لا أذكر على وجه الدقّة متى دخل هذا المصطلح قاموسي المهني. لكنّ ما أتذكّره بدقّة هو كم كانت هذه الممارسة مثمرة لا سيّما حين أدوّنها في سجلي الخاصّ في نهاية كلّ شهر ميلادي. لقد شددتُ الرحال في القطاع التعليميّ في بلدي منذ مطلع التسعينيّات، فحططت رحلي نيّفًا من السنوات في مدارس دولة قطر الحكوميّة معلّمة للغة العربيّة، وحلّقت مع طالباتي في سماء سعيدة بعيدة يتوّجها البحث والعلم، وكانت صفوفنا منتدًى ديمقراطيًّا حقيقيًّا مارسنا فيه أدوارًا مصغّرة لما نطمح أن يكون عليه مستقبلنا، مثّلت وطالباتي دور الأمّهات، والطبيبات، والمعلّمات، والسفيرات، والوزيرات، وكلّ ما جلبه لنا متن الطموح الذي ركبناه في ذلك الزمن.
ثم حطّ الركب في قطاع التوجيه التربويّ موجّهةً للغة العربية في وزارة التربية والتعليم، وعشت سنوات أتعلّم من خبرات الزميلات في الميدان، وأتأمّل بدقّة كلّ شاردة وواردة في أساليب التوجيه التربويّ حينها، إذ ولدت الدعوة إلى التجديد ونبذ أساليب التفتيش الجاهزة المبنيّة على تصيّد الأخطاء والتعريض بها أملًا في معالجتها، والتحوّل إلى أسلوب بناء الثقة بين المعلم والموجّه من خلال الحوار المهنيّ الذي يقود خطامه الموجّهُ كأخ كبير أو أب خبير فيبدأ بعرض نقاط القوّة في الحصّة، ويصمّم أسئلةً حافزة يطرحها بكلّ ودّ على المعلّم تساعده على التأمّل العميق في سير خطوات الدرس، وقياس أثر كلّ خطوة على المتعلّمين ومدى استجابتهم لها، وتقييم أدائهم.
وفي أثناء هذا الحوار لا بدّ أن تكون لغة الجسد عند الموجّه مدروسةً بعناية لتوحي للمعلّم بالراحة والثقة، وأنه في موضع تعلّم آمن، فسيترخي ويثق ويبدأ في الاستبطان والتأمّل، ويبني قدراته النقديّة وينمّيها ليقوم بنفسه لاحقًا بتطوير ممارساته وطريقة أدائه المهنيّ في الصفّ الدراسيّ انطلاقًا إلى الحياة الأوسع.
ولا تنتهي الطريقة الوالديّة ( كما أحبّ تسميتها ) في التوجيه عند الاحتفاء بنقاط القوّة في الدرس ولكن فاعليّتها الحقيقية تكمن في معالجة نقاط الضعف من خلال الحوار المريح المنطلق من الأسئلة المفتوحة الذكيّة نفسها، المعتمدةِ على (ماذا، كيف، ولماذا، متى، من، ماذا لو) والتي تضع بدائل كثيرةً أمام المعلّم لتعليم طلبته مهارةً معيّنة في وقت معيّن من زمن الحصّة.
ويأخذ التأمّل في الممارسة المهنيّة طابعًا أعمق مع تحوّلي للعمل في الإدارة المدرسيّة نائبًا للمدير للشؤون الإداريّة، وما يصحب هذا العمل من تحدّيات متشعّبة تشعّب أودية شقّ غمارها السيل مرارًا وتكرارًا.
وأذكر في تلك الحقبة من عمري المهنيّ كم كانت التحدّيات لا نهائيّة (فهناك جبهة الموازنات والماليّة، وهناك جبهة أولياء الأمور ومتطلّباتهم المتواصلة، وهناك ما يتعلّق بالمبنى المدرسيّ وملاحقه وخدماته وصيانته وأمنه وسلامته، وهناك ما يتعلّق بالانضباط الوظيفيّ وشؤون الموظّفين، وهناك شؤون الطلبة وخدماتهم وإشكاليّاتهم، وهناك ما يتعلّق بمتطلبات وزارة التربية والتعليم، وهناك العلاقة بالمدارس الأخرى، والسلسلة تكاد لا تُحصى.
وأذكر الآن أنّ تأمّلي في الممارسة المهنية حينها أخذ صيغة الاحتفاء بالإنجاز، فكلّما حقّقت إنجازًا في تذليل عقبة من العقبات، سجّلتها في سجلّ التأمّل بعنوان رنّان جذّاب، ودوّنت تحته المراحل التي مررت بها لعلاج العقبة حتى النهاية، وأذكر من هذه العناوين (كأنّه وليّ حميم، لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا، أنت موكّل بالسير لا بالوصول، مكانك اليوم هو حصيلة أفكارك أمس...).
