سنعودُ يومًا... حتمًا عدنا
سنعودُ يومًا... حتمًا عدنا
2025/02/03
ميسون أبو موسى | معلّمة علوم حياتيّة وعلوم عامّة- فلسطين

تقفُ غزّة على حافة الطرق، وقد لاحت لها مشارف نجاة. يتبعها وقوف على الأطلال، بين فرح منتظَر وحزن مؤجّل، يدوران في قلبها كما تُدير الرحى يدٌ متهالكة لا طاقة لغزّة بها.

أبناؤها يستعدّون للرحيل، حيث المنزل والحلم الذي بات بعيدًا ثمّ دنا، كسرب طيورٍ يترك موطن الشتاء ويرحل حيث الدفء والأمان.

لم يكن الخروج في البداية طوعًا، رحلوا على الرغم من جاذبيّة الحبّ وحنو الشوارع والطرقات. ودّعوا الساحل والميناء حين مرّوا بشارع الرشيد المِعطاء، وتركوا الشجاعيّة وحيّ الزيتون إذ عبروا الوادي، وأرجلهم تقرع شارع صلاح الدين بإيقاع يقول بحزم شديد: "سنعودُ يومًا".

وها هم اليوم، وكما تتوقُ الفراشات لهالة النور، قد عادوا.

محمّد وأخوه أحمد، وآلاء وشقيقتها آية، حلا ورهف والمريمتان، وتالة ويامن وابنة خاله مها، كلّ هؤلاء كانوا تلاميذي في الوقت الصعب، حين ارتجف القلم وتمزّقت الأوراق، وحين تاهت الحروف وضاعت الكلمات.

قبل ستّة أشهر من وقت النجاة، كانت تضمّنا غرفة صفّيّة خالية من زجاج النوافذ الذي هشّمه عنف القصف، حتّى الأرضيّة لم تكن بحالٍ أفضل وتفسّخت. تجمّعنا، ومعنا ستّون طفلًا، لنعلن عودتنا إلى الحياة متحدّين النوافذ والأبواب وقطع البورسلان المهشّمة. لم يكن لدينا لوح نكتب عليه آمالنا وآلامنا، فاضطررنا إلى استعارة لوح خشبيّ من عجوز تسكن جارةً لتلك الغرفة، استقبلتنا بترحاب قائلة: "العلم نور يا خالتي، خذوا اللوح، مش خسارة فيكم"، وهي تقاوم رغبة عارمة في دسّ اللوح وقودًا في الفرن كي تطهو لأطفال ابنها المفقود. لقد آثرتنا عليهم، فكان لها بصمة صمود هي الأخرى على عقد الاتّفاق الذي أبرمناه حين اجتمعنا.

فرحنا كثيرًا عندما حصلنا على اللوح المكسور وغير المتناظر، وأسرعنا بالبحث عن طباشير لنكتب بها ونخطّ أسماءنا. حينها، انطلق صغاري يجمعون بقايا الفحم والطباشير من المدارس التي كانت تعجّ بالنازحين المتألّمين. لنكتب على اللوح ونعبّر عن رغبة مُلحّة في الحياة مع كلّ مآسينا، وعلى الرغم من الدمع الذي تجمّد في مآقينا.

 

جمعتنا صفوف هجينة كانت تحوي طلّابًا من فئات عمريّة مختلفة اتّفقوا على:

"لن نسمح بموت مدارسنا كما مات كلّ شيء من حولنا".

لعلّ هؤلاء الأطفال الصغار، بعد فقدانهم المدرسة والمعلّم والصديق وضياع أقلامهم وتمزّق كتبهم، أصبحوا يعرفون جيّدًا قيمة الأشياء العزيزة. ربّما هو طابع طفولي (الأشياء المفقودة مرغوبة)، أو ربّما هو حنين يجتاح المشاعر للعلم، أو لعلّه الهروب من واقع أقلّ ما يُوصف به أنّه لا يُوصف... أو ربّما جميع المبرّرات السابقة اجتمعت لتكوّن مزيجًا يصعب فهمه، أو حتّى تجرّعه.

