لا يختلف عاقلان حول أهمّيّة الحيّز الزمنيّ الكبير الذي يوفّره فصل الصيف، والذي يعتبر رصيدًا وقتيًّا وفيرًا، يمكن استثماره في تحقيق ما لا يمكن الوصول إليه خلال سنة دراسيّة كاملة، خصوصًا عندما يكون الوالدان أيضًا متفرّغين في الصيف، ويملكان الوقت والجهد للاستفادة منه، في سبيل تحقيق بعض الأهداف، وتنمية بعض المهارات عند الطفل.
ابتكرت ألمانيا في هذا السياق ما سمّي بجامعة الطفل، وهي فكرة خلّاقة، تتيح للأطفال المتميّزين فرصة صقل مواهبهم، وإطلاق ملكاتهم الشخصيّة. فانطلقت الفكرة الصفّيّة من أجل استغلال تفرّغ الأطفال وبعض الأساتذة، ومعهم بعض المربَين المساعدين الاجتماعيّين، إذ يُخطّط لبرامج تعليميّة مختلفة، تتوزّع في الأساس على المرتكزات التالية:
1. التعليمات الأساسيّة: تقوية ملكات القراءة والكتابة والحساب، ورفع مستوى الطفل فيها، ليتطلّع لما هو مشرف عليه من المعارف.
2. الأعمال اليدويّة: زيادة قدرة الطفل على الإبداع والتشكيل، باستعمال الموادّ الأوليّة المناسبة، الخشب والجبس والحديد، وتنمية ملكاته التقنيّة، ودفعه إلى الابتكار والإنتاجيّة.
3. الحسّ الفنّيّ: تنظيم ملتقيات وفعّاليّات مسرحيّة، التدرّب على الأداء الموسيقىّ، الانفتاح على الآداب والتاريخ، ومحاولة الإنتاج فيهما، حيث يحاول الطفل تفجير ملكاته الفنّيّة التي يتمتّع بها، وتوجيه العباقرة منهم، في مجال منها، إلى مزيد من التدريب والمتابعة.
4. الملكات التواصليّة العلائقيّة: تنظيم موائد مستديرة وندوات ومؤتمرات، لتبادل الآراء، والاستفاضة في مناقشة أفكار الصغار، ومقارعة الرأي بالرأي الآخر، في نطاق الاحترام وقبول الاختلاف، ممّا يتيح للصغير التموقع في المجتمع، والإسهام في إغناء النقاش المجتمعيّ حول قضايا ذات أهمّيّة، كالهجرة، والمناخ، والعنف.
تمكّنت هذه الفكرة من توفير فضاء ثريّ ومناخ مناسب للأطفال داخل الجامعات، بحيث تُستغل هذه العناصر لاستخراج أفضل ما في الأطفال، في جوّ عامّ، بعيد كلّ البعد عن رسميّات الفصول الدراسيّة المعتادة، وقهر المقرّرات والمناهج، وإلزاميّة الموادّ والاختبارات؛ إذ تتّخذ اللعب والمرح والليونة عنوانها العريض. وقد حقّقت نتائج مثيرة، تركّزت في مخرجات وإنتاجات الأطفال، من إبداعات فنّيّة، وعلميّة، ورياضيّة، وكذا لكونها كشفت عن طاقات وأبطال في الرياضة، والفنّ، والعلم، والتكنولوجيا، وكذا لكونها شكّلت نقطة فارقة في شخصيّات الكثير من الأطفال الذين يعرفون بالخجل، أو الانطواء، أو العدائيّة، أو إحدى اضطرابات التعلّم التي تحدثنا عنها في مقالات سابقة كالديسغرافيا.
اقتبست النمسا في بعض جامعاتها هذه الفكرة خلال فصل الصيف، ومكّنت منها الأطفال المستوفين لبعض الشروط مجّانًا، وكذا فعلت مصر في العالم العربيّ، وهي مبادرة تستحق كلّ الإشادة. تعدّ جامعة الأطفال في مصر مشروعًا تعليميًّا، يروم تشجيع التفكير العلميّ والنقديّ والإبداع، والعمل مع الأطفال في سياق التعليم العالي؛ لتمكينهم من مقابلة الأساتذة والعلماء كنماذج يحتذى بها، ومشاركة فضولهم اليوميّ مع العلماء والباحثين المحترفين.
انخرطت في البرنامج أكثر من 27 جامعة مصريّة، حكوميّة وخاصّة. إنّه برنامج يستهدف الأطفال من سنّ 9 سنوات إلى 15 سنّة لينخرطوا في أنشطة تعليميّة مثيرة. تبدأ الأنشطة داخل مباني الجامعات، وتشمل البرامج التعليميّةسبعة تخصّصات علميّة مختلفة، تشمل الطاقة، والمياه، والصحّة، والتنوّع البيولوجيّ، والعلوم الإنسانيّة، والفنون، والمصريّات، وهي برامج علميّة معتمدة من وزارة التعليم العالي، وأكاديميّة البحث العلميّ والتكنولوجيا، وبرنامج الطفل العالميّ.
توجد تخصّصات تنفرد كلّ جامعة بها، حسب ما تتميّز به في المجال العلميّ. كما يشرف على هذه البرامج نخبة من أساتذة الجامعات المصريّة، في جامعة مطروح، وجامعة الأقصر، وجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، والمركز القوميّ للبحوث، ومركز البحوث الفلكيّة، وجامعة بدر.
تقدّم لنا هذه الفكرة أرضيّة مناسبة للتفكير في تبنّي هذه المبادرة في أغلب ربوع الوطن العربيّ، لاستغلال خزّانات طاقة الشباب والأطفال في الصيف. بل والتفكير في مشاريع مماثلة، كالمخيّمات الصيفيّة، والرحلات العلميّة الوثائقيّة، والملتقيات الفنّيّة والرياضيّة، رغبة في مداراة نزيف الوقت، وسعيًا إلى تعهّد شتائل المستقبل بالرعاية والإنماء.