وشاء قدر الله أن تكبر مسؤوليّتي وأتولّى إدارة مدرسة كاملة، وكان أعظم تحدّياتي في ظلّ هذه الظروف تحوّل علاقتي بزميلات الأمس، إذ أصبحت رئيستهنّ بين عشيّة وضحاها، فتغيّرت اعتبارات العلاقة بيني وبينهنّ، وكانت هيبة المنصب كبيرةً جدًّا في تلك المرحلة العمريّة فسألت أحد الأشخاص الذين أثق بهم: "هل أقدر؟" فكان الجواب: "بما أنّها جاءت من الله الآن، فهو يعرف أنّك تقدرين". يومها كتبت في سجلّ التأمّل الخاصّ بمديرة المدرسة عنوان كبير: التأمّل الأوّل: (اقتناعك بنفسك هو أقصر الطرق لإقناع الآخرين).
قد يبدو للقارئ في هذه المرحلة أنّ سجلّ التأمّل هو مجموعة حكم أو أقوال مأثورة تدوّن بصورة دوريّة، والحقيقية أنّ هذا السجلّ تطوّر في مرحلة إدارتي للمدرسة فأصبح سجلًّا يحوي مهمّات الشهر كاملة، ومراحل إنجازها، ومدى اكتمالها، والعقبات، والدروس المستفادة، حتى أنّ هذا السجل أصبح ثقافةً منتشرةً عند الموظّفات وإدارات الأقسام ونائبات المديرة للشؤون الأكاديميّة والشؤون الإداريّة كلّهنّ.
وأصبح هذا السجلّ أداةً للتخطيط الاستراتيجيّ، وأداةً لتقييم الأداء، وأداةً للتواصل الفعّال بين أعضاء الفريق نترقّبه كلّ شهر بفارغ الصبر.
وكان لي بوصفي مديرةً للمدرسة أداةً فاعلةً ساعدتني في قياس التوجّهات العامّة لآراء الموظّفين، وقياس حسّ المسؤوليّة المهنيّة، والثقافة المؤسّسية عند الفريق، ومدى التقدّم المحرَز تجاه الأهداف، ومدى الجهد المبذول في كلّ قسم من الأقسام التعليميّة، وماهيّة الثغرات ومناطق الضعف والتحدّيات التي تواجه الجميع، وأجمل ما كان فيه سرد قصص النجاح والاحتفاء بها.
ولم تتوقّف العجلة عن الدوران، فمضت بنا مشيئة الله إلى صرح مؤسّسة ذائعة الصيت رفيعة المستوى في موطني الغالي قطر، حيث مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وجاء انضمامي للمؤسّسة ضمن مبادرة لدعم اللغة العربية وتعزيزها، حيث شغلت منصب مدير المناهج العربيّة، وكانت هذه المناهج تشتمل على (اللغة العربيّة، التربية الإسلاميّة، تاريخ قطر).
وكان التأمل المهنيّ حينها رافد تعزيز لي في بيئة ثنائيّة اللغة يطغى عليها التعامل بلغة الآخر بحكم التعدّديّة الثقافيّة التي تعتمد التواصل باللغة الإنجليزيّة، وكنت أشعر بالغربة المكانيّة والغربة الثقافيّة في تلك الأثناء فكانت أفضلَ خطوة إيجابيّة ممكن القيام بها لمقاومة هذا الشعور الهادم التأمّل الذي قادني للتساؤل الذاتيّ العميق. كيف سأضيف إضافةً نوعيّةً مفيدةً لهذا المجتمع المستقلّ المنشغل بالعمل عن كلّ ما عداه، هل سأجد فرصةً في هذه البيئة سريعة الوتيرة؟
قادني التأمل المهنيّ حينها لتلمّس احتياجات بيئة العمل التي التحقت بها حديثًا، والذي يقع ضمن صلاحيّاتي وإمكاناتي، ومن ثمّ خلق مبادرات تركّز على ازدهار ما يسدّ تلك الاحتياجات.
