"يكشف التحليل الموضوعيّ لعلاقة المعلّم والطالب القائمة داخل المدرسة وخارجها عن أسلوب التواصل بينهما، وهو أسلوب يعتمد على وجود حاكٍ يقوم بدوره المعلّم ومستمع يقوم بدوره الطالب، وسواء كان الموضوع قيمًا عامّة أو أبعادًا عقليّة مستمدّة من الواقع فإنّه يظلّ فاقدًا للحياة، وتلك هي أزمة التعليم.
يتحدّث المعلّم عن الواقع وكأنّه موات لا حياة فيه أو كأنّه متوقّف ومحصور وقابل للاستنتاج، وبذلك يبدو الموضوع غريبًا على خبرة التلاميذ، وتنتهي مهمّة المدرّس في هذه العلاقة عند ملء عقول التلاميذ بمحتوى قصّته وهو محتوى مبتسر لا يستثير اهتمام أولئك الذين أُرِيد لهم أن يتعاملوا معه، ذلك أنّ الكلمات قد أُفرِغت من محتواها وجُوِّفت لتصبح في النهاية مثارًا للأغراب.
إنّ أهمّ ما يميّز التعليم التلقينيّ هي لهجته المتعالية وعدم قدرته على إحداث التغيير. 4 × 4 ꞊ 16، عاصمة كذا، كذا. أمّا الطلّاب فينحصر دورهم في الحفظ والتذكّر وإعادة الجمل التي سمعوها دون أن يتعمّقوا في مضمونها، وليس من هدف لهذا التعليم التلقينيّ سوى تعويد الطلّاب على أسلوب التذكّر الميكانيكيّ لمحتوى الدرس، وتحويلهم الى آنيّة فارغة يصبّ فيها المعلّم كلماته الجوفاء. وما ظلّ المعلّم قادرًا على القيام بهذه المهمّة كان دليلًا على كفاءته، وما ظلّت الأواني قادرة على الامتلاء كان ذلك دليلًا على امتياز الطلّاب، وهكذا أصبح التعليم ضربًا من الإيداع تحوّل الطلّاب فيه الى بنوك يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، فلم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة والاتصال، بل أصبح مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلّاب في صبر ليستذكروا ما يقوله ثمّ يعيدوه، ذلك هو المفهوم البنكيّ للتعليم الذي تحدّد فيه دور الطالب كمستقبل للمعلومات يملأ بها رأسه ويخزّنها دون وعي. ولا شكّ أنّ هناك من ينجح بهذه الوسيلة في أن يصبح جامعًا للمعلومات أو كتالوجًا لها، ولكن تبقى الحقيقة العارية وهي أنّ الذي خُزِّن بالفعل ليست المعلومات وانّما عقل الانسان الذي حُرِم بهذا الأسلوب غير الموفّق في التعليم من فرص الابداع والتطوير، إذ كيف يمكن للإنسان أن يمارس وجوده الحقّ دون أن يتساءل ودون أن يعمل؟
ليس ذلك بالطبع ممكنًا، لأنّ المعرفة الحقّة إنّما تنبثق من الإبداع الذي هو وليد القلق المستمر، وبالتالي لا يستطيع الإنسان أن يجيب عن تساؤلاته إلّا إذا اتصل بهذا العالم وعمل فيه مشاركًا مع غيره. ويتضح من مفهوم التعليم البنكيّ أنّ التعليم مجرّد منحة يتفضّل بها أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مالكين للمعرفة على أولئك الذين يفترضون أنّهم لا يعرفونها، غير أنّ إضفاء الجهل على الآخرين هو في حقيقته من مخلّفات فلسفة القهر التي تجرّد التعليم والمعرفة من خاصيّتهما كعمليتي بحث مستمرّ من أجل اكتساب الحرّيّة. وفي إطار التعليم البنكيّ يقدّم المدرّس نفسه للتلاميذ على أنّه الصورة المضادة لهم، وهو بإضفائه صفة الجهل عليهم يبرّر وجوده كأستاذ لهم، وعند هذه المرحلة يتمّ تغريب التلاميذ واستعبادهم. وبحسب المنظور الهيجليّ للديالكتيك فإنّ اعتراف التلاميذ بجهلهم هو أيضًا تبرير لوجود الأستاذ بينهم، وعلى غير ما يكون العبيد فإنّ هؤلاء التلاميذ لا يكتشفون مطلقًا أنّهم يعلّمون الأستاذ. وفي ضوء ما ذكرناه يتبيّن لنا أنّ التعليم الحقّ هو ذلك الذي يعمد الى حلّ التناقض القائم بين الأستاذ وتلميذه ويعمد إلى إيجاد نوع من المصالحة يصبح الطرفان فيها أساتذة وطلّابًا في الوقت نفسه".
فرايري، باولو. (1980). تعليم المقهورين. (ترجمة: نور عوض، يوسف). دار القلم. ص. 51-52.