تُعدّ التربية السليمة من أكبر التحدّيات التي يواجهها الآباء والأمّهات، فهي رحلةٌ مليئةٌ بالفرح، والإحباط، والحبّ، والتعلّم، يكمن الغرض الأساسيّ منها في تنشئة أطفالٍ يتمتّعون بالسعادة، والمرونة، والقدرة على التكيف. تمثّل السنوات الأولى في حياة الطفل الفترة الأكثر حيويّةً وتشكيلًا لشخصيّته، يكون محاطًا خلالها بكلّ أنواع المؤثّرات. لهذا، تعدّ تهيئة البيئة المناسبة والاهتمام بالتربية السليمة، سببًا رئيسًا في نجاح الطفل وقدرته على الصمود.
تعتمد نتائج التربية السليمة للطفل منذ الولادة، على قدرة العائلة على إدارة احتياجاته وتوجيهه منذ اللحظة الأولى، إلى أن يصبح قادرًا على القيام بدوره في المجتمع بشكلٍ مستقلّ. كما تقع على عاتق مقدّمي الرعاية الأوّليّة مسؤوليّة تقديم رعايةٍ إيجابيّةٍ للصغار، تسهم في تطوّرهم الجسديّ والنفسيّ السليم.
ما التربية السليمة؟
تتمحور التربية السليمة حول نهجٍ يعزّز الاحترام المتبادل، ويشجّع على بناء بيئةٍ تقدّر الطفل وتحتويه وتستمع إليه. يسهم هذا النهج في تطوير طفولةٍ صحيّةٍ، مبنيّةٍ على التفاهم والتعاطف، ووضع حدودٍ واضحةٍ ومتّسقةٍ في الوقت ذاته، خلافًا للتربية التقليديّة التي تقوم على القواعد الصارمة والعقاب. فالتربية الحديثة السليمة تهدف إلى تعزيز الرفاهيّة العاطفيّة للطفل، ومساعدته في تطوير مهارات الانضباط الذاتيّ، وحلّ المشكلات، والشعور بالمسؤوليّة.
ما أسس التربية السليمة؟
هناك العديد من النصائح التي يمكن للآباء والأمّهات الجدد اتّباعها، من أجل تربيةٍ سليمةٍ لأطفالهم:
- تعزيز احترام الذات لدى الطفل:
يبدأ الطفل في تطوير إحساسه بنفسه كما يراها في عيون والديه. في هذه المرحلة كلّ شيءٍ ذو أهمّيّةٍ بالغةٍ أثناء التعامل مع الطفل: نبرة الصوت، ولغة الجسد، والتصرّفات. لذلك، يجب أن تكون جميع سلوكيّات الوالدَين مدروسةً وإيجابيّةً، فمثلًا عليهما الإشادة بإنجازاته مهما كانت بسيطةً، لأنّ هذا يشعره بالفخر. كما عليهما أن يسمحا له بفعل الأشياء بشكلٍ مستقلٍّ، فيشعر بالقدرة والقوّة. وعليهما أيضًا ألّا يستخدما معه الكلمات المحبِطة، وألّا يقارناه بأطفالٍ آخرين، فهذا يؤذيه بقدر ما يؤذيه الضرب الجسديّ. ومن الضروريّ أيضًا أن يتعاطفا مع طفلهما عندما يخطئ، وأن يعزّزا لديه ثقافة الاعتذار.
- وضع قواعد انضباطٍ وروتين منتظم:
يساعد الانضباط الطفل في اختيار السلوكيّات المقبولة، ويعلّمه ضبط النفس، والنموّ ليصبح بالغًا مسؤولًا. يمكن تعليم الطفل الانضباط، وتأسيس روتينٍ يوميٍّ باستخدام قواعد بسيطةٍ، مثل تأجيل مشاهدته التلفاز إلى حين انتهائه من الواجبات المنزليّة، والتأكيد على غسل يديه قبل الأكل، وتنظيف أسنانه، وترتيب سريره عند الاستيقاظ، وتناول الغداء بمجرّد العودة من المدرسة. ينبغي أن يكون الروتين اليوميّ متوازنًا، وألّا يكون صارمًا، فلا يحقّق النتائج المرجوّة.
- تجنّب العقاب:
يستخدم الكثير من الآباء والأمّهات أنواعًا مختلفةً من العقاب، مثل العقاب البدنيّ (الضرب)، واللفظيّ (الشتائم والصراخ)، والنفسيّ (تجاهل الطفل وإهماله)، من دون أن يدركوا الآثار النفسيّة السلبيّة لمثل هذه الأفعال. يمكن للعقاب أن يتسبّب في تشوّهاتٍ نفسيّةٍ وانحرافاتٍ سلوكيّةٍ لدى الطفل، وأن يجعل منه انتقاميًّا، أو سلبيًّا، أو متمرّدًا.
