وجّه فيروس كورونا عصاه السحريّة إلى كلّ مجالات الحياة، سواء السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الدينيّة أو التعليميّة. وكان أثره في معظم القطاعات سلبيًّا بشكل بالغ، حتّى أوصل هذا الأثر إلى إغلاق مؤسّسات كثيرة وفقدان الناس وظائفَهم. كما كان هذا الأثر واضحًا في الوضع الاقتصاديّ للمؤسّسات على اختلاف أنواعها. وفي الوقت نفسه، وضمن قطاعات معيّنة، كان للفيروس دور إيجابيّ من حيث التطوير والتغيير، وكان التعليم من المجالات التي حظيت بتغيير جذريّ قويّ ضمن مختلف أطرافه، إذ يُمكن اعتبار ما حدث خلال الجائحة بمثابة ثورة وتغيُّر مذهل في المجال التعليميّ.

المؤسّسات التربويّة على طريق الإجبار

لم يكن بمقدور المؤسّسات التربويّة والتعليميّة أن تصل إلى التحوّل الرقميّ المنشود، وتفعيل دور التكنولوجيا بأدواتها وتطبيقاتها واستراتيجيّاتها التعليميّة والتربويّة، وتحقيق نتائج غير المتوقعة بوقتٍ قياسيٍّ بإرادتها الذاتيّة. لقد حقّقت بعض المؤسّسات التعليميّة أهداف خطط خمسيّة في عامين أو أقلّ، سواء أكانت الأهداف على صعيد الطالب كمحورٍ أساسيّ للعمليّة، أو المعلّم، أو وليّ الأمر، أو المؤسّسة التعليميّة بحدِّ ذاتها. وباعتقادي، إنّ نجاح وتحقيق العمليّة التعليميّة لأهداف مُختلفة خلال الجائحة كان سببه الرئيس تكاتف الجميع وحرصهم على إنجاح التعلّم وتحقيقه.

باتت التكنولوجيا عاملًا أساسًا في التعليم والتعلّم، ما ألزم معظم المؤسّسات التربويّة، باختلاف أنواعها، حكوميّة أو خاصّة، بالتوجّه نحو التعليم عن بُعد. وأُجبرت المؤسّسات، أو المقتدرة منها، على توفير بيئة تكنولوجيّة رقميّة تتمكّن من خلالها من المُضيّ بالعمليّة التعليميّة. وباتت تبحث عن المنصّات التعليميّة الإلكترونيّة التي توفّر بيئة تعليميّة رقميّة آمنة، تستطيع من خلالها جمع أقطاب العمليّة التعليميّة ضمن منصّة، متحدّية بذلك بُعد المسافات والحجر الصحّيّ وانتشار الفيروس.

لقد ساعدت المنصّات الإلكترونيّة المُختلفة المؤسّسةَ على إدارة العمليّة من خلال تكوين فصول افتراضيّة، وتدريب الطالب والمعلّم معًا على التفاعل مع متطلّبات هذه الفصول، وبناء القوانين اللازمة لسير التعلّم فيها. كما مكّنت المعلّم من أدوات لتقييم الطالب تقييمًا مُستمرًّا على مدار فترة الحجر الصحّيّ. من ناحية أخرى، أتاحت هذه المنصّات التواصل الفعّال المُستمرّ بين جميع أطراف المُجتمع المدرسيّ، وزوّدت المعلّم بأدوات لرصد بيانات حول حضور الطالب ومشاركته وتفاعله وتجاربه، وبالتالي متابعة تطوّر الطالب ودعمه. كما ساعدت على تطوير الثقافة الإلكترونيّة بشكلٍ عامّ لدى عناصر المُجتمع المدرسيّ.

معركة التطوّر والتغيُّر

أمّا القطب القائد والموجّه للعمليّة التعليميّة والعنصر المرشد فيها؛ أي المعلّم، فقد خاض معركة قويّة بين ما هو تقليديّ ومعتاد عليه، وما هو رقميّ تكنولوجيّ ولا بدّ من اكتسابه، خصوصًا المعلّمون الذين لا يؤمنون بأهمّيّة التكنولوجيا في التعلّم والتعليم، وبعدم فاعليّتها مع الطلّاب.

إنّ ما حصل عليه المعلّم، خلال الجائحة، من دورات تدريبيّة ومحاضرات تثقيفيّة وحصص تعلّم، ما كان ليتوفّر إلّا بوجود مثل هذه الأزمة، لأنّ الأزمات تُغيّر القناعات. فقد باتت للمعلّم الذي يرفض أن يوظّف التكنولوجيا، حسابات على المواقع والمنصّات التعليميّة المُختلفة التي تقدّم خدمات تعليميّة بديلة عن التعليم التقليديّ. وكان للفرق الشبابيّة التدريبيّة دورٌ هامٌّ في تقديم تدريبات للمعلّم، ومساعدته ودعمه في تجربته الجديدة؛ أي التعليم عن بُعد.

لقد ألزمت الظروف التعليميّة المعلّمَ خلال الجائحة، في وجوده مع طلّابه في فصلٍ افتراضيٍّ عبر منصّة تعليميّة، بأن يكون على دراية كاملة بكلّ محتويات المنصّة، وكيفيّة التعامل مع أدواتها وإدارتها وإدارة الحصّة الدراسيّة بتمكّنٍ وإتقانٍ. وانعكس تمكّن المعلّم في تصميمه دروسًا تفاعليّة للمحتوى التعليميّ، وتوفير مصادر للتعلّم مثل الكتب الإلكترونيّة وأوراق العمل والفيديوهات، وكذلك في تشجيع الطلبة على استخدام الإنترنت بما يخدم العمليّة التعلّميّة، على غرار البحث والمشاركة والتعاون لتحقيق أهداف معيّنة، وتقديم تغذية راجعة مستمرّة وفعّالة للطلبة، والحرص على المرور في عمليّة تقييم عادلة على أسس موضوعيّة. وكان على المعلّم تقييم المصادر، واختيار الموقع المناسب للمرحلة الدراسيّة المُناسبة.

