"كلّ متوقّع آت، فتوقّع ما تتمنّى".
هل كان من المتوقّع أن يُلغى العام الدراسيّ لأبناء غزّة بسبب الحرب؟ وهل كان من المتوقّع أن تكون الحرب بهذه الضراوة، وبكلّ هذه القسوة؟
هل استحقّت غزّة كلّ هذا الكمّ من العذاب والتنكيل؟
لمَ لم يهبّ إخوتها لإنقاذها؟
والله لم نتوقّعها قطّ، ولكنّها أتت بما لا نحبّ.
أتت وباغتت، فكانت كالإعصار، ودمّرت، بل وحصدت الأخضر ولم تُبق اليابس. لم تميٌز كبيرًا ولا صغيرًا، أبادت الشجر، وفتّتت الحجر، وقتلت جُلّ البشر.
بين طيّات هذه الأحداث المؤلمة، والإبادة العرقيّة لغزّة، كان لا بدّ أن نلفت الانتباه للتعليم الذي هُمّش قسرًا، بسبب الأحداث في المنطقة، لقد فاق عدد الشهداء من فئة الطلّاب بعد السابع من أكتوبر 10,000 شهيد.
يا ترى ما مزيج المشاعر الذي يعتمل في نفوس الطلّاب الآن؟
وهل ما زال بعضهم يكرهون الذهاب إلى المدرسة، هربًا من الواجبات المنزليّة، والدراسة للامتحانات؟
هل اشتاق الطلّاب إلى الاستيقاظ مبكّرًا، والسير ذهابًا للمدرسة؟
السؤال الأهمّ:
كيف يبدو الأمر عندما تُصبح الغرفة الصفّيّة حجرةَ المعيشة للطالب الغزّيّ؟
وهل ما زالت المدرسة في ذهن الطالب خطًّا أحمر يجب أن يحافظ عليه، كما كان يفعل الطاقم التدريسيّ، من مدير المدرسة وصولًا إلى الآذن؟
كيف تبدو السبورة للطالب، وهي فارغة طوال اليوم من شروحات وكتابات المعلّم، والتي كان يتسارع لنقل محتوياتها قبل حضور معلّم الحصّة التالية؟
ماذا سيخطّ عليها الطالب إن توفّرت له الطباشير؟
شلّالٌ منهمر من الأسئلة المتلاطمة، تمرّ بذاكرة الطالب الرهين لحالة البؤس التي يعيشها.
أثناء نزوحي في مخيّم السلام على تخوم رفح، تعرّفت إلى مجموعة من الطلبة وذويهم، عاصرت همومهم وأحلامهم التي دُفنت تحت أنقاض مدارسهم ومنازلهم، وكرّاساتهم التي استخدموها قراطيسَ لبيع الترمس والفستق، والتي كانت دلالة واضحة على ظاهرة تشرّد تظهر في الأفق من جديد.
طلبت من عدد منهم، بعد أن أعطيتهم قصاصة ورق، ومجموعة أقلام لا يشبه أحدها الثاني، أن يرسموا لي شيئًا يمرّ ببالهم، وتركت لهم الوقت الكافي، وبعد انتهاء المدّة المحدّدة لم أتفاجأ ممّا وجدت؛ فأحدهم رسم أمًّا له كانت كلّ حياته. وآخر رسم أخًا له يكبره، وشريكًا له في حجرته. وأحدهم رسم أختًا تصغره، كان يعتني بها يومًا ما. ورسم آخر ملابسَ كان يقتنيها، ولعبة احتفظ بها، لم يلعب بها حفاظًا عليها. وتوقّفت عند آخرهم الذي رسم معلّمته، سألته قائلة: من تلك التي رسمت؟
- معلّمتي التي أحبّ.
- معلّمة أي مبحث؟
- معلّمة الرياضيّات.
- ما الذي جعلك تحبّها وترسمها؟
- أحببتها لأنّها جعلتني أحبّ المادّة الأصعب، والأكثر كرهًا بالنسبة إليّ من بين المباحث.
لفتتني نبرة الحزن في صوته، فسألته ممازحة: هل تكره الرياضيّات إلى الحدّ الذي يجعلك حزينًا هكذا؟
أجابني بلهجةٍ منكسرة: لا، لقد استشهدت معلّمتي التي أحبّها مع كلّ أفراد عائلتها.
توقّفت كثيرًا عند هذه اللهجة المنكسرة، وسرحت في خيالي.
ماذا فعلت تلك المعلّمة الشهيدة، رحمها الله، حتّى تستوطن هذا القلب الصغير؟ وأيّ الأساليب اتّخذت في شرح الرياضيّات؟
شعرت بالأسى الكبير وأنا أتخيّل.
كيف ستبدو نفسيّة الطلّاب عند عودتهم إلى التعليم مرّة ثانية بعد استشهاد معلّميهم وأصدقائهم؟
هل سيُمحى من ذهن الطالب كون المدرسة مكانَ التعلّم والإيواء معًا؟
كيف سندعو الطالب إلى الحفاظ على ممتلكات المدرسة، بعد أن رأى الطاولات والمقاعد، وكتب المكتبة، جميعها وقودًا للطهو.
