إنّ المتأمّل للفحص الطبّيّ الذي يكشف عن فيروس كورونا، يلاحظ أنّ الفحص يزوّدنا فقط بمعلوماتٍ طبّيّة عن وجود الفيروس في أجسامنا أو عدمهِ، ولا يقوم بالإشارة إلى أيّة تأثيرات سلبيّة أُخرى. ومن هُنا، هل من المُمكن وجود فحوص أُخرى للفيروس تكشف عن أيّة أعراض أو فيروسات نفسيّة واجتماعيّة وجسديّة واقتصاديّة؟ وليسَ مهمًّا اسم هذه الفحوص، فقد نُطلق عليها، مثلًا، فحص بي سي آر النفسيّ، وما إمكانيّة ذلك ودقّته؟
لقد شملت أضرار هذا الفيروس، أي فيروس كورونا، جميع جوانب الحياة. وطالت كلّ فئات المجتمعات، بغضّ النظر عن جنسيّاتهم وأعراقهم ودياناتهم وجنسهم ولونهم. لكن من المتّفق عليه، أنّ الأطفال يمثّلون الفئة الأكثر تضرّرًا من الجائحة على مُختلف المستويات، خصوصًا الانقطاع عن التعليم الوجاهيّ لفترات مُختلفة، وما رافق ذلك من تأثير في عمليّة التعليم بصورةٍ عامّة، والبقاء لفترات طويلة في المنازل، إضافةً إلى حرمانهم اللعب مع أقرانهم. من هنا لجأ طلبة المدارس، من مُختلف أنحاء العالم أثناء الجائحة، إلى اللجوء إلى أساليب تكيّفيّة كثيرة مع الوضع الراهن. إلّا أنّ بعض هذه الأساليب كان سلبيًّا؛ مثل اللجوء، وبكثافة، إلى الألعاب الإلكترونيّة، نظرًا لتوفّرها بسهولة في المنازل، وانشغال الأهل.
مبرّرات ظهور المُشكلة: أعراضها وآثارها
إنّ مُحدّدات التحرّك للطلبة، بسبب الجائحة، وقضاء وقت طويل في المنزل، خصوصًا أثناء التعلّم عن بُعد، بالإضافة إلى انشغال العديد من أولياء الأمور عن المنزل، هي ظروف تجعلنا جميعًا في حالة من القلق، وتحمّلنا مسؤوليّات مستجدّة للمواجهة؛ فالأهل يجب ألّا يكونوا مجرّد جهات رقابيّة تُصدر الأوامر بالمنع والتوقّف عن اللعب إلكترونيًّا فحسب، إنّما حاضنة لفهم وإدراك أنّ الطلبة يعانون الملل والقلق والضجر. وفي السياق ذاته، تحمل المؤسّسات التربويّة مسؤوليّات جسيمة تركّز على تسهيل الوصول الآمن والمتحفّظ إلى الألعاب الإلكترونيّة بمدّة لعب مناسبة، وتكرار معقول، ونوعيّة ألعاب إلكترونيّة مُفيدة تُعزّز الصحّة النفسيّة.
وقبل الخوض في أعراض هذا الفيروس النفسيّ، إنّ صحّ التعبير، نرجو من الجميع عدم الحُكم على الطالب بوجود الإدمان من عدمه؛ لأنّ المتخصّص الإكلينيكيّ هو الشخص الوحيد المخوّل بمثل هذا التشخيص، بطبيعة الحال، ضمن شروط إكلينيكيّة محدّدة أدرجها الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات العقليّة الخامس لسنة 2013، بما يُعرف "باضطراب ألعاب الإنترنت". ويعتبر هذا الإدمان محطّ جدالٍ عالميّ، ومنطلق لمطالبات بالمزيد من البحث والتقصّي، إلى درجة أنّ بعض المختصّين اعتبروه عرضًا لمشكلات أعمق، فهو يُشير، وفقًا لهم، إلى القلق أو الاكتئاب، ولم يعتبروه اضطرابًا من الأساس.
يقود الاستخدام المستمرّ والمتكرّر للألعاب على شبكة الإنترنت لمدّة 12 شهرًا، إلى المعاناة والضّيق في عدد من الأمور التي نُشير إلى بعضها في ما يلي:
1. هيمنة ألعاب الإنترنت على حياة الطفل.
2. أعراض انسحابيّة.
3. عدم رغبة الطفل/ المُراهق في القيام بأشياء أُخرى كان يحبّ القيام بها أو ممارستها.
4. مواجهة الطفل/ المُراهق مشاكل في المدرسة أو المنزل بسبب إدمان اللعب، بما يشمل مشاكل تتعلّق بالكذب بشأن مقدار الوقت الذي يقضيه على الأجهزة الإلكترونيّة، وغيرها.
وضمن ذات السّياق، أشارت دراسات عديدة حول موضوع الآثار السلبيّة، جسديّةً ونفسيّةً، إلى قضاء أوقات طويلة في اللعب إلكترونيًّا؛ منها، على الصعيد النفسيّ، اضطراب النوم والقلق والتوتّر والاكتئاب، والانطواء والانفراد بالأجهزة الإلكترونيّة، والعزلة الاجتماعيّة بما في ذلك عن الأسرة، واهمال التواصل، وظهور السلوكيّات السلبيّة، مثل العنف والقسوة وعدم سماع الإرشاد والتوجيهات والتمرّد المستمرّ. ومن الآثار السلبيّة لهذا الإدمان على الصعيد الجسديّ، السمنة نتيجةَ الجلوس ساعات طويلة، وتناول الأطعمة غير الصحّيّة والمشروبات الغازيّة، وكذلك آلام أسفل الظهر والرقبة.