وكان الاحتياج الأهم في هذه البيئة الحفاظ على هُويّة النشء القطريّ سليمةً نقيّة دون عزلة عن الآخر، إذ هي بيئة متنوّعة الثقافات تحوي جنسيّات من كلّ أقطار الدنيا دون عنصريّة أو تزمّت، فكان أن ترأّست لجنةً لإحياء عناصر التراث السمح الذي قامت على مرتكزاته الهويّة القَطريّة، ولإعداد منهج مدرسيّ متكامل بمادّة ثريّة من عناصر التراث الرباعيّة (الحكاية الشعبيّة، المهن الشعبيّة، اللباس الشعبيّ ومكوّناته، الفنون الشعبيّة).
والآن، بعد مرور ما يقارب التسع سنوات على انطلاقة المشروع أرصد اكتماله في ثوب رائع، إذ يعدّ من أهمّ الإنجازات الوطنيّة في مجال المناهج المعزّزة لرؤية قطر ٢٠٣٠.
وتغادر السفينة من جديد وتحطّ مراسيها عند شاطئ عطاء آخر يتمثّل في أكاديميّة لتدريب المربّيات، ذلك المشروع الفريد من نوعه في الوطن العربيّ كلّه، ومن جديد أجد ترجمةً حقيقيّةً لمقولة حفظتها (إنّك حين تبدأ لا تدري أين تنتهي!).
تتمثّل فرادة هذا المشروع بفكرة أطلقتها سموّ الشيخة موزا بنت ناصر، التي أدركت بفطنتها التهديد الكامن وراء الاستعانة بالمربّيات الأجنبيّات على هُويّة الطفل المتمثّلة في دينه ولغته. فطمحت إلى إيجاد بديل آمن للمربّية الأجنبيّة بتوفير مربيّة تتحدث العربيّة وتدين بالإسلام وتحمل مؤهّلات علميّة عالية، وتساعد الأمّ القطريّة العاملة في تنشئة أطفالها تنشئةً تربويّةً متكاملةً لإعداد جيل سليم قويّ يسهم في دفع عجلة التنمية إلى مساحات تقدميّة شاسعة المدى.
عملت ثماني سنوات في إدارة هذا المشروع مع كوكبة من التربويّات والقياديّات القديرات، وتعلّمت منهنّ دروسًا عظيمة، وتعلّمن منّي فلسفة التأمّل في الممارسة المهنيّة حتّى أصبحت ثقافةً مؤسّسيةً شائعةً تجري على ألسنتنا في بيئة العمل كأحد المصطلحات المتخصّصة التي يفهمها أصحاب المهنة الواحدة.
كانت بيئة العمل الجديدة هذه تحمل تحدّيًا عظيمًا للموظّفين جميعًا، فطبيعة عملها فريدة ولم يكن لها مثلٌ تقتدي به أو تقتبس منه طريقةً موثّقةً لأداء الأعمال، وكان لزامًا علينا أن نبدأ من الصفر في وضع قوانين وسياسات وإجراءات للعمل، وأن نعقد علاقات متعدّدة مع إدارات وهيئات مختلفة في الدولة لتسيير الأعمال غير المسبوقة.
وكان التحدّي الكبير الذي يواجهنا آنذاك أنّنا أكاديميّة غير معروفة غريبة النشاط في المجتمع مما يعطّل جميع معاملاتنا.
ولعب التأمّل المهنيّ دوره مرّة أخرى، وكان بمثابة البحث الإجرائيّ هذه المرّة، فكلّما واجهت الفريقَ عقبةٌ اجتهد في وصفها وصفًا دقيقًا، ووضَع الفرضيّات والحلول، وبدأ بتجربة أكثر البدائل واقعيّةً حتّى يصل إلى النتيجة المأمولة أو المعقولة على أقلّ تقدير.
وكان دوري في هذه المرحلة دور الملهم الموجّه الميسّر، ثمّ المعزّز.
وأصدقكم القول لقد نجحت هذه الطريقة أيّما نجاح مع فريق العمل القدير. فقد امتلأ بالثقة بالنفس وأصبح مع الوقت يتحلّى باعتماديّة عالية أمدّته بقدرة دؤوبة على معالجة كلّ ما يعترضه من صعاب، ثم يحتفي بإنجازه من خلال تدوين سجلّات تأمّله الذاتيّ وتبادله بكلّ اعتزاز.
لقد أصبحت سجلّات التأمّل عند موظّفي الأكاديميّة بمثابة دروس مستفادة تُتبادل بين الموظّفين لنقل الخبرة وتلقّيها.
كما أصبحت أداةَ الموظّف لرصد محطّات إنجازه طول مدّة خدمته المهنيّة.
والآن جاء دورك أيها القارئ العزيز... هل تعتقد أنّ تدوين تأمّلاتك المهنيّة سيحدث فرقًا في أدائك وممارساتك المهنيّة؟