هل ستعود المدرسة صرحًا عظيمًا كما كانت؟
لا أدرى، هل أبحرت بخواطري بعيدًا عندما تخيّلت اليوم التالي لما بعد الحرب في المدرسة، وعدت إلى اليوم الأوّل الذي يبدأ بالطلبة، وركضهم ليتعانقوا بعد رجوعهم، واطمئنانهم على من تبقّى منهم، وبكائهم على من رحل. ثمّ بحثهم عن الصفوف التي ينتمون إليها، ونزاعاتهم على من يحتلُّ المقاعد الأولى، ومن يبتعد عن المقاعد الملاصقة للنوافذ.
هنا توقّفت، بل وتخيّلت نفسي طالبًا يجلس وزملاءه في الصفّ، يستمع إلى معلّمته، وتساءلتُ: كيف سيبدو هذا الركن من الصفّ، وقد كان في الحرب مكانًا لصناديق تضع فيها أمّي ثيابي أنا وإخوتي؟ وذاك الركن وقد كان بمثابة مطبخ صغير، تضع أمّي فيه بعض الأواني، وقليل من علب الفاصوليا، واللحوم المعلّبة التي كرهتها معدتي من تكرارها وعدم وجود غيرها، أمّا تلك المنضدة، فكانت أختي تضع عليها بعض الفرشات والبطّانيّات صباح كلّ يوم.
الكراسي هناك، كانت عكّازة أمّي التي تضع عليها كلّ شيء ثمين لا تريد وضعه على الأرض.
أمّا السبّورة فكانت الحكاية الأخرى، فمنهم من استخدمها وقودًا، ومنهم من كتب عليها رثاءً لمفقود، أو كلمة شوقٍ لحبيب، أو حتّى عبارة أمل، ربّت بها على قلبه الجريح.
حتّى لو خرج الطالب خارج الصفّ، سيجد "الدرابزين" يذكّره بالغسيل الذي كان يُنشر، أو البطّانيّات التي كانت تُلقى عليه، لتنال من أشعّة الشمس ما ينقّيها قليلًا، في بيئةٍ فُرض عليها التلوّث وقلّة الاهتمام.
كيف سيتحرّر الطالب من كلّ هذه الأحداث التي طُبعت في ذاكرته، وكيف سيتخلّص من براثنها؟
هل ستقوم المنظومة التعليميّة بوضع خطّةٍ ممنهجة لعلاج نفسيّ قبل علاج الفاقد التعليميّ؟
كيف سيكون المعلّم معالجًا، وطبيبًا، ومرشدًا، وممثّلًا؛ ليُنسى الطالب همومه، وهو بحاجة إلى من يبتسمُ في وجهه.
ولعلّ من اللافت أنّ شريحة الأطفال من الطلّاب هم الأكثر تأثّرًا بالحرب، من حيث فقدانهم التوازن النفسيّ، واحتفاظ ذاكرتهم بصورٍ مرعبة، من القصف والقتل، والنزوح المتعدّد، أو رحلات الهروب من مناطق القتال الخطير، وذلك النزوح المترافق بالخوف والقلق والمصير المجهول.
ولعلّ الأثر الأكبر عليهم هو فقدانهم الشعور بالأمان، حتّى مع العائلة؛ إذ ينهار ذلك الملجأ الحصين للطفل، عندما يرى الأب أو الأمّ أو الأخ الأكبر يرتعدون خوفًا وهلعًا.
والنزوح بحدّ ذاته يحتلُّ الصدارة من حيث التأثير في الطالب؛ فغياب بيئته التي تعوّد عليها، واختفاء مقتنياته وحاجيّاته، بل وفقدان الأصدقاء والجيران، له كبير الضغط على صحّة الطالب النفسيّة وثباته الانفعاليّ، ناهيك عن تغيّر الظروف الاقتصاديّة، وعدم مقدرة الوالدين على تلبية احتياجات الطالب إسوة بأقرانه، ما يجعل الطالب يشعرُ بالنقص، وعدم الثقة بالنفس، ولا بالوالدين، ويجعل منه ناقمًا مستمرًّا على كلّ هذه الضربات المتلاحقة التي حرمته من طفولته.
عندما تنتهي الحرب، سنجد إجابات عن كلّ شلّالات الأسئلة التي تتفجر، وتفرض نفسها بقوّة في حضرة الألم والوجع. عندما تنتهي الأزمة، سينهض المعلّمون كما نهضوا في جائحة كورونا وسلسلة الحروب السابقة.
ستنهض غزّة بمن فيها وما فيها، لأنّ منتظِر الفرح سيحصل عليه، وصاحب اليقين ستتحقّق فكرته، والغارق في حبّ غزّة سيشهد كسر قيدها.