من خلال متابعة تطوّر نظام التعليم في العالم، وميزانيّات معظم الدول، نرى أنّ هذه الدول تولي التعليم أهمّيّة كبيرة، حتّى ظهر التنافس بين الدول في التصنيف العالميّ للتعليم. إدراكًا منها أنّ التعليم عامل فارق وهامّ من حيث الإسهام في التطوّر والنهوض.
تغيّر حال دول كثيرة بعد أن أدركت أنّ التعليم هو السبيل إلى التنمية، وأنّه وسيلة يمكن من خلالها خلق مستقبل زاهر، فأثمرت تجربة تلك الدول. وعلى سبيل المثال، دولة فنلندا التي كان نظام التعليم فيها متراجعًا وسيّئًا لفترات طويلة، استطاعت بعد فترة غير طويلة أن تصبح من أكثر الدول التي تهتمّ بالتعليم، وتقدّم نموذجًا مهمًّا فيه.
وإذا نظرنا إلى وضع التعليم في بقيّة البلدان ونظامها التعليميّ، وسعيها لتطوير نهجها في العمليّة التعليميّة بشكل مستمرّ، نجد الأمر في السودان باقيًا على حاله: منذ وقت طويل لم يتغير النهج المتّبع، ولم يحظَ التعليم بالاهتمام اللازم.
في زمنٍ سابق، ظلّت الأسر تدعم المعلّم وإدارات المدارس، وتحثّهم على اتّخاذ الإجراءات التي يرونها مناسبة، من دون أن يخشى أحد أيّ ردة فعل عكسيّة من الطلّاب نتيجة هذا المسار التربويّ القاسي. كان الطلّاب حينها يتّبعون نهج تربيتهم التي تلزمهم عدم الردّ في وجه الكبير، والمعلّم بصفة خاصّة. ومنهم من غادر المدارس للأبد، ومنهم من رضي بسلخ جلده كما أمرت الأسرُ، لأنّه يريد استكمال دراسته، وكان لزامًا عليه الصمت وعدم إظهار ردّة الفعل تجاه أي سلوك يمارس عليه. لم ينتهِ هذا الجيل بنهاية تلك الفترة التي باتت متوارثة رغم التغييرات التي أحدثها الزمن على كلّ شيء. ومن هؤلاء الطلّاب من أصبح معلّمًا، ومن صار ولي أمر. واليوم، أتى طالب آخر من جيل مختلف، لكنّه لم يجد منهجًا، ولا بيئة مدرسيّة، ولا معلّمًا متدرّبًا، ولا أساليب تعليميّة توازي تفكيره الذي تغيّر بفعل الزمن والأدوات الجديدة.
اختلف الأمر، والده كان يسمع ويطيع بلا تردّد، وهو الآن يحتاج إلى مناقشة وإقناع، بدلَ الأمر واتّباع ما يؤمر بهِ بلا دراية وتنفيذه. صار الأمر بالنسبة إلى الجيل الحاليّ، يحتاج إلى حجّة ومنطق واتّباع أساليب جديدة؛ أساليب تُعمَّم على الجوانب المحيطة بالمعلّم، والإدارة، والمناهج، والأسرة نفسها... هي حلقة متكاملة يؤدّي خلل صغير فيها إلى نتائج غير محمودة.
كيف يمكن لأيّ دولة مواكبة التطوّر الذي يحدث في العالم، من دون أن تولي التعليم أهمّيّة كبرى؟
في سياق فيه نظام التعليم متهالكًا، والمعلّم لا يتلقّى أيّ تدريب، والأسرة لا تعي دورها الرئيس، والمناهج جافّة والبيئة المدرسيّة سيّئة، والظروف الاقتصاديّة تجعل المعلّم لاهثًا بين مدرسة وأخرى حتّى يجد ما يمكّنه من عيش حياةً عاديّة... في ظل كلّ هذا، كيف تنهض دولة ونظام التعليم عندها يقترب إلى مرحلة الصفر؟ عوامل عدّة قادت التعليم إلى هذه المتاهة، منها:
- - سيطرة التعليم الخاصّ على الحكوميّ بشكل تدريجيّ، إلى أن أصبح التعليم الخاصّ وجهة المعلّمين وأولياء الأمور.
- - معاناة المعلّم مستوى دخلٍ متدنٍّ يضغط عليه نتيجة الوضع الاقتصاديّ السيّئ، حيث أصبح العمل الخاصّ فرصة للكسب تساوي أضعاف دخله الشهريّ.
- - عدم دعم الدولة للمدارس الحكوميّة التي باتت تُسيَّر من قِبل أولياء الأمور.
- - ضعف البيئة التعليميّة، واستمرار العمل فيها ضمن سعي والأُسر لتحصيل دراسيّ أفضل لأبنائهم.
شكّل الاتّجاه نحو التعليم الخاصّ، اتجاهًا ضاغطًا يُمارسَ على الطلّاب من أجل النتائج الجيّدة التي تقود إلى الكسب. هُناك أطفال كثر يزعجهم النظام التعليميّ في المدارس الخاصّة، إلّا أن النتائج التي تراها الأسر تتحقّق هي ما تجعلها تغضّ النظر عن الأثر النفسيّ الصعب الذي يتعرّض إليه هؤلاء الصغار. هذا إضافةً إلى المناهج في المدارس الحكوميّة التي لا تجذب الطلّاب، والأساليب المتّبعة للتلقين والحفظ، والتي تؤدّي مُجتمعةً إلى تسرّب عدد كبير منهم.
عدم تدارك بعض المعلّمين لضرورة تطوير أساليبهم، والاعتراف بأنّ العنف والطرق المتّبعة سابقًا قد انتهى زمانها، وعدم إيجاد طرق وأساليب تناسب عقليّة الطلبة، كلّ ذلك جعل من عمليّة التعليم أمرًا شائكًا. القاعات الصفّيّة مُمتلئة، والحقائب أيضًا، إلّا أنّ الفجوة التي خلقتها العوامل المُختلفة المذكورة، أدّت إلى خلق أزمة بين رفض المعلّمين سلوكَ الطلبة، وتسرّب الطلبة من المدرسة بسبب الظروف الاقتصاديّة والبيئة المدرسيّة والمناهج غير الجاذبة لهم.