من الأفضل ربط أفعال الطفل بعواقب مناسبةٍ، فمثلًا إذا كان يحافظ على ألعابه، يمكن للوالدَين السماح له بالاحتفاظ بها، أمّا إذا كسرها، فيمكنهما حرمانه منها. من الضروريّ أيضًا التمييز بين العقاب والمكافأة؛ إذ أظهرت الدراسات أنّ تعويد الطفل على المكافأة، يفقده الحافز على القيام بالأنشطة التي يحصل بسببها على المكافأة، ما يجعل تأثيرها قصير الأمد. في المقابل، عندما يتعلّم الطفل ربط السبب (سلوكه) بالنتيجة (ردّ فعل الوالدَين على سلوكه)، يصبح أكثر قدرةً على فهم السلوكيّات المرغوبة، وأكثر التزامًا بها بشكلٍ تلقائيّ.
- تخصيص وقتٍ للطفل:
يمكن أن يكون سلوك الطفل السيّئ ناتجًا عن عدم حصوله على الاهتمام الكافي. لا يحتاج الاهتمام بالطفل إلى جهد خاصّ، إذ يكفي أن يقضي معه والداه وقتًا بسيطًا، وأن يقوموا معًا بنشاطاتٍ عائليّةٍ، مثل تناول الفطور، أو المشي، أو صنع قالبٍ من الحلوى أو الفوشار، أو الاستماع إليه بعد عودته من المدرسة. هذه الأحداث الصغيرة يمكنها أن تدخل السرور إلى قلب الطفل، وتُشعره بالاهتمام والقيمة.
- تطوير التواصل:
حاجة الطفل إلى التواصل مع والدَيه حاجةٌ أساسيّةٌ ويوميّةٌ، تشجّعه على التعبير عن مشاعره وآرائه بحرّيّة. لا توجد طريقةٌ واحدةٌ صحيحةٌ للقيام بهذا التواصل، فيمكن للوالدَين أن يشركا الطفل في اتّخاذ القرارات، أو في إدارة مصروف البيت ولو ليومٍ واحدٍ، فهذا سيجعله أكثر حماسًا والتزامًا بتنفيذ التعليمات.
- توفير قدوةٍ حسنة:
على جميع الآباء والأمّهات أن يكونوا قدوةً حسنةً لأطفالهم، فالأطفال يراقبون ويتعلّمون من والدَيهم باستمرار. أظهرت الدراسات أنّ الأطفال الذين يضربون أقرانهم، عادةً ما يقلّدون نموذجًا من البيت، مثل الأب أو الأمّ. لهذا يجب أن يجسّد سلوك الآباء والأمّهات ما يريدون لأطفالهم أن يتعلّموه، وأن يتعاملوا مع أطفالهم بالاحترام، والودّ، والصدق، والتسامح، فأطفالهم سيفعلون مثلهم تمامًا.
- البعد عن المثاليّة ومعرفة احتياجاتك باعتبارك أبًا أو أمًّا:
من الضروريّ أن يدرك الآباء والأمّهات أنّهم ليسوا مثاليّين، وأنّهم لن يتمكّنوا من تلبية جميع احتياجات أطفالهم. كما عليهم ألّا يشعروا بالذنب في حال لم يتمكّنوا من منح أطفالهم كلّ ما يريدون، فالتوازن في العطاء يجعل الأطفال أكثر استعدادًا للحياة، وأقلّ قابليّةً للشعور بالإحباط.
ليتمكّن الآباء والأمّهات من القيام بمتطلّبات الحياة، عليهم أن يهتمّوا برفاهيّتهم الشخصيّة، من دون الشعور بالأنانيّة أو الذنب، فهذا مهمّ للحفاظ على قدرتهم في ممارسة أدوارهم بفعاليّة، وتحقيق التوازن بين أدوارهم العديدة.
***
لا تعني التربية السليمة أن يكون الطفل مثاليًّا، بل تعني توفير بيئةٍ داعمةٍ ومحفّزةٍ للنموّ السليم، تقوم على الدفء، والدعم، والاحترام، بيئةٍ تربّي أطفالًا واثقين بقدراتهم، ومجهّزين بالمهارات التي يحتاجون إليها لخوض تجربة الحياة.
المراجع
معصراني، لاريسّا. (2022). كيف تربّي أطفال؟ إليك أهمّ أساليب التربية الإيجابيّة غير المباشرة للأبناء. الجزيرة نت.
تطمين. ماهي مبادئ التربية السليمة؟
Promoting Early Development: Building a Strong Foundation. Zero To Three.
Numerous KidsHealth. Nine steps to more effective parenting.