صدر للدكتور محمّد صهود، أستاذ ديداكتيك التاريخ في كلّيّة علوم التربية في الرباط، كتاب جديد بعنوان "المقاربة بالكفايات من الخطاب البيداغوجيّ إلى منهاج التاريخ في التعليم الثانويّ في المغرب" ضمن 229 صفحة من القطع الكبير، عن مطابع الرباط نت.
جاء هذا الكتاب في سياق النقاش الدائر في المغرب، منذ صدور المناهج الجديدة في بداية الألفيّة الثالثة، معلنة انتقال البرامج الدراسيّة من بيداغوجيا الأهداف إلى بيداغوجيا الكفايات، حيث عمل المؤلّف على تحديد معالم هذا النقاش وقضاياه وفق ثلاثة مستويات:
- - مستوى الإنتاج النظريّ المتعلّق ببيداغوجيا الكفايات.
- - مستوى القرار البيداغوجيّ للجهات الوصيّة في بناء المناهج الدراسيّة.
- - مستوى التدريس الفعليّ والممارسة والوضعيّات الديداكتيكيّة.
وذلك من أجل مقاربة إشكاليّة ذات وجهين، وجه يتعلّق بالسيرورة التي مرّ منها الخطاب البيداغوجيّ المتداوَل، متسائلًا ما إذا كانت هذه السيرورة سيرورة خطاب، أم سيرورة ممارسة تربويّة وبيداغوجيّة فعليّة. ووجه ثانٍ يتساءل عن مدى مسايرة المنهاج الدراسيّ لمادّة التاريخ ذات الخصوصيّة المنهجيّة والإبستيمولوجيّة والمعرفيّة، للأدبيّات البيداغوجيّة الخاصّة بهذه المقاربة.
لمعالجة هذه الإشكاليّة، وضع المؤلّف تصميمًا من أربعة فصول.
ينشغل الفصل الأوّل بوضع المقاربة في سياقها التاريخيّ العام، في أفق ملاءمة خطاب الواقع التربويّ، لتجاوز مشكلة المسافة الشاسعة بين الخطاب والواقع. فخلص إلى كون المقاربة بالكفايات تتبلور في إطار سيرورة شاملة عدّة مجالات:
أوّلًا: المجال الاقتصاديّ، حيث أدّى تطوّر النظام الاقتصاديّ وأثر العولمة المتنامي إلى الانتقال من نمط التدبير التيلوريّ القائم على التبسيط والتقسيم المرتكز إلى مهارات الأفراد الدقيقة، إلى نمط أكثر تعقيدًا يتطلّب مهارات عليا بدل المهارات الدقيقة التي أصبحت الآلة تتكفّل بها. وهو ما جعل مفهوم الكفاية يعوِّض مفهوم الكفاءة في عالم العمل، ثمّ تبنّته المنظومات التربويّة، لضمان ربط المدرسة بسوق العمل.
ثانيًا: المجال الاجتماعيّ، حيث انشغل الباحثون بمسألة تكافؤ الفرص والفشل الدراسيّ، إذ برز في البيداغوجيا مفهوم جديد للتكافؤ، لا يقوم على أساس تكافؤ الفرص، بل على أساس التكافؤ في النتائج. أمّا في البحث التربويّ فبرز المنظور النسقيّ الذي يأخذ بعين الاعتبار كلّ متغيّرات السياق الذي يظهر فيه الفشل الدراسيّ، بغضّ النظر عن مفهوم التكافؤ. وقد أكّدت الأبحاث، باختلاف مرجعيّاتها، على ضرورة إضفاء نوع من الديمقراطيّة على الممارسات التربويّة، لتمكين جميع الأفراد من تنمية الذكاء والملكات العقليّة العالية، وبالتالي ولوج الكفايات.
ثالثًا: المجال السياسيّ، حيث أدّى التطوّر الذي عرفه العالم إلى إعادة النظر في وظائف المدرسة، استجابة إلى تحوّلات المجتمع وتحدّيات العولمة ومتطلّبات التنمية المستدامة، ممّا تطلّب تجديد الخطاب البيداغوجيّ المدرسيّ، وتجاوز المنظور التجزيئيّ لبيداغوجيا الأهداف لتمكين المتعلّمين، إلى جانب المعارف والكفايات والقيم الاجتماعيّة والإنسانيّة، وجعل ذلك كلّه في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العمليّة التربويّة.
