مقدّمة
نمتلك جميعنا موهبة بصورة من الصور. وسيكون الأداء داخل الغرفة الصفّيّة أكثر جودة عندما يتعامل المعلّمون والمعلّمات مع طلبة موهوبين في مجال معيّن، لا بل إنّ كثيرًا من المعلّمين والمعلّمات يحاولون انتقاء الغرف الصفّيّة التي فيها أكبر عدد من الطلبة المتفوّقين. فهم يعتقدون - المعلّمين والمعلّمات - أنّ مهمّة التدريس ستكون سهلة، ونتائج تلك الشُعب ستكون الأعلى في المدرسة.
هذا الاعتقاد صحيح إلى حدّ بعيد، لكنّ تأمّلًا في حقيقة الأمر، سيوصلنا إلى أنّ نسبة الموهوبين عادة في المدارس منخفضة، وأولئك الطلبة الذين يتفوّقون على أقرانهم قليلة. وبناءً على ذلك، فإنّ على المعلّمين والمعلّمات وضع خطّة، تضمن تعليم الطلبة كلّهم على حدّ سواء، وعدم الاعتماد على مواهب الطلبة الفطريّة، إذ يمكن أن تحقّق جهود المعلّمين والمعلّمات المخطّط لها بدقّة أثرًا مساويًا لتلك الآثار التي تُحدثها الموهبة.
في هذه التدوينة، سنتطرّق إلى كيفيّة تعليم الطلبة في الصفوف المبكّرة مهارات اللغة العربيّة بعيدًا عن الموهبة، ودفع المعلّمين والمعلّمات إلى اتّباع إجراءات تعزّز تعلّم اللغة العربيّة لدى الطلبة كلّهم، وكيف سينجح المعلّمون والمعلّمات في إتاحة الفرصة أمام الطلبة في الصفوف المبكّرة لتنمية ميولهم، واكتشاف مهاراتهم في اللغة العربيّة.
معنى الموهبة
يعرّف جروان الموهبة (1) على أنّها مفهوم بيولوجيّ متأصّل، يعني ذكاء مرتفعًا. ويشير إلى تطوّر متقدّم ومتسارع لوظائف الدماغ وأنشطته، بما في ذلك الحسّ البدنيّ، والعواطف والمعرفة والحدس. أما فتحي الزيّات (2)، فقد عرّف الأطفال الموهوبين بأنّهم الأطفال الذي يمتلكون مواهب، أو إمكانات عقليّة غير عاديّة، تمكّنهم من تحقيق مستويات أداء أكاديميّة عاليّة. والموهبة بهذا المعنى تختلف عن الإبداع الذي يتّسع ليشمل التصميم والتخطيط، والإنجاز الذي يقوم به الفرد من تلقاء ذاته، إذ توجد بعض المعارف والمهارات التي يتعلّمها الإنسان بالخبرات والمهمّات والأنشطة والتفاعل مع الآخرين.
من أين أبدأ؟
لكلّ طالب القدرة على القيام بشيء ما بأفضل الطرق، وهذا الأمر يُطلق عليه الخبراء (مجال القوّة). وكي يكون الأمر أكثر وضوحًا، فإنّ المعلّمين المهرة هم الذين يركّزون على نقطة قوّة الطالب، ويدفعونه إلى تنميتها قبل أن يحدّدوا نقاط ضعفه، ويعملون على تقويتها. يشكّل هذا الأمر مراعاة للحالة النفسيّة للطالب في مراحل تعلّمه المبكّرة، ذلك أنّ شعور الطالب بأنّه قادر على القيام بأشياء كثيرة، سيكون السبب الأوّل في جعله يتغلّب على التحدّيات التي سيواجهها عندما يتعلّم شيئًا غير بارع به، أو لا يستطيع تقديمه بأفضل الصور. وكي تحقّق هذه الطريقة الدرجة القصوى من فعاليّة التعلّم في الصفوف المبكّرة، فإنّ على المعلّمين والمعلّمات تنويع الخيارات أمام الطلبة، وجعلهم يختارون بين عدد من المهمّات. ولنا أن نتخيّل لو وضع معلّم اللغة العربيّة عددًا من الكلمات أمام طلبة الصفّ الثاني، مثل: اطمئنان، أبواب، سيّارات، من، اشتياق، حنين، فإنّنا نستطيع أن نخمّن الكلمات التي سيبرع الطالب بقراءتها قبل غيرها، أو تلك التي سيقرؤها الطالب دون تأتأة أو تعثّر، ثمّ يوظّفها في حواراته وكتاباته.