يُمكنُ القول إنّ المعلّم خاض تحدّيًا كبيرًا في سبيل التحوّل الرقميّ خلال الجائحة، لم يسبق للتربويّين من عقود ماضية خوضه؛ فكانت تجربة تحوّل متكاملة، من تعليم تقليديّ إلى رقميّ، ومن وجاهيّ إلى عن بُعد، ومن أدوات تعليميّة مقتصرة على سبّورة وقلم، إلى أدوات رقميّة تحتاج إلى تدريبات ومُمارسة وإدارة. ولا شكّ في أنّ المعلّمين، على مستوى العالم العربيّ، أثبتوا أنّهم يستطيعون قيادة عمليّة التغيير، وإحداث تعديلات وتطويرات مُختلفة لمواءمة الوقت الراهن، وأثبتوا جهوزيّتهم على مواجهة التحدّيات واجتيازها.

الطالب بصفته مواطنًا رقميًّا

ولأجل وجود الطالب في مركز الدائرة، والطواف حوله وتلبية احتياجاته التعليميّة والتربويّة، كان كلّ هذا التغيُّر؛ إذ يمثّل الطالب العنصر الأساس والهدف الأوّل من سير العمليّة التعليميّة. ولأنّ الطالب اليوم قد ولد وعاش في زمن المواطنة الرقميّة، وهو الأكثر استخدامًا لها ومعرفة بأساسيّات التكنولوجيا، فكان من السهل عليه التفاعل والتواصل والاندماج سريعًا في النظام التعليميّ الجديد (التعليم عن بُعد). من هنا، كان معظم الطلبة على دراية كاملة بكيفيّة أداء الواجبات الإلكترونيّة، وامتلكوا خبرة كافية ومعرفة بالتعامل مع المنصّات التعليميّة، وإتقان أدوات هذه المنصّات وما تتطلّب من تفاعل. وكانت تجربة التعليم عن بُعد لمن هم في مراحل متقدّمة، أكثر إمتاعًا وتطوّرًا وإفادة، وذلك بتحويل مفهوم التكنولوجيا من أدوات لقضاء وقت الفراغ بالتسلية واللعب، إلى أداة أوسع للبحث عن المعرفة، ما يعتبر إنجازًا لهدف طالما سعت إليه المؤسّسات التربويّة.

تجربتي الشخصيّة

أما عن تجربتي في التعلّم عن بُعد، فكانت الأروع بالنسبة إليّ، وأصفها دائمًا بالمثيرة والمتنوّعة والثريّة. فقد أثارت عندي الفضول للتعرّف إلى المواقع التعليميّة والتربويّة المتنوّعة، حتّى أصبحتُ سفيرة لعدّة مواقع منها. وساعدتني في العمليّة التعليميّة مواقع مُختلفة، أذكر منها: Nearbood، Wordwall، Wakelet، Sway، Forms، Flipgrid، Classpoint، Bloket، وغيرها.

لقد أثْرت هذه المواقع عندي معارفَ عديدة، واتّسعت دائرة الزملاء والأصدقاء حتّى شملت الكثير من دول العالم العربيّ وخارجه، فكان بمقدوري اكتساب خبرات ومهارات جديدة وتبادلها، وتغيير قناعاتي التي باتت لا تتناسب مع احتياجات الوقت الراهن. واستطعت أن أشترك في العديد من الدورات التدريبيّة، وحضور قمم تربويّة ومؤتمرات دوليّة عن بُعد، ما لم يكن سيتاح لولا الجائحة.

والآن، بعد العودة الكاملة إلى مقاعد الدراسة داخل المدارس، أعتقد أنّ العمليّة التعليميّة لن تعود إلى مرحلة ما قبل كورونا؛ فما زلنا نستخدم المنصّات التعليميّة، كمنصّة Teams وغيرها، في التواصل والتعاون والمشاركة مع الطلّاب. وما زلنا ندرج مصادر التعلّم ضمن الفصول الافتراضيّة، وما زلنا نستخدم المواقع التعليميّة في التقييمات التكوينيّة، وكسر الجمود والملل ضمن المقاعد الدراسيّة، وتقديم التحفيز والتشجيع للطلّاب عبر هذه المنصّات، وسنظلّ نستخدمها، لما لها من دور فعّال ومؤثّر في العمليّة التعليميّة وتميّزها.

اعتراف بالمتغيّرات

في النهاية، أنصحُ كلّ من يقف أمام التغيير ويرفض التعامل مع المستجدّات الجديدة، ويرتدي القبّعة القديمة ظنًّا منه أنّها تعطي ظلًّا وارفًا، أن يستظلّ بمظلّة العلم والمعرفة ويتقبّل المستجدّات. وأطالبه بأن يبحث عن البدائل، ويُصرّ على التعليم والتعلّم، وأن يندمج في النظريّات الجديدة، ويستخدم الأدوات الرقميّة والاستراتيجيّات التكنولوجيّة المُختلفة، وأن يعترف بالتغيير والتغيُّر؛ لأنّ الحياة متغيّرة وليست ثابتة، وهذا ما أكدّته جائحة كورونا بعصاها السحريّة.