مقابل ذلك خصّص المؤلّف الفصل الثاني للمفاهيم، محاولًا تحديد مفهوم الكفاية في العلوم الاجتماعيّة عند اللسانيّين والمختصّين في علوم العمل والمقاربة التدبيريّة وسيكولوجيّي النمو، حيث أوضح أنّ نقل المفهوم إلى البيداغوجيا واجه عدّة صعوبات تمثّلت بالآتي:
- - خصوصيّة وضعيّة الفصل الدراسيّ.
- - التفاوتات الحاصلة على مستوى الإنجاز.
- - التمييز بين الكفاية والإنجاز والوضعيّة.
ولتجاوز مشكلة التضارب الكبير على مستوى المفاهيم المستعملة في التربية والتعليم، قدّم المؤلّف تحديدات مفاهيميّة للكفاية، مستخلِصًا مكوّناتها الأساس وخصائصها. كما حدّد المفاهيم ذات العلاقة الجدليّة بها (الهدف؛ الهدف النهائيّ الإدماجيّ؛ القدرة؛ الاستعداد؛ الخطاطة الذهنيّة؛ المهارة؛ المواقف؛ القيم) من أجل الاتّفاق على معنى وظيفيّ موحَّد، يسمح بتفحّص تجلّيّات المقاربة بالكفايات في منهاج التاريخ بالتعليم الثانويّ في المغرب.
أمّا الفصل الثالث فارتبط بالممارسة الديداكتيكيّة وإجراءات المقاربة، حيث انطلق من رصد مختلف أشكال بناء الكفاية وشروطها وتحليلها في الخطاب البيداغوجيّ، قبل معالجة المفهوم في منهاج التاريخ. وقدّم ثلاثة نماذج لمناهج التاريخ وفق المقاربة بالكفايات، من منظومات تربويّة تبنّت المقاربة (بلجيكا وفرنسا وكندا)، للاستئناس بها واستيحاء إيجابيّاتها عند التفكير في بناء أنموذج مغربيّ.
بناءً عليه، قدّم المؤلِّف مقترحًا تطبيقيًّا لكفاية تاريخيّة، هي كفاية التحقيب التاريخيّ، يقوم على اعتباره كفاية منهجيّة تمكِّن من بناء حقبة، أو حقب، بمعالمها ومنعطفاتها، عبر سيرورة منهجيّة تتمحور حول إشكاليّة، وتستند إلى موارد منهجيّة ووثائقيّة مناسبة. أُفرِغَت كفاية التحقيب التاريخيّ في أربع قدرات (الأشكلة؛ التوقيت والكرنولوجيا؛ التأويل؛ البناء)، استند إليها لتقسيم بناء الكفاية.
في النهاية، لامس المؤلّف في الفصل الرابع بعض أشكال التقويم، إيمانًا منه بأنّ إصلاح التقويم مدخل رئيس لإصلاح المنظومة التربويّة برمّتها، حيث قدّم تصوّرين لتقويم الكفاية: الأوّل مبنيّ على مراقبة مدى ملاءمة المنتج لمعيار موحَّد ومحدَّد، وهو ما يسمَّى بالتقويم المحكي، والثاني مبنيّ على ملاحظة قيمة المنتج وفعّاليّته ودلالته.
من هنا، أكّد المؤلّف، وفق هذه الفصول، أنّه وبرغم التطوّر الذي عرفه منهاج التاريخ في المرحلة الثانويّة في المغرب، إلّا أنّه ما زال بحاجة إلى تجديد أكثر جرأة، يسهم في بلورة نسق بين مختلف مكوّنات المنهاج من خلال:
- - إعداد توجيهات عامّة ومؤطَّرة تشكِّل نسقًا يدمِج الكفايات والقدرات والأهداف والمضامين والدعامات وأشكال التقويم.
- - التعريف بخلفيّات الكفايات المقرّرة وأسباب تبنّيها.
- - إدماج التكنولوجيا الحديثة في تدريس المادّة.
- - استحضار الوظائف التي يخدمها التاريخ على المستوى المجتمعيّ.
وعليه، يمكن أن تكون الاستجابةُ إلى دعوة المؤلّف إلى الابتعاد عن وهم اعتبار كلّ مقاربة بيداغوجيّة بمثابة وصفة علاج لأدواء البيداغوجيّة كلّها، أو بمثابة نهاية الاجتهادات النظريّة، مقدّمةَ ورش بحث واسعة لتكييف الواقع التربويّ والتعليميّ مع المستجدّات البيداغوجيّة والعلميّة، على المستوى العالميّ والوطنيّ. ولا يسعني إلّا أن أدعو كلّ المهتمّين بالحقل التاريخيّ، إلى قراءة الكتاب قراءة متأنّية، والتفاعل معه، كلّ حسب مجال اختصاصه.