هذه البداية لن تؤتي ثمارها إلّا بالتجربة المستمرّة، فالاستمرار بتصميم الأنشطة التي تبرز نقاط القوّة عند الطلبة، هو الذي سيوصلنا في النهاية إلى مستويات متقاربة من المهارات، والتي لا تعتمد بأيّ حال من الأحوال على الموهبة الفطريّة، وستجعل الطلبة يشعرون أنّ بإمكانهم التقدّم والتطوّر.
اتّخاذ القرار الصحيح
اتّخاذ القرار الصحيح من ناحية الأنشطة المناسبة للطلبة في الصفوف المبكرة أمر جوهريّ، فقد أخبرتني معلّمة ذات يوم أنّ طلبتها في الصفّ الثاني يشعرون بالملل معظم وقت الحصّة. ويأتي نطقهم للكلمات أو تحليلها أو دمجها روتينيًّا عاديًّا، على الرغم من أنّها تبذل جهدًا كبيرًا في جعلهم يتحرّكون ويتفاعلون. فأخبرتُها أن تتأمّل مضمون الأنشطة، وتقارنه بمضمون الأنشطة التي تعرّضوا إليها في الصفّ السابق، لتكتشفَ أنّ كلمات الأنشطة وجملها التي تقدّمها في الصفّ الثاني، تكاد تتطابق في مضمونها مع الأنشطة التي تعرّض لها الطلبة في الصفّ الأوّل.
مسألة أخرى ذات علاقة بتعليم الطلبة في الصفوف المبكرة، أنّ الأهل أو المعلّمين والمعلّمات يحاولون دفع الطلبة إلى بذل أقصى جهد ممكن، وتحميلهم فوق طاقتهم. وبرغم أنّ هذا الأمر في ظاهره قد يبدو إيجابيًّا، إلّا أنّ أثره السلبيّ قد يكون أكبر، فقد يأتي أداؤهم أقلّ من المتوقّع، ويحصلون على تغذية راجعة كبيرة الأمر الذي يجعلهم يشعرون بالإحباط، ومن جهة أخرى، فإنّ جعل الطلبة في الصفوف المبكّرة يعملون على المهمّات المتعلّقة في المدرسة أغلب وقتهم يحرمهم من اللعب، ومن التواصل مع إخوانهم وزملائهم، ويقلّل الوقت المخصّص للخروج إلى الحديقة، واللعب في المرافق العامّة.
الخيارات غير الصحيحة للأنشطة والمهمّات تعيق التعلّم والتطوّر، وتقضي على المواهب أيضًا.
التركيز مقابل الموهبة
مراقبة قصيرة لأبنائنا في الصفوف المبكّرة، تجعلنا ندرك أنّهم ينتقلون من لعبة إلى أخرى بوقت قصير، وهذا الأمر يقلّل استمتاعهم باللعب. ويمكن سحب هذه الفكرة إلى التعلّم، فاعتماد المعلّم على الموهبة في الصفوف المبكّرة يقلّل الإنجاز في الغرفة الصفّيّة، ويترك نسبة عالية من الطلبة بعيدة عن اهتمام المعلّم. لذلك، فإنّ تركيز المعلّم على نقطة تعلّم واحدة يريد إكسابها للطلبة كلّهم، سيكون كفيلًا بتحقيق أهداف التعلّم عند الطلبة كلّهم، وليس عند الموهوبين فقط.
التركيز مهمّ وضروريّ لتحقيق أكبر استفادة من المواهب والطاقات، ولن تكون الموهبة ذات فائدة إذا لم يركّز صاحبها على تنميتها، وصقلها وإظهاراها بأفضل الصور.