وعلى صعيدٍ آخر، لا تُشكّل جميع الألعاب الإلكترونيّة خطرًا على الأطفال. فهناك ألعاب مفيدة، بعضها يحفّز التركيز والانتباه، وينشّط الذاكرة وسرعة التفكير المنظّم. وبعضها الآخر يثير التأمّل، وينتج عاطفة إيجابيّة وعلاقات اجتماعيّة والشعور بالإنجاز، إضافةً إلى تنمية مهارات استخدام التكنولوجيا باحتراف. ولذا، كما ذكرنا سابقًا، هناك ضرورة إلى الانتباه لنوعيّة الألعاب ومدّة ممارستها وتكرارها.
طرق المُساعدة: مقدّمة وخطوات عمليّة
قبل البدء بطرق المساعدة المباشرة، يجب أن نُركّز على المهارات الوالديّة الإيجابيّة، والتي تشكّل قاعدة للبدء بأيّ طريقة لمساعدة الأبناء في أيّة مُشكلة تواجههم. المحبّة تكسر الحواجز وتبني الجسور؛ فإظهار المحبّة للأبناء من خلال السلوك الواضح، كالمعانقة وإعطاء الوقت اللازم لسماعهم بجدّيّة، وتقديم الاحترام لهم والتعاطف مع مشاعرهم، بالإضافة إلى اللطف مع الأطفال، وإظهار الالتزام والحزم والضوابط في الوقت نفسه، من شأنه دعم الطفل نفسيًّا، وأن يمهّد لأيّ تعديلٍ سلوكيّ معهم، كونهُ سيُبنى على أساس المحبّة والاحترام.
من ناحية أخرى، قضاء وقت مع الأطفال، خارج أوقات الحاجة الأساسيّة والتدريس، مهمّ جدًّا ولهُ أثر ساحر؛ فقضاء وقت يُمارس فيهِ الأهل مع الأطفال نشاطات، كالغناء أو الركض أو اللعب في مساحات عامّة أو حدائق، إلى جانب الحوار المستمرّ مع الطفل والإصغاء إليه باهتمام، يدعمه ويزيد ثقته بنفسه. بالإضافة إلى ضرورة الابتعاد الجذريّ عن الإساءة إلى الأطفال من جميع الجوانب. فالضّرب، مثلًا، حتّى الخفيف جدًّا، يفاقم أيّ مشكلة.
إنّ ما يعانيه الطفل اليوم هو مقارنته بإخوته أو أقاربه، وهذا ما يجب الابتعاد عنه وبشدّة. ومن المهمّ أيضًا إشغال الأبناء بمهمّات بيتيّة يوميّة تتناسب وأعمارهم. ومن هُنا، فإنّ طرق المساعدة عديدة ومتنوّعة، وهي تتداخل مع المهارات الوالديّة المذكورة سابقًا، ومنها:
1. اختيار نوعيّة الألعاب المناسبة، والتي لها أثر إيجابيّ.
2. مشاركة الأطفال بالألعاب الإلكترونيّة ما أمكن.
3. تقديم بدائل جيّدة أُخرى تحتاج إلى نشاط بدنيّ، أو أيّ أنشطة أُخرى، والمُشاركة فيها ما أمكن. هُنا عند الطلب من الطفل ترك أيّ لعبة إلكترونيّة، يجب تقديم البديل فورًا.
4. التدرّج في الابتعاد عن الألعاب الإلكترونيّة؛ فمن يقضِ 4 ساعات في اللّعب، لا يمكن أن يتوقّف فجأة، وإنما تمكن جدولة هذا الابتعاد إلى ساعتين في الأسبوع الأوّل، ومن ثمّ ساعة في الأسبوع الثاني، إلى الوصول لمرحلة تحديد وقتٍ يوميًّا وعدم تخطّيه.
5. التركيز على الأنشطة العائليّة المُشتركة.
6. التركيز على قضاء الطفل وقتًا خارج المنزل.
7. تقديم الحاجات الأساسيّة بشكلٍ مُناسبٍ، كالغذاء والنوم الكافي.
8. مراقبة نشاط الأطفال الإلكترونيّ، وضرورة التأكّد من أنّهم لا يقضون أوقاتًا طويلة خلف الأبواب المُغلقة.
9. اللعب فقط بعد إنجاز المهمّات البيتيّة والمدرسيّة.
10. الانتباه إلى عدم وجود مشكلة نفسيّة أو اجتماعيّة أو مدرسيّة تدعو الطفل إلى الهروب نحو الألعاب الإلكترونيّة.
11. اللجوء إلى المتخصّص، مثل المُرشد، للمُساعدة في حال الانتباه إلى مُشكلة ما.
في الخِتام
من المهمّ تحقيق التوازن في الأمور الحياتيّة للطفل، وتوجيهه إلى ألعاب إلكترونيّة تُعزّز الصحّة النفسيّة ضمن مدّة معيّنة وتكرار مقبول، بحيث لا تتعطّل إنتاجيّة الطفل، ويبقى شغفهُ للحياة أكبر.