أمضينا عدّة شهور نتجاذب العلم بطريقة الفكاهة تارة، وبطريقة الغناء تارة أخرى. تجدنا جائعين نسأل عن أسعار الخضروات والدقيق، ونشتهيها. وسرعان ما ننفضُ عنّا أمنيات الجائعين لنُبحر في أمنيات العارفين. وحين كنت ألمح التعب على وجوههم، كنت أتجوّل داخل قلوبهم التي منحوني إيّاها، لأقف على مواطن الألم وأعالجها بالمسكّنات الوجدانيّة. فنحن أيضًا لا نملك الدواء الكيميائيّ بسبب طقوس الحرب اللاأخلاقيّة. المعلّم هنا يشبه الطبيب، كلاهما يتفقّد الألم ويضع يده عليه، ليعيد الأوّل أمّة بأسرها للحياة، والثاني يعيد لأفرادها الأمل في الحياة، فردًا تلو الآخر.

وكما اجتمعنا في بحور العلم والقراءة والتجربة، اجتمعنا أيضًا في الرسم والغناء واللعب والسرد القصصيّ. كنّا نتجاذب الضحك بصوت عالٍ يعلو على قذائف الدبّابات وأصوات الزنّانات ورعب الطائرات. كنّا نأكل طعامنا البسيط في الأيّام المفتوحة التي خطّطنا لها، وكنّا أيضًا نختار الطالب المثاليّ بعناية فائقة، ونكرّمه بهديّة رمزيّة. لم نكن نشبه إلا وردةً حمراء نمت في أرض رماديّة محفوفة بحجارةٍ متساقطة من أنقاض الأرواح والمنازل، وسط دموع المدينة الحزينة.

ثمّ...

جاء اليوم المنتظر الذي أُعلن فيه عن هدنة حلّت حيّز التنفيذ، وبسرعة أصبح الجميع يخطّط لعودة وشيكة إلى الديار. وهنا أيضًا دخلت المشاعر المختلطة حيّز التنفيذ، فطلّابي النازحون لن أراهم مجدّدًا بعد أن أحببتهم، وألفنا المكان، وتعاهدنا داخل محراب العلم. وقّعنا الاتّفاق الذي ينصّ على التزامنا بطلب العلم، وعلّقناه في الصفّ على أحد الجدران.

جاء يوم الإثنين الموافق 2025/1/27، فها أنا أودّعهم بعد أن كنتُ بالأمس لهم كتفًا، وكانوا عصاتي التي لي فيها مآرب أخرى. ها هم يحزمون الأمتعة للرحيل، ولسانهم يقول: "لن أنساك يا معلّمتي"، وآخر يهتف: "كنتِ لي قمرًا أضاء عتمة ليلي الطويل". وآخرهم وعدني بزيارة حتميّة على جناح السرعة لمدينة دير البلح. لم يتّسع الوقت إلّا لوداع عابر، وقبلة على الجبين، وكلمة محبّة في رسالة طفوليّة مزركشة.

لم ينتهِ العلم في صفّنا، فقط ما انتهى هو النزوح. وتوقّف الرعب المحدّق في الأطفال، وأرخى الجوع قبضته المطبقة على الأعناق قليلًا.

ولكن، بقيت لنا التناقضات تُأجّج لهيب القلوب المتعبة. فلا عجب من أمرنا، نحن قوم إذا هلكنا بكينا، وإذا نجونا أيضًا بكينا...

ففي عشق غزّة، الكلُّ تائهٌ

بين الجمال الغضّ والنيران.

قلوبنا بضحكة ثغرها عالقة،

تجول بين السهول والوديان.

حبٌ وحرب... ماءٌ ونار،

في جوفها يتصافحُ الضدّان.