ولنأخذ مثالًا على ذلك، الخطّ وجماله ووضوحه. بعض الطلبة في الصفوف المبكّرة تأتي خطوطهم واضحة جدًّا ومرتّبة، ولا تحيد عن سطور الصفحة، لكنّ هذه النسبة قليلة، الأمر الذي يدفع بالمعلّم إلى ضرورة التركيز على الطلبة الذين تكون خطوطهم غير واضحة، والتركيز على جعلها أكثر وضوحًا سيكون إحدى الخطوات المهمّة التي ينبغي وضعها في اهتمام المعلّمين والمعلّمات، وبناء تواصل توجيهيّ في التركيز على هذه المهارة، وكذلك الأمر في التفريق بين حرفيّ الضاد والظاء.
التحضير الجيّد يبرز المواهب ويظهرها
يخسر المعلّمون والمعلّمات كثيرًا عندما يدخلون الغرف الصفّيّة من دون تخطيط. والخسارة ستكون كبيرة عندما تقتصر الخطط على الموهوبين فقط. ولنا أن نتخيّل النتائج التي سيحقّقها فريق المدرسة في كرة السلّة عندما تكون مدّة إعداده قصيرة.
يمضي المعلّمون والمعلّمات في الصفوف المبكّرة مدّة زمنيّة كبيرة في تدريب الطلبة على تحليل الكلمات ودمجها، وفي تدريب الطلبة على قراءة الجمل القصيرة والمفردات. كذلك فإنّهم يعانون من ضعف حصيلة المفردات لدى الطلبة، وعدم نجاح الطلبة في التعبير عن مشاعرهم وحاجاتهم بكلمات مناسبة.
هذه الأنشطة جوهريّة للوصول إلى الطلاقة بالقراءة. لذلك فإنّ تحضير المعلّم الجيّد والمسبق لطبيعة الكلمات التي سيقطّعها الطلبة، واختياره طبيعة المشاعر القريبة من واقع الطالب الاجتماعيّ، ووضعه في إطار داعم للتعلّم، ستحقّق نتائج إيجابيّة. فلا تتوقّع من الطلبة في الصفوف المبكّرة أن يبرعوا في التعبير عن مشاعر لم يختبروها مسبقًا في حياتهم، أو يقومون ببناء شبكة من المفردات ذات العلاقة بشيء لا يوجد في عقولهم صورة ذهنيّة له. ولا أنسى إلى اليوم ذلك المعلّم في إحدى مدارس جنوب الأردن، عندما طلب من الطلبة وصف حيوان الكنغر، فارتسمت الدهشة على وجوه الطلبة، ولم يبدّدها إلا عندما فتح هاتفه وجعلهم يشاهدون صورة ذلك الحيوان.
التدريب يصقل الموهبة
تفاجأت مديرة عندما أخبرتها معلّمة أنّ الطالب أحمد سيمثّل المدرسة في مسابقة حفظ الحديث النبويّ للصفّ الثالث، فصورة أحمد في ذهن المديرة أنّه غير متمكّن إلى الحدّ الذي يجعلنا نشركه في مسابقة كهذه.
أصرّت المعلّمة على رأيها، فما كان من المديرة إلّا تلبية رغبة المعلّمة التي بدا إصرارها على إشراكه بالذات غريبًا.
تخبرني المعلّمة أنّ المديرة قبل إعلان النتائج، كانت تستقصي عمّا فعلته مع الطالب أحمد، لتتأكّد بنفسها أنّ التدريب الكافي والمركّز، والاستعداد العميق، كفيل بجعل أيّ طالب في مسابقة كهذه أن يحقّق نتائج جيّدة، وليس فقط الموهوب في الإلقاء، أو سريع الحفظ. وإصرار المعلّمة هذا أرسل رسالة إلى زميلاتها وطلبة المدرسة، مفادها أنّ تدريب الطلبة على أيّ نشاط كفيل بتحقيق نتائج مبهرة، وأنّ اقتناع المعلّمين والمعلّمات باستطاعة الطلبة على التعلّم أمر ضروريّ وجوهريّ في التعامل معهم.
