكير، ضمن توجّه تصحيحيّ، إن كان ثمّة ما يستدعي التصحيح.
هو صفّ مفتوح على خبرات المتعلّمين والمعلّمين وتجاربهم وآرائهم دون تراتبيّة، بل وإنّ دور المعلّم هو تيسير عمليّة التعليم والتعلّم وتسهيلها.
إنّ أكثر منهاج تحرّري في الدنيا لا قيمة له دون معلّم تحرّريّ في قيمه وأفكاره. لا يمكن تدريس قيم ديمقراطيّة في جوّ تسلّطيّ.
-
- أخبرينا عمّا يشغلك الآن؟
أعمل الآن على مشروع مساق الفلسفة والحَراك النِسويّ، وأعمل مع مشروع "تنوير"، كلّيّة الفنون الليبراليّة الحرّة، التي تقوم على نموذج معرفيّ يتبنّى غالبيّة القيم التي تحدّثنا عنها. وبصفتي أستاذةً جامعيّةً في سياق أميركيّ، أرى لي دورًا في بناء معرفة تدحض فكرة أنّ الغرب حالة فريدة أنتجت نفسها بنفسها، وخرجت كاستثناء حضاريّ من الظلام إلى التنوير. أحاول العمل على التذكير بأنّ المعرفة الإنسانيّة تراكميّة، وأنّها بُنيت من مساهمات كلّ جماعة إنسانيّة عاشت على الأرض.