التدريب المستمرّ والعميق يمكن أن يحدث فرقًا في تعليم الطلبة التحدّث بالعربيّة الفصحى. فأغلب المعلّمين يعانون في هذه الناحية، وسيكون تدريب الطلبة على التحدّث التدريجيّ أحد الحلول الناجعة لمواجهة هذه المشكلة.
مهمّات لا تحتاج إلى موهبة
سمات كثيرة نحبّ رؤيتها في أطفالنا وأبنائنا منذ نعومة أظفارهم، ونرغب أن يكتسبوها في مراحل التعلّم الأولى، وتترسّخ في ممارساتهم داخل المدرسة وخارجها. هذه السمات لا تحتاج إلى الموهبة للبراعة فيها وإتقانها، إذ يكفي فيها أن ندرّب الطلبة في الصفوف المبكّرة على اكتسابها، حتى من دون الحاجة إلى شرح الفوائد المتوقّعة منها، فنجعل الطلبة يستشعرون الفائدة عن طريق ممارستها، ورؤية أثرها في العائلة، أو في أقرانهم داخل الغرفة الصفّيّة.
دقّة المواعيد إحدى هذه الصفات، فالمعلّم الذي يكون قدوة للطلبة في الصفوف المبكّرة من ناحية احترام المواعيد، والأمّ التي تلتزم بالوقت الذي تقطعه لأبنائها، كفيل بتربيتهم على هذه العادة الإيجابيّة. ولا أنسى ذلك اليوم الذي عادت فيه ابنتي زينة من الصفّ الأوّل وهي حزينة؛ لأنّ المدرسة تغيّر موعد حصّة الرياضة باستمرار من دون إخبار الطالبات، فيخرجن إلى الملعب بالزيّ الموحّد للمدرسة وليس بملابس الرياضة.
يتذمّر أبناؤنا وطلبتنا في الصفوف المبكّرة من المهمّات المدرسيّة، ويعاني الأهل معهم لإنجازها. لذلك فإنّه سيكون من المجدي إكساب طلبتنا في الصفوف المبكّرة عادة الصبر والتحمّل التي لا تحتاج إلى موهبة، بل يكفي فيها أن نقدّم الأنشطة والمهمّات إليهم بالتدريج، وتكون ضمن استطاعتهم، ومن تلك التي يستمتعون بتنفيذها، وأن نقدّم التغذية الراجعة التي تدفعهم إلى الأمام. لذلك فإنّ الطالب في الصفوف المبكّرة سيشعر بالعبء عندما يعود إلى البيت وعليه مهمّات في موادّ الرياضيّات واللغة العربيّة والإنجليزيّة والعلوم، إضافة إلى حفظ سورة قصيرة من القرآن الكريم، أو حكمة نافعة. وهنا يأتي ضرورة التنسيق بين المعلّمين لجعل المهمّات مناسبة؛ لإكساب طلبتنا في الصفوف المبكّرة عادة الصبر والتحمّل.
الأنشطة الجماعيّة في البيت مع العائلة، أو مع الأصدقاء والزملاء في المدرسة، ضروريّة لإكساب طلبتنا في الصفوف المبكّرة عادة الإيثار، والتعاون مع الشركاء في سبيل إنجاح الأشياء المشتركة، وتقبّل الآخرين، وتفهّم احتياجاتهم.
خاتمة
أميل إلى الرأي الذي يقول إنّنا نستطيع صناعة الطلبة الموهوبين، وكي أكون أكثر دقّة، صناعة الطلبة المبدعين منذ الصفوف المبكّرة. وما نحتاج إليه فعليًّا في غرفنا الصفّيّة، تعظيم المهارات، وصقل المواهب، وعدم ترك الطلبة وحيدين من دون إرشاد أو توجيه أو تدريب.
مراجع
1. كتاب الموهبة والإبداع والتفوق، د. فتحي جروان، رئيس المجلس العربيّ للموهوبين سابقًا.
2. صعوبات التعلّم... الاستراتيجيّات التدريسيّة والمداخل العلاجيّة، فتحي الزيّات.
3. سيكولوجيّة الأطفال الموهوبين: خصائصهم، مشكلاتهم، أساليب رعايتهم، وفيق صفوت.